عودة الكاظمي: الأمل الكاذب الذي لا يحتاجه العراق
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
آخر تحديث: 9 مارس 2025 - 10:46 صبقلم: ياسين فواز ربما بدا رجوع مصطفى الكاظمي إلى بغداد في 25 فبراير 2025 عودة ظافرة. لكن هذه الحقيقة أقرب إلى الوهم السياسي. حان الوقت لكي يُعيد أولئك الذين يأملون أن ينقذ الكاظمي العراق النظر في تصوراتهم لأن عودته التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة تمثل محاولة يائسة من نخبة سياسية منقسمة من أجل إحياء إستراتيجية فاشلة، وسوف تفشل مرة أخرى.
هُمّش الكاظمي لمدة عامين بعد أن استهدفت غارة بطائرة دون طيار منزله في عام 2021. وضمن أعداؤه السياسيون، بدعم من الدولة العميقة، انتهاء فترة ولايته بشكل مخز. وقررت الفصائل السياسية العراقية الآن إعادته بعد إزاحته في السابق. وتأمل أن يتمكن الكاظمي من إصلاح النظام السياسي العراقي المكسور وتحسين العلاقات مع واشنطن المعادية. لكن هذه الآمال لم تعد سليمة في عصر الرئيس الأميركي الحالي ترامب، ويمكن اعتبارها ساذجة. القضية لا تتعلق فقط بعدم أهمية الكاظمي سياسيا، بل لأن العراق الذي يعود إليه يعاني من تدهور عميق. وأصبح وضع العراق العالمي أكثر خطورة من أيّ وقت مضى. وتكافح حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للحفاظ على مصداقيتها في التعامل مع واشنطن أو المنطقة. وتتفاقم الفوضى السياسية بسبب الأزمة الاقتصادية المستمرة. ويأمل الإطار التنسيقي، الذي همّش الكاظمي سابقا، أن يتمكن الآن من إحياء علاقات العراق مع الولايات المتحدة واستعادة بعض الاستقرار. لكن من الواضح أن الكاظمي لم يكن أبدا مهندس استقرار العراق، وكانت السياسة الخارجية العراقية بلا بوصلة تحت قيادته، حيث كانت واشنطن وطهران تتحكمان في البلاد. وكان حارسا أكثر منه قائدا. وربما تكون إدارته قد حققت بعض النجاحات الدبلوماسية، لكن التحولات الإقليمية الكبرى كانت خارجة عن سيطرته. صعود الفساد يجسد صعود الكاظمي النظام الفاسد في العراق. وكانت الصورة التي أبرزته شخصية مؤيدة للغرب مصطنعة، باستغلال خلفيته كصحافي غير معروف. ولم يكن الغرض من هذه الصورة تحقيق إصلاح ذي معنى. وكانت تلك في الحقيقة خطوة محسوبة لكسب تأييد الغرب. وكان خطابه في مجال حقوق الإنسان ووعوده الديمقراطية أدوات اعتمدها لتأمين السلطة. وعندما أصبح رئيسا للمخابرات العراقية في 2016 لم يكن ذلك بسبب قيادته الحكيمة ولكن لأنه كان ماهرا في التعامل مع المشهد السياسي العراقي الممزق. وبحلول 2020، أي خلال الاحتجاجات واسعة النطاق، تقرر اختيار الكاظمي رئيسا للوزراء للحفاظ على الوضع القائم، حيث لم يكن الهدف تغييره. وأكدت فترة ولايته أنه من نفس النظام الفاسد الذي ادّعى أنه يعارضه. وأصبحت جهود مكافحة الفساد في العراق تحت قيادته أدوات للتمكين السياسي. وكشفت المداهمات الليلية التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة أواخر 2020، التي نفذتها لجنة الأمر الديواني رقم 29، المعروفة باسم لجنة “أبورغيف”، عن أولوياته الحقيقية. واستهدفت المداهمات التي قادها الفريق أحمد طه هاشم، المعروف باسم أبورغيف، شخصيات عامة ومسؤولين ورجال أعمال متهمين بالفساد. ومع ذلك، كان الواقع أكثر قتامة. واندثر الخط الفاصل بين التحقيقات المشروعة والثأر السياسي. وبدت الاعتقالات أحيانا مصممة للقضاء على المنافسين أكثر من محاربة الفساد، حيث يهدد بعض المعتقلين المرتبطين بفصائل الداعمين الرئيسيين للكاظمي، وخاصة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. وأشعلت سرية اللجنة والإجراءات القانونية الغامضة الشكوك مع تشويه نزاهة الحملة. وأصبحت ادعاءات التعذيب والعنف الجنسي والاعتقال التعسفي شائعة. وتحوّل ما كان من المفترض أن يكون معركة ضد الفساد إلى أداة للسيطرة