المثقف في العصر الرقمي .. بين الضياع والبحث عن دور
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
كان المثقف في الماضي هو الضمير الحي للمجتمع، وكان العقل الذي يستشرف المستقبل، واللسان الناطق باسم الحقيقة، حتى في مواجهة أكثر السلطات جبروتًا. أما اليوم، فقد أصبح المثقف نفسه يعيش أزمة هُوية، ليس لأنه فقد أدواته الفكرية، ولكن لأنه فقد موقعه ودوره في عالم لا يلتفت كثيرًا للمعرفة العميقة، بل بات يتجه نحو السرعة، والتبسيط المخل، والضوضاء التي تصنع الأبطال الوهميين.
لكنّ هذه الأزمة ليست وليدة اللحظة الآنية، بل هي تراكم لعقود من التحولات العميقة التي مسّت بنية المجتمعات الحديثة، من تراجع دور الأيديولوجيا، إلى تلاشي المشاريع الثقافية الكبرى، وصولا إلى صعود نخب جديدة لا تستمد قوتها من المعرفة، بل من قدرتها على التأثير في عالم منصات التواصل الاجتماعي. وفي ظل هذا التحول، أصبح المثقف التقليدي يواجه معضلة وجودية: أين موقعه وسط هذا العالم الجديد؟ هل لا يزال بإمكانه أن يكون فاعلا في المجتمع، أو أنه أصبح مجرد ظاهرة من زمن مضى؟
الإجابة عن هذا السؤال معقدة، لكنها تكشف عن مفارقة جوهرية: المثقف لم يختفِ، لكنه فقد البوصلة. فبدل أن يكون قائدا للرأي، أصبح متفرجا على تحولات المجتمع، أو في أفضل الأحوال، باحثا عن دور يناسب المرحلة الجديدة؛ وهنا تكمن خطورة المأزق، إذ لم يعد التحدي مقتصرا على قدرة المثقف على فهم الواقع، بل في قدرته على التأثير فيه وسط حالة الفوضى المعلوماتية التي تصنع «المؤثرين» بدلا من «المفكرين».
ما زاد من تعقيد المشهد هو تحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة الصراع الجديدة، حيث لم يعد التنافس قائما على جودة الفكرة، بل على قدرتها على الانتشار. وفي هذا المشهد المضطرب وجد المثقف نفسه أمام خيارين: إما أن يحافظ على عمقه الفكري ويتقبل العزلة التدريجية، أو أن يلجأ إلى استراتيجيات التأثير الرقمي، وهو ما قاد بعضهم إلى تبني خطاب شعبوي يتماهى مع الجماهير، لكنه يفتقر إلى المضمون الحقيقي.
وهكذا، بدلًا من أن يكون المثقف مرجعية فكرية، أصبح في كثير من الأحيان مجرد «مؤثر» ينافس نجوم الترفيه، لكنه يفتقد إلى تأثيرهم الحقيقي. لقد تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح التفاعل الرقمي معيارا للحضور، حتى وإن كان على حساب الحقيقة والعمق.
ولكن رغم قتامة المشهد ومرارته إلا أن المثقف لا يزال يمتلك دوره، شرط أن يعيد تعريفه وفق متطلبات العصر.. فبدلا من الانزواء أو محاولة التكيف السطحي، يحتاج المثقف إلى استعادة جوهر مهمته: إنتاج المعرفة، وإثارة الأسئلة الجوهرية، وتقديم رؤية نقدية للمجتمع. لكن هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن الواقع، بل من خلال فهم الأدوات الجديدة والتعامل معها بذكاء، دون أن يسقط في فخ الاستعراض أو البحث عن الشعبية على حساب الفكرة كما هو حاصل الآن.
إن أهم أزمات المثقف اليوم ليست في قلة الأفكار، بل في تراجع التأثير، والمهمة الحقيقية ليست في العودة إلى الماضي حيث كان للمثقف دور ومكانة، بل في قدرة المثقف على إيجاد موطئ قدم في الحاضر، وإعادة بناء دوره بوصفه صوتا نقديا مستقلا، لا كصدى لضجيج الإعلام الرقمي. فالمجتمع، مهما تغيرت وسائله، لا يزال في حاجة إلى منارة فكرية ترشده وسط العواصف، لا إلى مجرد موجّه آخر في بحر التفاهة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
محكمة سجن روميه ليست حلّا مثالياً.. والاعتراضات مستمرة
كتب اسكندر خشاشو في" النهار": أعلن وزيرا العدل عادل نصار والداخلية أحمد الحجار إعادة تفعيل العمل بالمحكمة الموجودة في سجن رومية المركزي. وبحسب الوزيرين، فإن التحدي الأساسي هو الاكتظاظ في السجون على كل الأراضي اللبنانية، وهو موضوع قيد المعالجة، وهناك عمل على كل المستويات للتعجيل في المحاكمات وبت ملفات الموقوفين في أسرع ما يمكن، وتحسين الرعاية الصحية لهم، بالتنسيق مع وزير العدل ونقابتي المحامين والقضاة وقوى الأمن الداخلي.وجُهّزت قاعة المحكمة في سجن رومية بمواصفات دولية، بتكلفة مليونَين ونصف مليون دولار أميركي.
