منذ نهاية الحرب الباردة في ثمانينيَّات القرن الماضي والعالَم يسعى نَحْوَ «نظام عالمي جديد». ورغم سفسطات فكريَّة هنا وهناك مِثل «نهاية التاريخ» و»صراع الحضارات» وغيرها، إلَّا أنَّ البَشَريَّة مِثلها مِثل الطبيعة دائمًا ما تجد طريقها للاستمرار والتطوُّر. كانت نهاية الحرب الباردة بتفكُّك الاتِّحاد السوفييتي وانهيار المعسكر الشرقي نهاية لعالَم ثنائي القطبيَّة بَيْنَ شرقٍ تقوده موسكو وغربٍ تقوده واشنطن.
انتهت ثنائيَّة الشرق والغرب دُونَ تفرُّد تامٍّ للولايات المُتَّحدة بقيادة العالَم على أساس توافُقٍ من المراكز والأطراف، ودخلنا في مرحلة تبدو في ظاهرها «ميوعة انتقاليَّة» بانتظار تَشكُّل نظام جديد. لكنَّ الواقع أنَّه تحت السَّطح كانت هناك تيَّارات خافتة، حتَّى في ظلِّ الحرب الباردة، تحاول التجمُّع لِتُشكِّلَ قوَّة مختلفة. لعلَّ من أبرز إرهاصاتها خلال الحرب الباردة تجمُّع «دوَل عدم الانحياز» الذي ضمَّ دوَل الأطراف ما بعد الاستقلال عن الاستعمار القديم. هذا بالإضافة إلى محاولات قوى أخرى في قارَّات العالَم الثلاث غير المركز التقليدي القديم، أي آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبيَّة. وبدا مع نهاية القرن الماضي أنَّ تلك المحاولات انهارت تمامًا واختفت مظاهرها الممثَّلة بأيِّ دَوْر في السِّياسة والعلاقات الدوليَّة. إلَّا أنَّ شيئًا من تحرُّكات البَشَر لا ينتهي تمامًا، بل كُلُّ تحرُّك يترك أثرًا. كان من أبرز مَن انتبهوا لذلك عددٌ من مفكِّري ما سمَّاه الغرب «العالَم الثالث» لعلَّ أهمَّهم في تصوُّري هو المفكِّر المصري سمير أمين الذي رحَل عن عالَمنا في عام 2018 بعدما ترَكَ إرثًا مُهمًّا أبرز ما فيه استبداله تقسيم «شرق ـ غرب» بتقسيم «شمال ـ جنوب». صحيح أنَّ خلفيَّته الفكريَّة الماركسيَّة الأصيلة كانت بارزة في ذلك التقسيم على أساسٍ اقتصادي أكثر باعتبار الاقتصاد المُحرِّك الأهم للبَشَر، لكنَّه حاول ترسيخ فكرة الجنوب العالَمي بشكلٍ لا أظنُّ أنَّه مسبوق. هناك أيضًا المفكِّر والسِّياسي المصري الراحل إسماعيل صبري عبد الله الذي لَمْ يقتصر جهده على التأصيل الفكري فحسب، بل حاول عمليًّا تطوير تجمُّع يضمُّ ما يُسمَّى «العالَم الثالث» من خلال منتدى إقليمي.
بالطَّبع هناك جهود أخرى لمفكِّرين من دوَل نامية، وقليل أيضًا من دوَل أوروبا وأميركا الشماليَّة، أسهموا في هذا التيَّار الفكري. لَمْ تضِع كُلُّ تلك الجهود هباءً، بل تمَّ التعبير عَنْها عمليًّا في محاولات لصعود تكتُّلات ـ في أغلبها اقتصاديَّة ـ في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة. لكنَّ الأنظار كانت حتى العقود القريبة مركَّزة على أوروبا رغم تراجع دَوْرها كمركز للعالَم، وبالتَّالي على بقايا صراع الشرق والغرب. حتى محاولة الصين الدَّفع بمبادرة «الحزام والطريق» لَمْ تلقَ قَبولًا واسعًا أبعد من بعض الاتِّفاقات التجاريَّة والاستثماريَّة؛ لأنَّها بدَتْ جهدًا صينيًّا في سياق سعيِ بكين لاحتلال مكانة القطب الجديد عالميًّا. إنَّما قَدْ يكُونُ تجمُّع دوَل «بريكس» الذي تأسَّس عام 2009 هو حتَّى الآن الترجمة العمليَّة الأنسب لفكرة الانقسام العالَمي شمال وجنوب، خصوصًا وأنَّه لَمْ يَعُدْ تقسيمًا اقتصاديًّا فحسب، إذ لَمْ يَعُدِ الشمال هو الغني الوحيد ولا الجنوب هو الفقير الدَّائم. وبعد نَحْوِ عقد ونصف تبحث القمَّة الـ(15) لمجموعة (بريكس) في جنوب إفريقيا هذا الأسبوع توسيع عضويَّة المجموعة مع تقدُّم أكثر من عشرين دولة من دوَل الجنوب بطلبات لعضويَّة التجمُّع الذي تأسَّس في البداية بالبرازيل وروسيا والهند والصين ثمَّ ضمَّ جنوب إفريقيا.
يُمثِّل التجمُّع قارَّات العالَم الثلاث التي كانت تقليديًّا «طرفيَّة» مقابل مركز القوَّة القديم، وحتَّى في احتمالات توسُّعه سيحافظ على توازن العضويَّة بَيْنَ القارَّات الثلاث. ومع أنَّ (بريكس) تكَوَّنَ في البداية من دوَل «صاعدة» اقتصاديًّا، إلَّا أنَّ نفوذها في السنوات الأخيرة أخذ يدعم النُّموَّ الاقتصادي بِدَوْر دبلوماسي وغيره من جوانب قوَّة الدوَل ومكانتها. وممَّا يجعل فرصة تجمُّع (بريكس) أفضل من محاولات سابقة لبروز الجنوب كفاعل في العلاقات الدوَليَّة وكاسر لاحتكار قطبيَّة القوَّة العالَميَّة في الشمال أنَّه يصعد في وقت يكاد يكُونُ فيه الشمال «يأكل نَفْسَه» بصراعات جيواستراتيجيَّة وتنافُس اقتصادي وتجاري يدفع نَحْوَ الحمائيَّة والانعزاليَّة. لذا، نشهد في الآونة الأخيرة كثرة استخدام مصطلح «الجنوب العالَمي» في الإعلام والدراسات وكتابات وتعليقات لأكاديميِّين ومفكِّرين. وأتوقَّع أن يزيدَ ذلك مستقبلًا، خصوصًا إذا نجح تجمع (بريكس) في تفادي السلبيَّات التي أجهضت محاولات سابقة من دوَل الجنوب، أو العالَم الثالث أو النَّامي والصاعد للتحالف فيما بَيْنَها. بالطَّبع لَنْ يكُونَ الأمْرُ سهلًا، ولَنْ يستكينَ الشمال، غربًا أو شرقًا بالمناسبة، عن العمل لإجهاض محاولة الجنوب. لكنَّ الفرصة ـ هذه المرَّة ـ أفضل كثيرًا؛ كَيْ يصبحَ صوت الجنوب أقوى في أيِّ نظام عالَمي يَتشكَّل.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الحرب الباردة العال م
إقرأ أيضاً: