د. هلال بن عبدالله الهنائي **

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا هائلًا في الاقتصاد العالمي بفعل النهضة الصناعية الصينية، التي أعادت تشكيل العديد من الصناعات العالمية. لقد دخلت الصين بقوة إلى سوق التصنيع الدولي، ما أسهم في تغيير هيكل التجارة العالمية. لكن، في الوقت نفسه، فرض هذا التغير تحديات كبيرة على الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا، التي وجدت نفسها أمام منافسة قوية.

في هذا السياق، تنشأ أسئلة جوهرية حول كيفية التعايش مع هذه الثورة الصناعية وضمان استمرار قوة اقتصاداتنا الوطنية.

كيف أثرت النهضة الصناعية الصينية على الاقتصادات العالمية؟

من خلال استغلال القوى العاملة الرخيصة وزيادة الإنتاجية، تمكنت الصين من أن تصبح مصنعًا عالميًا. هذا التحول أسهم في تعزيز الاقتصاد الصيني، لكنه ألحق ضررًا كبيرًا ببعض الصناعات في الدول الصناعية الكبرى التي لم تستطع المنافسة مع الأسعار المنخفضة. الصناعات التقليدية مثل المنسوجات والصلب في الولايات المتحدة وأوروبا تأثرت بشكل كبير، مما دفع الكثير من المصانع إلى الإغلاق.

هل استفادت الدول الصناعية من النهضة الصينية؟

نعم، بعض الدول الصناعية استفادت من انخفاض تكاليف الإنتاج في الصين، ما ساعد الشركات الغربية على تقديم منتجات بأسعار منافسة. الشركات مثل "أبل" و"جنرال موتورز" نقلت جزءًا من إنتاجها إلى الصين، مما قلل من التكاليف وزيَّن هامش الربح. ومع ذلك، لم يكن هذا التحول خاليًا من التحديات، حيث بدأنا نرى أن هذه الشركات الغربية تعتمد بشكل متزايد على التصنيع الخارجي.

كيف أثرت هذه التحولات على العمالة المحلية؟

بينما استفادت الشركات من خفض التكاليف، كان العمال في العديد من البلدان الصناعية يتأثرون بشكل سلبي. فقد أدت أسعار المنتجات الصينية المنخفضة إلى إغلاق العديد من المصانع المحلية، ما أثر بشكل مُباشر على مستوى البطالة. هذه التناقضات بين مصالح الشركات الكبرى من جهة، وحاجة الطبقات العاملة لحماية وظائفهم من جهة أخرى، أبرزت التحديات الاقتصادية الكبرى.

كيف تميزت شركات مثل "هواوي" و"لينوفو" في هذا العصر؟

رغم المنافسة الشديدة، استطاعت شركات صينية مثل “هواوي” و”لينوفو” أن تحقق نجاحًا عالميًا في مجالات التكنولوجيا. “هواوي” استطاعت أن تنافس “آبل” و”سامسونج” في سوق الهواتف الذكية، بينما سيطرت “لينوفو” على سوق الحواسيب الشخصية. ورغم نجاحها، تعرضت هذه الشركات لعدة تحديات سياسية، خاصة في الولايات المتحدة، التي فرضت عليها قيودًا لاحتواء انتشارها.

هل يمكن للدول الصناعية التعايش مع هذه الثورة ومنع تدهور صناعاتها؟

التعايش مع الثورة الصناعية الصينية يتطلب استراتيجيات مرنة وابتكارية. على الدول الصناعية أن تتبع سياسات موجهة للحفاظ على قدرتها التنافسية على المدى الطويل، بدلاً من التمسك بالطرق التقليدية. لن يكون الحفاظ على الصناعات التقليدية ممكنًا إلا إذا تم تبني أساليب جديدة تتماشى مع التغيرات السريعة في السوق.

كيف يمكن للدول الصناعية التكيف مع هذا التغيير؟

1. الابتكار وتطوير التكنولوجيا المتقدمة:

من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، يمكن للدول الصناعية أن تحافظ على مكانتها في الأسواق العالمية. التوجه نحو تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد يمكن أن يعزز القدرة التنافسية ويعطي فرصة للدول للحفاظ على صناعاتها المحلية.

مثال: الشركات الأمريكية مثل “تسلا” التي تقود صناعة السيارات الكهربائية، والعديد من الشركات الأوروبية التي تتفوق في مجال الطاقة المتجددة، أظهرت أهمية الابتكار في صناعة المستقبل.

2. الاستثمار في رأس المال البشري:

من الضروري أن تركز الدول على التعليم والتدريب على المهارات المتقدمة. هذا يساعد في خلق قوة عاملة قادرة على التعامل مع التحديات التي تطرأ بفعل التقنيات الجديدة، مما يساهم في بقاء الصناعات المحلية قوية.

مثال: في ألمانيا، يعتبر التعليم الفني المتقدم جزءًا أساسيًا من الاقتصاد، حيث يتم تدريب العمال على تقنيات التصنيع الذكي مما يمنحهم القدرة على المنافسة في صناعة عالية التقنية.

3. استخدام السياسات الحكومية لدعم الصناعات المحلية:

يمكن للحكومات أن تلعب دورًا كبيرًا من خلال فرض سياسات تحمي الصناعات المحلية، مثل الرسوم الجمركية أو الدعم المالي للمصانع المحلية. وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون هذه السياسات مرنة بحيث لا تُعزل الاقتصادات عن العالم الخارجي.

مثال: الولايات المتحدة فرضت رسومًا جمركية على المنتجات الصينية في إطار الحرب التجارية مع الصين، ولكنها في نفس الوقت حاولت الحفاظ على توازن يسمح للشركات بالاستمرار في التجارة.

4. تعزيز التكامل الصناعي في سلاسل التوريد العالمية:

من خلال التعاون بين الدول الصناعية والدول الأخرى، يمكن تعزيز سلاسل التوريد، مما يسمح بتقليل الاعتماد على الصين أو أي مصدر واحد. هذه الاستراتيجية تساعد في الحفاظ على مرونة الاقتصادات الوطنية.

مثال: اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) تشمل تعاونًا بين عدة دول من أجل تعزيز التكامل الاقتصادي العالمي وتقليل الاعتماد على الصين.

5. التركيز على الاقتصاد الأخضر والصناعات المستدامة:

الدول الصناعية يجب أن تركز على الصناعات التي تضمن استدامة البيئة، مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصديقة للبيئة. هذه الصناعات لن تساعد في الحفاظ على مكانتها الاقتصادية فحسب، بل ستفتح فرصًا جديدة للنمو.

مثال: دول مثل السويد والدنمارك تعتبر رائدة في مجال الطاقة المتجددة والصناعات المستدامة، مما يعطيها ميزة كبيرة في المستقبل.

كيف يمكن تطبيق استراتيجيات Red Sea Ocean وBlue Sea Ocean؟

• Red Sea Ocean: هذه الاستراتيجية تشير إلى الأسوق المزدحمة حيث تتنافس الشركات على نفس الحصة السوقية، مما يؤدي إلى تراجع الأرباح. الصناعات التي تواجه منافسة شديدة مثل التصنيع التقليدي في الصين يمكن أن تُعتبر جزءًا من “Red Sea Ocean”.

• Blue Sea Ocean: في هذه الاستراتيجية، تبحث الشركات عن أسواق جديدة وفرص غير مستكشفة، مما يفتح لها مجالات للابتكار والنمو بعيدًا عن المنافسة التقليدية. استثمارات في مجالات جديدة مثل السيارات الكهربائية، الطاقة المتجددة، والصناعات التكنولوجية المتقدمة، يمكن أن تساعد الدول الصناعية على النجاح في هذه البيئة التنافسية.

وفي الختام.. يمكن للدول الصناعية أن تعيش في عصر الثورة الصناعية الصينية إذا تمكنت من التكيف والتطور بشكل مستمر. من خلال تبني استراتيجيات مثل الابتكار، الاستثمار في رأس المال البشري، والتوجه نحو الصناعات المستدامة، يمكن أن تحافظ هذه الدول على مكانتها في ظل التحديات المتزايدة. استخدام استراتيجيات Red Sea Ocean وBlue Sea Ocean سيسمح لهذه الدول بالبحث عن الفرص المتاحة في الأسواق الجديدة، وتجاوز التحديات في الأسواق المزدحمة.

** رئيس مجلس إدارة جمعية الصناعيين العُمانية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بول كاغامي: فلتذهب إلى الجحيم الدول التي تفرض علينا عقوبات

في تصعيد ملحوظ للعلاقات المتوترة بين رواندا والدول الغربية، أطلق الرئيس الرواندي بول كاغامي تصريحات نارية ضد الدول التي فرضت عقوبات على بلاده.

ففي الذكرى السنوية لضحايا الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في عام 1994، خرج كاغامي ليؤكد أن البلدان التي تسعى إلى معاقبة كيغالي على مواقفها السياسية "فلتذهب إلى الجحيم".

وتأتي هذه التصريحات الحادة بعد أسابيع من فرض عدة دول غربية عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على رواندا، مثل فرض قيود على بعض المسؤولين الروانديين.

في السابع من أبريل/نيسان، وفي خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ31 للإبادة الجماعية، وصف كاغامي العقوبات الغربية بأنها "غير عادلة"، موجهًا اللوم للغرب على تصعيد التوترات في منطقة البحيرات العظمى.