السياسية، مع تبني قوات الأمن العراقية الأساليب الوحشية. وشهد العراق بذلك إحياء الانتهاكات التي وعد الكاظمي بإنهائها تحت إشرافه. وأصبح المشهد واضحا، حيث لم يكن رئيس مجلس الوزراء يقود حركة إصلاحية بل يلعب نفس اللعبة القديمة. وتدهور الوضع عندما بدا أن الأمور لا يمكن أن تسوء أكثر. وفشل الكاظمي في معالجة أخطر الجرائم المالية في العراق. وشهدت البلاد تحت قيادته واحدة من أكبر عمليات السرقة، حيث اختفى مبلغ 2.5 مليار دولار. وأطلق على هذه الحادثة اسم “سرقة القرن”، حيث كان حجمها كبيرا، وكشفت عن تواطؤ النظام الذي وعد الكاظمي بإصلاحه. وكشف هذا الاختلاس الضخم، الذي سهّلته شركات وهمية وشارك في تغطيته مسؤولون رفيعو المستوى، عن الفساد الذي ادعى الكاظمي أنه يحاربه. ومهد إلغاء عملية تدقيق حسابات لجنة الضرائب، التي أذن بها مسؤولون مقربون من إدارته، الطريق لسرقة المليارات من عائدات الضرائب. وبرز اسم علي علاوي المتمتع بامتيازات سياسية. وتخرّج علاوي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وحصل على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير المالية في عهد الكاظمي. وعلى الرغم من هذه المسيرة، إلا أن الفترة التي قضاها في السلطة اتسمت بسوء الإدارة المالية. وبصفته وزيرا للمالية، كان علاوي مسؤولا عن حماية الموارد المالية العراقية. ولكن سرقة 2.5 مليار دولار حدثت تحت إشرافه، مما كشف عن الفساد الذي كان من المفترض أن يتصدى له. وتشير استقالته قبل انتشار الفضيحة كاملة إلى أنه كان يعرف ما سيأتي وقرّر حماية نفسه. مكّنت علاقاته بالنخبة العراقية من حمايته من المساءلة. وسمح له دوره في إدارة الشؤون المالية العراقية وعلاقاته السياسية بتجنب الاتهامات. وفي نظام تحمي فيه السلطة نفسها، تظهر حصانة علاوي أن النظام القضائي العراقي مصمم للسماح للأقوياء بالإفلات من العقاب بينما يعاني عامة الناس. وبينما شملت لائحة الاتهام آخرين أو حكم عليهم غيابيا، بقي علاوي سليما، مما يثبت أن الفساد في العراق متجذر ومحمي. وتبدو محاكمة المسؤولين من المستوى المتوسط محاولة لصرف الأنظار عن الجناة الفعليين. وبينما تقرر معاقبة المسؤولين ذوي الرتب الأدنى، لا تزال شخصيات قوية تتهرب من العدالة. ويؤكد هذا النظام المعيب أنه يحمي النخب على حساب تحقيق العدالة.وتعد سرقة 2.5 مليار دولار مثالا آخر على تاريخ الفساد الطويل في العراق، فهي تجسّد قضية أعمق داخل النظامين السياسي والقضائي اللذين يحميان الأقوياء بينما يهمشان الباقين. ولا تعالج المحاكمات العلنية والأحكام الصادرة بحق المسؤولين من المستوى الأدنى أسباب الفساد الجذرية أو تحاسب النخبة. وأصبحت ثقافة الإفلات من العقاب واضحة للشعب الذي يتزايد إحباطه. وتلقّى مسؤولون من مصلحة الضرائب أحكاما بالسجن، في حين أفلت مهندسو السرقة من العدالة، وكشفوا عن نظام مصمّم لحماية من هم في القمة. وليس هذا نظاما يسعى إلى تحقيق العدالة، فهو يحمي الأقوياء، حتى عندما تكون جرائمهم كبيرة مثل سرقة 2.5 مليار دولار.وإذا لم يصلح العراق نظامه السياسي والقضائي فستستمر هذه الفضائح. وسيفلت الأقوياء من العدالة، وسيعاني الشعب، وسيستمر الفساد. ولن تسود العدالة الحقيقية إلا عندما يواجه العراق فساده المتجذر ويحاسب من هم في السلطة على ما اقترفوه وعلى ما سيخلّف إجرامهم مستقبلا. وفي النهاية، كان الكاظمي أداة لإيران وحلفائها في بغداد. ووصل إلى السلطة لخداع الولايات المتحدة والقوى الغربية. وكانت صورته المصقولة التي برز من خلالها صديقا للغرب مجرد واجهة. وكان الكاظمي مجرّد دمية تخدم مصالح أولئك الذين يحركون خيوطها، فما الذي يستطيع أن يفعله الآن؟ ترى النخبة السياسية العراقية أن قيمته تكمن في قدرته على سحر واشنطن وإحياء العلاقات مع وسطاء السلطة الأميركيين. ولكن تحول المشهد السياسي في واشنطن يعني أن صيغة الكاظمي السابقة للتوازن بين الولايات المتحدة وإيران لن تكون مناسبة. ولا يعتبر فريق ترامب العراق حليفا، ولا الكاظمي شريكا موثوقا به. وأصبحت فكرة العودة إلى الوضع القائم القديم غير واقعية وتجاوزها الزمن.وشهدت الفترة التي سبقت عودة الكاظمي كشف تقرير مفاجئ أن العراق خسر قدرته على التعامل بفاعلية مع واشنطن وشركائها الإقليميين. وترك رحيل الشخصيات الديمقراطية الرئيسية من وزارة الخارجية الأميركية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني غير قادر على العثور على مسؤولين جمهوريين مستعدين للانخراط معه. وفشل الفريق المكلف بإحياء العلاقات مع إدارة ترامب في إقامة اتصالات موثوقة، باستثناء الاجتماعات الاحتفالية مع المسؤولين غير المهتمين.وكانت “خسارة الاتصال” بارزة خلال فبراير حين حضر السوداني مؤتمر ميونيخ الأمني دون تأمين أيّ محادثات مهمة مع كبار المسؤولين الأميركيين، بما في ذلك نائب الرئيس جي دي فانس. عامل ترامب تأتي عودة الكاظمي خلال فترة صعبة. ومع رجوع دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ترتفع المخاطر بالنسبة إلى العراق. واتسمت سياسة ترامب الخارجية بالتشكيك في التحالفات التقليدية وتفضيل العمل أحادي الجانب. ولن تحابي إدارته بغداد. ومن غير المرجح أن تمنح الولايات المتحدة للعراق في عهد ترامب راحة من أزماته الاقتصادية والجيوسياسية. وليست إدارة ترامب الثانية مهتمة بالتعامل مع نظام سياسي عراقي متشابك مع إيران. أما فكرة كون الكاظمي يُشكّل حاجزا بين واشنطن وطهران، فهي مثيرة للضحك.وتميز ماضي الكاظمي كرجل دولة ورئيس سابق للمخابرات بحذقه لعبة التوازن، حيث نجح في الحفاظ على مسافة حذرة من الولايات المتحدة مع إبقاء إيران راضية عنه في نفس الوقت. لكن إدارة ترامب لن تتسامح مع لعبة التوازن هذه. ولن ينخدع فريق ترامب، المعروف بموقفه المتشدد تجاه إيران وازدرائه لوكلائها العراقيين، بوسيط كان منخرطا سابقا في اللعب على كلا الطرفين. وليست فكرة أن الكاظمي قادر على إحياء العلاقة المعدومة مع واشنطن واقعية ويمكن أن تؤدي إلى اعتماد حسابات خاطئة ذات عواقب وخيمة. ستفشل محاولات الكاظمي لإحياء علاقة العراق مع أميركا. ولا يمكن استرضاء إدارة ترامب بوعود الاستقرار السياسي أو الإشارات التصالحية من زعيم لا يبدو منتميا للنظام الإقليمي الجديد. وقد تراجعت قدرة العراق على التعامل الفعال مع واشنطن بسبب الإخفاقات السياسية التي تكبدها الكاظمي ومحمد شياع السوداني. ويغرق العراق في الفساد والسياسة الطائفية والميليشيات المدعومة من إيران، إضافة إلى معاناته من تعثر اقتصاده. ولا يحفز هذا الولايات المتحدة على التعامل مع بغداد.وعاد الكاظمي بينما يواجه العراق حسابات صعبة مع صعود ترامب من جديد. وسيجد العراق اليوم نفسه مضطرا للاختيار، فإما أن يبتعد عن إيران أو يواجه العواقب. وستكون الميليشيات المدعومة من إيران في العراق نقطة مهمة عند اتخاذ القرار. وتبرز ولاية ترامب الأولى أنه على استعداد لاتخاذ إجراءات حاسمة للقضاء على التهديدات التي يواجهها الأمن الأميركي. ولم تنس إيران ووكلاؤها العراقيون مقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس خارج مطار بغداد في يناير 2020. وكانت تلك ضربة وافق عليها ترامب. وكان سليماني، الذي اعتُبر ذات يوم مهندس النفوذ الإقليمي الإيراني، هو العمود الفقري الذي أبقى القوات الوكيلة لطهران متماشية مع مصالح بلاده. ويؤكد اغتياله أن الشخصيات الأكثر حماية في إيران لم تكن محصنة من الضربات الأميركية.