استمعت على مدى ساعتين ونصف للباشمهندس مكاوي محمد عوض وزير النفط السابق وهو يتحدث في تسجيل بالفيديو (بودكاست بصمة خضراء). معظم وقت الحلقة تناول أعمال مكاوي في الهيئة القومية للكهرباء حيث قضى أطول فترة من سنوات خدمته (12) عامًا.
ويبدأ مكاوي الحكاية بنشأته الأولى في قرية أقجة بدنقلا وخلوة سيدنا عبد الكريم والد الفنان زكي عبد الكريم الذي كان شيخ الحِيران.
يسأل مقدم الحلقة عن سبب اختيار تخصص الكهرباء للدراسة فيقول مكاوي: “نحن طبعا اتولدنا في قرية ما فيها كهرباء، ولما جينا الخرطوم لقينا الكهربة… اخترت الكهربة لأننا دايرين كهربة… وأشواقي أن أكون في مكان فيه كهربة).
هذا الطموح المتواضع حمل الفتى مكاوي ليسهم في مجال تنموي مهم يتعلق بتطوير مجال الكهرباء بالسودان. بدأ مشواره مع الكهرباء منذ تعيينه في الإدارة المركزية للكهرباء والمياه فور التخرج عندما كان التعيين للدفعة كلها (28 خريج) بحجزها في المصالح الحكومية، و”المرتب يدوِّر. ما كنا بنهبش المرتب لأن مكافأة التدريب اللي كنا بناخذها في المحطات الخارجية وهي جنيه ونصف في اليوم كانت تكفي لمعيشتنا” يقول مكاوي.
ويختار النقل إلى مصنع النسيج السوداني لوجود فرص دراسات عليا ليبتعث إلى جامعة برادفورد في بريطانيا ويعود بالماجستير. لكن ظروف البلاد الاقتصادية تدفع بالكثير من جيله للهجرة إلى السعودية ليعود منها سنة 1989 مع حكومة الإنقاذ. وتكون عودته إلى جامعة السودان حتى يصبح رئيسًا لقسم الكهرباء، لينتدب منها إلى الهيئة القومية للكهرباء (مدير أول) الكهرباء بمنطقة الخرطوم، ولا يلبث أن يعين مديرًا عاما للهيئة.
بتلقائية يحكي الباشمهندس مكاوي قصته مع الكهرباء وعزمه على التغيير، وما جرَّ عليه ذلك من مقاومة ومعارضة، أشدها من النقابات والصحافة.
من نوع المشكلات التي واجهته مشكلة المبيعات حيث كانت فاتورة الكهرباء تستغرق 32 خطوة حتى تخرج إلى المستهلك، ويضطر إلى التعامل مع المتأخرات بحملات القطع، حيث يستغرق الموظفون ساعات طوالا يحملون سلالمهم. وواجه الفاقد التجاري وهو الاسم المخفف للسرقات أو (الجبَّادات). كانت البداية بعمل إحصائي وجمع وتصحيح المعلومات، وانتدب لها فريقًا من الشباب. واشتغل بالتدريب على نطاق واسع وإرسال المتدربين للخارج وفي بعثات داخلية.
ويتناول الباشمهندس تفاصيل دقيقة في هذا التغيير الذي أتى بنتائج سريعة. مثلا كان دخل الهيئة كله لا يوفي المرتبات، في حين أن 7% من الدخل فقط استوفى المرتبات بعد اكتمال الخطة الخمسية.
أدخال نظام الدفع المقدم الذي سموه (الجمرة الخبيثة)، ووجد مقاومة شديدة أول الأمر. وبدأ إدخال النظام الجديد ابتداءً من بيت رئيس الجمهورية ثم في أحياء المنشية والرياض. وألزم المساجد بالدفع وقالوا له إن الرئيس نميري أعفى المساجد من دفع فواتير الكهرباء، وبالتقصي عرف أن قرار الرئيس نميري لم يكن إعفاءً إنما إلزام وزارة الإرشاد والأوقاف بكهرباء المساجد. وألزم المحليات بدفع كهرباء أعمدة الإنارة في الشوارع، واستطاع مع المحليات ووزارة الإرشاد التوصل لطرق التمويل لأسعار الكهرباء.
ونظام عداد الدفع المقدم أخذه مكاوي من جنوب إفريقيا التي لجأت إليها مضطرة بسبب التمييز العنصري، حيث إن قارئ العداد ظل مستهدفًا بالضرب حين يأتي أبيض إلى بيوت السود، أو اسود إلى بيوت البيض.
وتعامل مع الترهل في العاملين إذ كانت الهيئة تعاني تضخمًا كبيرا، ومن صور التضخم المضحكة أن السائقين كانت لديهم عدة مراتب وظيفة؛ سائق ثم رئيس سواقين، ثم مراقب سواقين، ثم ملاحظ سواقين، واستحدثوا أخيرًا وظيف بمسمى شيخ السواقين.
لم تكن الأقسام الخدمية على ما يرام… عدة فرق عمل اشتغلت أيامًا لتركيب مكيف في بيته، والنتيجة أن المكيف لم يشتغل، فاستأجر شخصًا من السوق أعاد تركيب المكيف.
عند انقضاء الخطة الخمسية الأولى تجاوزت البلاد أزمة الكهرباء، ودخلت معظم أنحاء البلاد في الشبكة القومية، وتهيأت للمزيد من الإنجاز في الخطة الخمسية الثانية التي كانت ترمي إلى زيادة إنتاج الكهرباء لتصبح 5000 خمسة آلاف ميجاواط، وكان الإنتاج نحو 90 ميجا واط فقط عندما تسلمها مكاوي.
ويروي مكاوي قصة في أنه أعلن عن ميعاد لدخول عطبرة في الشبكة القومية، فاستدعاه الرئيس ليسأله عن ذلك، وكيف يقوم بخطوة كبيرة مثل هذه دون أن يبلغ الرئيس!
بعد ذلك يستمر مكاوي في سرد قصته بالسكة حديد، عندما نُقل إليها مديرًا، وكان مدير السكة حديد هو الشخص الرابع من حيث ترتيب البروتوكول في حكومة السودان عندما خرج المستعمر. وكان يستقبل بالبروجي عندما يصل إلى مقر الإدارة في عطبرة. وقته في تغيير فلنكات السكة حديد لم يقل في معاناته الأولى في الكهرباء.
مكاوي استطاع أن يوثق أعماله في الكهرباء بكتاب عنوانه: ملامح الإصلاح والارتقاء في الهيئة القومية للكهرباء، وهناك كتاب آخر يحمل عنوان: سكك حديد السودان من كتشنر إلى مكاوي، واسم المؤلف لم يذكر.
يصف مكاوي ما اضطلع به شباب السودان في الكهرباء بأنها معركة أشبه بمعركة الكرامة التي يخوضونها الآن.
ولا شك أن شباب السودان ينتظرهم الجهاد الأكبر؛ جهاد التنمية والبناء فور عودتهم من الجهاد الأصغر في معركة الكرامة، فهل تتهيأ لهم الأجواء السياسية لينطلق السودان نحو مستقبله؟
نرجو ذلك.
عثمان أبوزيد ـ مكة المكرمة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
دار الكتب والوثائق القومية تحتفل بمرور 155 عامًا علي إنشائها .. اليوم
أكد الدكتور أسامة طلعت، رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، أن دار الكتب والوثائق القومية تُعد من أبرز رموز الثقافة المصرية، وواحدة من أعرق المؤسسات التي تحفظ التراث المكتوب والمطبوع في الوطن العربي، مشيرًا إلى أنها تمثل "كنزًا وطنيًا حيًا" يعكس ذاكرة مصر على مدار 155 عامًا.
وأوضح طلعت، خلال مداخلة هاتفية مع أحمد دياب ونهاد سمير، ببرنامج صباح البلد المذاع على قناة صدى البلد، أن دار الكتب المصرية تأسست في 23 مارس 1870 بأمر من الخديوي إسماعيل، وذلك استجابة لرؤية المفكر علي باشا مبارك بعد عودته من بعثته إلى فرنسا، حيث ألهمته المكتبة الوطنية هناك، فدعا لإنشاء نظيرتها في مصر.
وأشار الدكتور أسامة طلعت إلى أن مقر الدار الأول كان في قصر مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز، والذي ضم في الدور الأول نحو 3500 كتاب ومخطوطة شكلت النواة الأولى للمكتبة الوطنية المصرية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت دار الكتب المعنية بجمع وحفظ كل ما يُنتج في مصر من مؤلفات وجرائد ودوريات.
وكشف طلعت أن من أبرز مقتنيات الدار مصحف عثمان بن عفان، و31 ورقة من المصحف الحجازي النادر، إلى جانب مخطوطات نادرة كتبها مؤلفوها بخط أيديهم، منها النجوم الزاهرة لابن تغري بردي وعجائب الآثار للجبرتي، الذي يُعد مرجعًا هامًا في تاريخ مصر الحديث.
وفيما يخص جهود ربط الأجيال الجديدة بالقراءة، أشار الدكتور أسامة طلعت إلى أن وزارة الثقافة تعمل على تطوير أدوات الاطلاع بما يتناسب مع العصر، موضحًا أن تطبيق "كتابك" أُطلق لإتاحة الكتب إلكترونيًا مجانًا، ضمن خطة متكاملة للرقمنة وتسهيل الوصول للمحتوى الثقافي عبر الهواتف الذكية.