وأشار إلى أن "الذين يفرضون العقوبات على رواندا، هم الذين يجب أن يتوجهوا إلى الجحيم"، في إشارة واضحة إلى رفضه التام الضغوط الخارجية على حكومته.

وأضاف كاغامي، أن هذه العقوبات لن تؤثر على موقف بلاده، التي تتبنى سياسة مستقلة بعيدًا عن الضغوط الغربية.

وجاءت تصريحات الرئيس الرواندي في وقت حساس، إذ فرضت العديد من الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي، عقوبات على مسؤولين حكوميين روانديين متورطين في أحداث تشهدها جمهورية الكونغو الديمقراطية.

إعلان

وتتهم الدول الغربية رواندا بدعم الجماعات المسلحة في شرق الكونغو، وهو ما تنفيه الحكومة الرواندية نفيا قاطعا.

في المقابل، تؤكد كيغالي، أن العقوبات تمثل تدخلًا غير مبرر في شؤونها الداخلية، وأن رواندا تتعرض لهجوم سياسي ودبلوماسي في إطار سياسة الغرب التوسعية في المنطقة.

الرئيس بول كاغامي وزوجته جانيت كاغامي، وهما يوقدان الشعلة خلال حفل إحياء الذكرى 31 للإبادة الجماعية (رويترز)

لم يتوقف كاغامي عند التصريحات الغاضبة عن العقوبات، بل أشار إلى أن الغرب يتخذ موقفًا يتجاهل مصالح الدول الأفريقية ويولي اهتمامًا بمصالحه الخاصة. وقال: "الغرب لا يفهم الروانديين ولا يعرف كيف نعيش ونعمل. يعتقدون أنهم يمكنهم فرض إرادتهم علينا، لكنهم مخطئون". وأضاف أن رواندا لن تنكسر تحت الضغط، مؤكدًا استقلالية البلاد وقدرتها على مواجهة التحديات دون الحاجة إلى توجيه من الخارج.

 

وتعتبر هذه التصريحات استمرارًا لنهج كاغامي في التمسك بسيادة بلاده في كافة القضايا، سواء كانت متعلقة بالسياسة الداخلية أم بالشؤون الإقليمية. ففي وقت سابق من هذا العام، رفض الرئيس الرواندي أي تدخل أجنبي في شؤون بلاده، وأكد أن رواندا ستظل ملتزمة بمواقفها السياسية بغض النظر عن الضغوط الغربية.

 

من جهة أخرى، هناك آراء مختلفة في الأوساط الدولية عن تصريحات كاغامي. في بعض الأوساط السياسية الغربية، تُعتبر هذه التصريحات استفزازية وغير دبلوماسية، بينما يعتبر آخرون أن كاغامي يعبّر عن رفضه الأجندات الغربية التي تسعى إلى فرض هيمنتها على الدول الأفريقية.

 

وعلى الرغم من الضغوط الخارجية، تتمسك حكومة رواندا بموقفها الرافض لتدخّل القوى الغربية في شؤونها، وتعتبر أن العقوبات الغربية لن تنجح في تغيير موقفها حيال القضايا الإقليمية، خصوصًا في الصراع المستمر في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. ووفقًا للعديد من المحللين، قد تساهم هذه التصريحات في زيادة التوترات بين رواندا والدول الغربية، مما يهدد بتفاقم الأزمة في منطقة البحيرات العظمى، وهي منطقة تعرف فعلا بتعقيداتها السياسية والأمنية.

إعلان

مقالات مشابهة

  • المنيا تواصل حصر وتوفيق أوضاع الأنشطة الصناعية غير المقننة لتعزيز الاقتصاد المحلي
  • مكتوم بن محمد: التعاون مع الشركات العالمية يدعم الاقتصاد المستدام
  • من بينها مصر والأردن .. ما هي الدول التي قررت السعودية وقف التأشيرات لها استعداداً لموسم الحج؟
  • العفو الدولية: عمليات الإعدام تسجل أعلى مستوياتها في عقد... من هي الدول التي تتصدر القائمة؟
  • وزير الاقتصاد والصناعية الفرنسي: دعوة الشركات الفرنسية لضخ الأموال في السوق المصري
  • بول كاغامي: فلتذهب إلى الجحيم الدول التي تفرض علينا عقوبات
  • التفاوض.. الخيار الوحيد لحماية الاقتصاد العالمي
  • غرفة صناعات مواد البناء تشارك في لقاء اتحاد الصناعات مع وفد من مقاطعة هونان الصينية
  • وزير الاقتصاد وحاكم قوانغشي الصينية يبحثان التعاون في الاقتصاد الجديد
  • نائب التنسيقية يطالب بالتوجه نحو الرقمنة وتأسيس الشركات الكترونيا