وخلق اغتيال سليماني فجوة كبيرة في هيكل النفوذ في إيران، وأرسل رسالة واضحة إلى الميليشيات المدعومة من طهران في العراق، مؤكدة لها أن الولايات المتحدة مستعدة لاتخاذ إجراءات حاسمة. وأثبتت الولايات المتحدة قدرتها على توجيه الضربات بدقة بدرجة غير مسبوقة. وأصبح يتعين على الميليشيات العراقية أن تواجه الواقع القاسي المتمثل في أنها قد تكون التالية. ومع ذلك، فإن التهديدات التي تواجهها الميليشيات العراقية تمتد إلى ما هو أبعد من العمل العسكري الأميركي. وقد أدت عمليات القتل الإسرائيلية التي استهدفت قادة حزب الله، بما في ذلك اغتيال زعيمها البارز حسن نصرالله، إلى تعزيز التنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ومن خلال القضاء المنهجي على أهم قادة جماعات المقاومة المتحالفة مع إيران (كان يُعتقد في السابق أنه لا يمكن المساس بها)، قدمت إسرائيل نموذجا من المرجح أن تكرّره واشنطن في العراق.وتكشف الهجمات الإسرائيلية الأخيرة ضد قيادة حزب الله مدى ضعف وكلاء إيران الإقليميين عندما يواجهون حملة عسكرية جيدة التنسيق. وتعدّ هذه الضربات تذكيرا بأن مثل هذه الجماعات ليست محصنة، وأنها مسألة وقت فقط قبل تطبيق هذا النهج على الميليشيات العراقية التي عمل العديد منها لفترة طويلة بنفس الشعور بالحصانة الذي كان يتمتع به حزب الله ذات يوم. وشكلت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق تحديا كبيرا للمصالح الأميركية في المنطقة لسنوات. ورغم أن هذه الجماعات ليست قوية مثل حزب الله، إلا أنها تظل خطيرة بنفس القدر. والآن، مع ضعف نفوذ حزب الله إلى حد كبير، أصبحت الميليشيات العراقية (التي تفتقر إلى الانضباط والتنسيق العملياتي) أكثر عرضة للتفكيك.وعلى النقيض من قيادة حزب الله التي ظلت لفترة طويلة تحمي نفسها في مخابئ شديدة التحصين تحت الأرض (كما كان نصرالله ومساعدوه)، لا يتمتع قادة الميليشيات العراقية بنفس المستوى من الأمن. ويتحركون بشكل أكثر انفتاحا، ما يجعلهم أهدافا أسهل. وإذا نجحت واشنطن وتل أبيب في مواءمة إستراتيجياتهما لتحييد هذه الجماعات، فإن العملية ستكون فعالة ومباشرة. وأصبحت المخاطر بالنسبة إلى الميليشيات العراقية غير مسبوقة. واستغلت عدم الاستقرار داخل الهياكل السياسية والعسكرية في العراق لممارسة أنشطتها دون عواقب تذكر لفترة طويلة. لكنها تواجه الآن جهدا أكثر تنظيما من الولايات المتحدة وإسرائيل الهادفتين إلى تدميرها. وإذا رفضت هذه الجماعات إلقاء أسلحتها، فإنها تخاطر بالإبادة الكاملة. والرسالة واضحة، الولايات المتحدة وإسرائيل عازمتان على تفكيك نفوذ إيران، وقد تجد الميليشيات العراقية نفسها قريبا في خط النار مباشرة.ولم يعد السؤال ما إذا كان سيتم استهداف هذه الميليشيات، بل متى. وعندما تأتي الضربات، فإنها ستكون سريعة ولا ترحم. ولم تعد الولايات المتحدة وإسرائيل تتصرفان بشكل منفصل. ولجهودهما المشتركة القدرة على شل البنية التحتية التي تعتمدها الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، مما يترك هذه الجماعات بلا مجال كبير للمناورة. يقترب عصر نشاط الميليشيات غير الخاضع للرقابة من نهايته. وأوضحت الولايات المتحدة وإسرائيل أنهما ستواجهان وكلاء إيران أينما كانوا، ولن تكون الميليشيات العراقية استثناءً. وإذا استمرت هذه الفصائل في استفزاز المصالح الأميركية والإسرائيلية، فإنها ستجد نفسها حتما في صراع عنيف دون طريق للهروب. وتحت قيادة ترامب، لن يُسمح للعراق بعد الآن بالموازنة بين الولايات المتحدة وإيران. وتركز واشنطن بشكل منفرد على القضاء على نفوذ طهران في المنطقة، حيث تعد الميليشيات العراقية من بين أهدافها الرئيسية. وأصبح دور الكاظمي غير حيوي بعد أن كان يُنظر إليه على أنه جسر محتمل لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق.ولم تعد الولايات المتحدة مهتمة بالمفاوضات الدبلوماسية الدقيقة أو التسوية. وأصبح العراق على نحو متزايد ساحة معركة رئيسية في الصراع الأوسع بين الولايات المتحدة وإيران، وأصبحت إستراتيجية الكاظمي السابقة المتمثلة في تحقيق التوازن بين القوتين من الماضي. ومن غير المرجح أن تنجح محاولاته لاستعادة مكانة العراق لدى واشنطن في هذه البيئة الجيوسياسية المتغيرة.ولا يوجد حل دبلوماسي أو مناورة إستراتيجية يمكنها أن تحمي العراق من الصراع القادم. ولا تمثل عودة الكاظمي إلى بغداد إحياء للسياسة الخارجية العراقية، بل هي جهد يائس لإنقاذ النفوذ الضئيل الذي لا يزال يتمتع به الإطار التنسيقي في المنطقة التي تجاوزت تكتيكاتها القديمة. أسطورة “القبة الفولاذية” يعتقد البعض أن عودة الكاظمي ستكون ضمانة ضد التهديدات الخارجية، ولاسيما خطر العقوبات الأميركية في ظل إدارة ترامب. وقد روّج الكثيرون داخل النخبة السياسية العراقية لهذه الفكرة، وصوروا الكاظمي على أنه “قبة فولاذية” وقائية قادرة على صرف الضغوط الأميركية. لكن الواقع أقل طمأنة بكثير. ولا يقدم وجود الكاظمي أيّ دفاع حقيقي. إن فكرة أنه وحده القادر على منع العقوبات أو تغيير نهج واشنطن تجاه العراق تبقى غير واقعية.والكاظمي، رغم خلفيته الدبلوماسية، يفتقر إلى القوة السياسية اللازمة لإدارة العلاقة المتقلبة بشكل متزايد بين العراق والولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب العائدة إلى المشهد الدولي. وتبقى القيادة الأميركية الحالية غير مهتمة بالحفاظ على المظاهر أو الانخراط في المفاوضات الدبلوماسية. وإذا واصل العراق مساره الحالي، فسوف تصبح العقوبات والتدخل العسكري تهديدات خطيرة، لا يمكن لسحر الكاظمي وتحالفاته السابقة التخفيف منها. وتسلط عودة الكاظمي الضوء على سوء تقدير آخر من جانب الطبقة السياسية العراقية التي لا تزال منفصلة عن الديناميكيات المتطورة في المنطقة. وفشل الإطار التنسيقي، الذي يسعى الآن للاستفادة منه، في فهم التحولات الأساسية التي تحدث في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وتشهد المنطقة تحولا سريعا، لكن النخبة السياسية في العراق تظل تركز اهتمامها على إستراتيجيات عفا عليها الزمن، وتبحث عن الزعامة القادرة على عكس اتجاه انحدارها.ورغم أن الكاظمي لعب ذات مرة دورا قياديا خلال فترة هادئة نسبيا في العراق، إلا أن تلك الحقبة قد انتهت. ولا ينتظر الشرق الأوسط العراق ليلحق بركبه. ويفرض المشهد السياسي المتغير (الذي يتسم بتطور واقع ما بعد الأسد في سوريا، والانهيار المستمر في لبنان، وظهور تحالفات جديدة في جميع أنحاء العالم العربي) تحديات ليس الكاظمي مستعدا للتعامل معها.وستفشل محاولاته لتصوير نفسه على أنه شريك موثوق للولايات المتحدة أو لدمج العراق في الشبكات السياسية الإقليمية في نهاية المطاف. لقد انتهى دوره. وليست عودته إلى بغداد علامة قوة، بل هي نتاج اليأس السياسي في نظام منقسم تنفد بدائله.وتبقى جاذبية الكاظمي لدى واشنطن ضعيفة، ويفتقر إلى القدرة على الإبحار في العراق عبر الأزمة الجيوسياسية المتفاقمة. ولا يتوقف مستقبل البلاد على زعيم أثبت فشله بالفعل، بل على جيل جديد قادر على التكيف مع الحقائق المتغيرة في الشرق الأوسط. ولن ينقذ الكاظمي العراق، فهو مجرد شخصية مؤقتة داخل نظام سياسي يتجه نحو طريق مسدود.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: المیلیشیات المدعومة من إیران الولایات المتحدة وإسرائیل بین الولایات المتحدة المیلیشیات العراقیة السیاسیة العراقیة هذه الجماعات عودة الکاظمی إدارة ترامب ملیار دولار فی المنطقة التعامل مع مع واشنطن فی العراق حزب الله لا یمکن لم یکن
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع الناتو البقاء بدون الولايات المتحدة؟
تواجه أوروبا واقعاً صارخاً جديداً يتمثل في احتمالية أن الولايات المتحدة، التي كانت لعقود العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، التحالف الذي ضمن أمن القارة لنحو 80 عاماً، لم تعد شريكاً مضموناً في الأمن الأوروبي.
وأظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عداءً علنياً للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كما أبدى ميلاً للتقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأثارت تصريحاته الأخيرة التي شككت في التزامه بالدفاع عن حلفاء الناتو "إذا لم يدفعوا"، مخاوف بين القادة الأوروبيين بشأن مدى موثوقية الولايات المتحدة كشريك أمني، في وقت تعاني فيه القارة من أكبر صراع مسلح منذ الأربعينيات، وفقاً لتقرير لشبكة "سي إن إن" الأمريكية.
وأضافت الشبكة الأمريكية، نقلاً عن محللين، أن "حلف الناتو بدون الولايات المتحدة ليس عاجزاً على الإطلاق، مع امتلاكه لأكثر من مليون جندي وأسلحة حديثة من الدول الـ31 الأخرى الأعضاء في الحلف، كما أن الحلف لديه الثروة والمعرفة التكنولوجية اللازمة للدفاع عن نفسه بدون الولايات المتحدة".
Can NATO survive without the United States?https://t.co/unif5NWn2d
— Fernando Munoz (@FerMunozM) March 7, 2025وتعتبر الولايات المتحدة وألمانيا هما أكبر المساهمين في ميزانية الناتو العسكرية وميزانيته المدنية وبرنامج الاستثمار الأمني، بنحو 16% لكل منهما، تليها المملكة المتحدة بنسبة 11% وفرنسا بنسبة 10%، بحسب وثيقة صادرة عن حلف الناتو.
ويقول المحللون، وفق ما نقلته "سي إن إن": إن "تعويض أوروبا عن خسارة مساهمة واشنطن لن يستغرق الكثير من الجهد".
وقال بن شراير، المدير التنفيذي لأوروبا في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، في مكالمة عبر تطبيق زووم مع شبكة "سي إن إن" وصحافيين آخرين في أواخر فبراير (شباط)، إنه إذا اتحدت الدول الأوروبية واشترت المعدات المناسبة، فإن أوروبا "يمكن أن تشكل رادعاً تقليدياً ونووياً خطيراً" لروسيا.
وأضاف شراير: "أوروبا وحدها ما زالت تمتلك القدرة على حشد الموارد التي تحتاجها للدفاع عن نفسها، والسؤال هو فقط ما إذا كانت راغبة في ذلك" .
وبحسب التقرير، هذا هو السؤال الرئيسي. فعلى مدى أكثر من 75 عاماً، وعلى مدار إدارات 14 رئيساً أمريكياً مختلفاً، بما في ذلك إدارة ترامب الأولى، كانت الولايات المتحدة هي العصب الذي حافظ على تماسك الحلف.
خلال الحرب الباردة، كانت القوات الأمريكية في القارة رادعة لأي طموحات سوفييتية لتوسيع حلف وارسو، وفي نهاية المطاف شهدت نهايته عندما سقط جدار برلين في عام 1989. وكانت حملات حلف شمال الأطلسي في البلقان في التسعينيات تُجرى بقوات أمريكية وقوة جوية. وحتى تولي إدارة ترامب الثانية السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي، كانت واشنطن تقود المساعدات لأوكرانيا.
ويقول المحللون إن "عقود التضامن عبر الأطلسي ربما وصلت إلى نهايتها في الأيام الأخيرة".
وقال دان فرايد مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق لشؤون أوروبا والباحث بالمجلس الأطلسي إن الخلاف بين ترامب وزيلينسكي في المكتب البيضاوي، الذي أدى إلى توقف المساعدات الأمريكية لكييف، بدا وكأنه "قطيعة أعمق، ليس فقط مع أوكرانيا، ولكن مع استراتيجية الولايات المتحدة (العالم الحر) من ترومان إلى ريغان".