وتبلغ مساحتها نحو 250 متراً مربّعاً، وتضم 12 قفص اتّهام موزّعة على ثلاث طبقات (أربعة في كل طبقة)، مساحة كل قفص 12 متراً مربّعاً، ويتّسع لعشرة أشخاص، وهو مجهّز بنظام مراقبة ومكبّر صوت وميكروفون وزجاج ضد الرصاص وعازل للصوت. والمسافة القصوى بين قوس المحكمة وأبعد قفص أكثر من 20 متراً، ما يعني أن القضاة مضطرون إلى استعمال الكاميرات والميكروفونات للتواصل مع بعض الموقوفين. عُقدت في المحكمة جلسات عام 2012 لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ودشّن المجلس العدلي، في 2013، قاعة المحاكمات بجلسة لمحاكمة الموقوفين في ملف نهر البارد. وخصصت الجلسة للنظر في ملفين بعدما تمت تجزئة الملف الأساسي إلى مجموعة ملفات.
ويضم الملفان 53 متهماً، ويخصص الأول لمحاكمة متهمين بالتزوير الجنائي، فيما يخصص الثاني الذي يشمل 45 متهماً لجرائم الاعتداء على أمن الدولة والقيام بأعمال إرهابية وقتل ومحاولة قتل، قبل أن يتوقف العمل فيها. وفي حزيران 2020 أعلنت "لجنة الرعاية الصحية في السجون" عودة جلسات المحاكمة في قاعة المحاكمات في رومية، إلا أن المحاكمات ما لبثت أن توقفت عن العمل بعد كثرة الشكاوى من المحامين في عهد نقيب المحامين السابق ناضر كسبار نتيجة معوقات واجهت المحامين خلال عملهم.
وعلى الرغم من تأكيد وزير العدل التنسيق مع نقابة المحامين وأن الرغبة موجودة لدى الجميع في أن يكون حق الدفاع مصونا وتكون استقلالية القضاء والمحامين محفوظة في المحكمة، لا تزال اعتراضات المحامين قائمة.
وبحسب كسبار، فإن لنقل الملفات من قلم محكمة بعبدا إلى محكمة روميه مخاطر كثيرة، "إذ على الكاتب حمل عشرات الملفات ونقلها إلى سيارته، ومن ثم إلى روميه. فماذا لو فقدت أوراق أو مستندات من الملفات في أثناء النقل؟ وماذا لو اعترض مسلحون أو غير مسلحين الكاتب؟"
في رأيه أن "المحامي الذي لديه ملف في بعبدا وينوي حضور الجلسة، قد يقوم بعشرات المراجعات، وفي استطاعته حضور جلسات أخرى في المحكمة، سواء أمام قاضي التحقيق أو أمام القضاة المنفردين أو محكمة الاستئناف، وهناك مشاكل لوجيستية تتعلق بإدخال هاتف المحامي، وعمليات التفتيش الدقيقة والكثيرة التي يتعرض لها المحامون، وعدم وجود مواقف، حتى إن بيئة المحاكمة التي يجب أن تكون بعيدة من السجن تشعر المتهم بأريحية، أما في السجن فهو تحت الضغط". يُذكر أن الطاقة الاستيعابية لسجن رومية تبلغ 1050 سجيناً، وهو يضم حالياً 3476 سجيناً، ما يعني أن نسبة الاكتظاظ تتجاوز 324 في المئة. ويتألف سجن رومية المركزي، وهو أكبر السجون اللبنانية، من 6 مبانٍ: مبنى "ب"، ومبنى "د" للمحكومين، ويتألف كل منهما من 3 طبقات، ومبنى الأحداث،واللولب المركزي، ومبنى الخصوصية، والمبنى الاحترازي، علما أن 40 في المئة من السجناء في لبنان هم من غير اللبنانيين. مواضيع ذات صلة وزير العدل: لتفعيل المحاكمات في سجن رومية Lebanon 24 وزير العدل: لتفعيل المحاكمات في سجن رومية