ويرى جون لوف، المسؤول السابق في حلف شمال الأطلسي والذي يعمل الآن زميلًا مشاركاً في مؤسسة تشاتام هاوس البحثية في لندن، انقساماً أكثر عمقاً في الحلف.
وقال لوف لشبكة "سي إن إن": "يبدو ببساطة أن الولايات المتحدة تنظر إلى أوروبا كمنافس أكثر منها حليفًا"، مضيفاً أنه بسبب ذلك فإن التزام واشنطن بالدفاع عن حلفاء الناتو أصبح موضع شك إلى حد ما.
ويرى لوف أنه "كسر غير قابل للإصلاح". وقال لوف: "بمجرد أن تبدأ في فقدان جزء من هذا الالتزام، فإنك تفقده كله فعلياً".
وأضاف أن بعض الأشخاص في الدوائر الأوروبية بدأوا يتساءلون عما إذا كان ينبغي وصف واشنطن "بأنها عدو في بعض النواحي".
ولكن بعض المحللين يقولون إن "وجود حلف شمال الأطلسي بدون الولايات المتحدة ليس فكرة سيئة".
وكتب موريتز جرايفراث، محلل الأمن والسياسة الخارجية بمعهد ويليام وماري للأبحاث العالمية، في كتاب "الحرب على الصخور" العام الماضي، أنه "بمجرد أن يقتنع حلفاء الولايات المتحدة بأنهم لم يعد بإمكانهم الثقة في قدرات الولايات المتحدة للدفاع عنهم عندما يحين الوقت المناسب، فسوف يسارعون إلى تعويض النقص والعمل على تنمية قدراتهم الخاصة".
وأضاف "وبهذا الوضع ــ وربما على نحو يخالف التوقعات ــ فإن انسحاب القوات الأمريكية من شأنه أن يخلق أوروبا أقوى، وليس أضعف".
ويعتقد دونالد توسك رئيس وزراء بولندا، العضو في حلف شمال الأطلسي، أن هذه العملية بدأت بالفعل.
وقال قبل قمة الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع: "إن أوروبا ككل قادرة حقا على الفوز في أي مواجهة عسكرية أو مالية أو اقتصادية مع روسيا، نحن ببساطة أقوى". وأضاف: "كان علينا فقط أن نبدأ في الإيمان بذلك. ويبدو أن هذا يحدث اليوم".
ماذا تمتلك أوروبا؟من الناحية النظرية، قد يكون الجيش الأوروبي قوة هائلة.
تمتلك تركيا أكبر قوات مسلحة في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة، حيث يبلغ تعدادها العسكري 355.200 فرد، وفقاً لتقرير التوازن العسكري لعام 2025 الذي أعده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. تليها فرنسا (202.200)، وألمانيا (179.850)، وبولندا (164.100)، وإيطاليا (161.850)، والمملكة المتحدة (141.100)، واليونان (132.000)، وإسبانيا (122.200).
كما تمتلك تركيا أكبر عدد من أفراد الجيش، الذين يشكلون غالبية القوات البرية في الخطوط الأمامية، بواقع 260.200، تليها فرنسا (113.800)، وإيطاليا (94.000)، واليونان (93.000)، وبولندا (90.600)، والمملكة المتحدة (78.800)، وإسبانيا (70.200)، وألمانيا (60.650)، بحسب تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
في المقابل، كان هناك حوالي 80 ألف جندي أمريكي مخصصين أو منتشرين في قواعد في دول حلف شمال الأطلسي اعتبارًا من يونيو (حزيران) 2024، وفقاً لتقرير صادر في يوليو (تموز) 2024 عن دائرة أبحاث الكونغرس (CRS)، ومعظم تلك القوات الأمريكية موجودة في ألمانيا (35 ألف جندي)، وإيطاليا (12 ألف جندي)، والمملكة المتحدة (10 آلاف جندي).
كما أن بعض الدول الكبرى في حلف شمال الأطلسي (الناتو) تمتلك أسلحة مساوية أو أفضل بعدة مرات من الأسلحة التي تمتلكها روسيا.
ولنتأمل هنا حاملات الطائرات على سبيل المثال. ففي حين تمتلك روسيا حاملة طائرات قديمة واحدة، تمتلك المملكة المتحدة وحدها حاملتي طائرات حديثتين قادرتين على إطلاق مقاتلات الشبح من طراز F-35B.
ووفقاً لتقرير التوازن العسكري، تمتلك فرنسا وإيطاليا وإسبانيا حاملات طائرات أو سفن برمائية قادرة على إطلاق طائرات مقاتلة.
وبعيداً عن الولايات المتحدة، تحتفظ فرنسا والمملكة المتحدة بقوات نووية، وكلاهما ينشران غواصات مزودة بالصواريخ الباليستية.
ويملك حلفاء الناتو، إلى جانب الولايات المتحدة، نحو 2000 طائرة مقاتلة وطائرة هجومية برية، بما في ذلك العشرات من طائرات الشبح الجديدة من طراز F-35.
وتشمل القوات البرية دبابات حديثة، بما في ذلك دبابات ليوبارد الألمانية ودبابات تشالنجر البريطانية، والتي تخدم وحدات منها الآن في الجيش الأوكراني. ويمكن لدول حلف شمال الأطلسي الأوروبية نشر صواريخ كروز قوية، مثل صاروخ سكالب/ستورم شادو الفرنسي-البريطاني المشترك، والذي أثبت كفاءته أيضاً في ساحة المعركة الأوكرانية.
ويشير تقرير التوازن العسكري 2025 إلى أن أوروبا تتخذ خطوات لتحسين قواتها العسكرية دون مساعدة الولايات المتحدة. ففي عام 2024، اتحدت 6 دول أوروبية في مشروع لتطوير صواريخ كروز تطلق من الأرض، واتخذت خطوات لزيادة القدرة على إنتاج الذخائر وتنويع قاعدة مورديها، متطلعة إلى دول مثل البرازيل وإسرائيل وكوريا الجنوبية كمصدر جديد للمعدات العسكرية.
ويقول المحللون إنه حتى لو انسحبت الولايات المتحدة بشكل كامل من أوروبا، فإنها ستترك وراءها بنية تحتية مهمة.
تملك الولايات المتحدة 31 قاعدة دائمة في أوروبا، وفقاً لدائرة أبحاث الكونغرس، بينها مرافق بحرية وجوية وبرية وقيادة وسيطرة ستكون متاحة للدول التي تقع فيها إذا انسحبت الولايات المتحدة.
ماذا بعد ذلك؟وبحسب تقرير "سي إن أن"، يأمل البعض في أن يكون الحديث عن انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي مجرد كلام من جانب ترامب يهدف إلى دفع الحلفاء إلى دفع المزيد من الأموال للإنفاق على الدفاع.
ويقولون إن "العالم، وتحالفاً أمريكياً رئيسياً آخر، كانا في الوضع نفسه سابقاً خلال إدارة ترامب الأولى، عندما ورد أنه طلب من البنتاغون النظر في خيارات لسحب القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية كحماية ضد كوريا الشمالية المسلحة نووياً".
وجاء ذلك في الوقت الذي كان ترامب يستعد فيه لعقد اجتماعات مع الزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، حيث كان يأمل في إقناع كيم بالالتزام بالتخلي عن ترسانته النووية.
وقال مصدر مقرب من البيت الأبيض لـ "سي إن إن" في ذلك الوقت إن انسحاب القوات الأمريكية يُنظر إليه على أنه أمر يمكن أن يحدث في المستقبل ولكن "ليس قبل فترة طويلة بعد اختفاء الأسلحة النووية (لكوريا الشمالية) بشكل يمكن التحقق منه".
لكن كيم رفض كل التوسلات التي وجهت له للتخلي عن برنامجه للأسلحة النووية.
وقال شراير إن اجتماع ترامب وكيم "تم تسويقه باعتباره نجاحاً كبيراً على الرغم من حقيقة أنه لم يكن كذلك".
وبعد ذلك، عادت الولايات المتحدة إلى "العمل كالمعتاد" في شبه الجزيرة الكورية، كما قال شراير . فقد أبقت الولايات المتحدة، التي لديها عشرات الآلاف من القوات في كوريا الجنوبية، قواتها هناك. واستؤنفت التدريبات الثنائية مع قوات كوريا الجنوبية، وزارت السفن الحربية الأمريكية الموانئ الكورية الجنوبية، وحلقت قاذفات تابعة للقوات الجوية الأمريكية فوق المنطقة.
وقال المحللون إن "الأمر نفسه قد يحدث في أوروبا إذا لم يحصل ترامب على ما يريده من بوتين. وقد يستمر حلف شمال الأطلسي، مع أن التهديدات الأخيرة بالانسحاب ليست سوى عقبة صغيرة في الطريق".
ومن جهته، قال شراير "إذا حاول بوتين... استغلال الرئيس الأمريكي أكثر من اللازم، فحتى دونالد ترامب قد يدرك بذلك".