الرأسمالية المُتوحِّشة
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
حاتم الطائي
◄ ترامب يقود رأسمالية مُتوحِّشة تعبد المال وتقدسه بعيدًا عن أي قيم إنسانية
◄ الخطاب الفاشي لترامب تجاه الوضع في غزة انعكاسٌ للرأسمالية المُتوحِّشة
◄ السياسات الترامبية تقود العالم لمزيد من الصراعات والأزمات
تقود الولايات المُتحدة الأمريكية الفكر الرأسمالي بكلِّ أشكاله التقليدية والمُتطرفة، ونموذجها الأبرز دونالد ترامب، الذي يتبنى نهجًا رأسماليًا مُتوحِّشًا بعبادته للمال الذي هو بمثابة المُقدَّس لديه؛ بعيدًا عن أي قيم إنسانية أو مُثُل عُليا يرتكز عليها.
وشهدت أمريكا تحت حكم ترامب، تحوُّلات جذرية في القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وباتت الرأسمالية الترامبية المُتوحِّشة تُكشِّر عن أنيابها للجميع، ولا تُفرِّق بين الحق والباطل، ولا بين المُحتاج والمُكتفي، ولا بين الضعيف والقوي، هي سياسة حادة كنصل السيف، تقطع الرقاب وتُمزِّق الأوصال، تُدمِّر الدول والاقتصادات، لصالح الطرف الأقوى. والأقوى هنا لا يعني بالضرورة صاحب الحق؛ بل القادر على فرض القرارات بكل وحشية وتجبُّر.
دونالد ترامب ومنذ اللحظة الأولى التي عاد فيها إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض الأمريكي، يتخذُ قرارات في جوهرها وظاهرها تلك الرأسمالية المُتوحِّشة، وهناك حوالي 4 قضايا رئيسية لا يتوقف ترامب عن الحديث عنها؛ السيطرة على قناة بنما، وضم دولة كندا لتُصبح الولاية الأمريكية رقم 51، والاستحواذ على جزيرة جرينلاند الدنماركية، وتملُّك قطاع غزة وتهجير أهله قسريًا.
العامل المشترك بين هذه القضايا الأربعة أنها تعكس وحشًا رأسماليًا أمريكيًا يُريد تحويل كل شيء من حوله إلى سلعٍ قابلة للشراء والبيع، وربما لا شراء ولا بيع؛ بل مُصادرة أو السيطرة بقوة السلاح والنفوذ والجبروت، في عودة مُهينة للبشرية إلى شريعة الغاب في أقبح صورها. فما يتخذه ترامب من قرارات وما يُعلنه من سياسات وأفكار وخطط ومشاريع في مختلف دول العالم، يُؤكد أن هذا الرئيس ليس سوى كارثة من الكوارث الأمريكية التي تهبط على عالمنا، فكما أن الولايات المتحدة- على مر العقود الماضية- مسؤولة عن العديد من الأزمات والصراعات والحروب، وأياديها مُلطّخة بدماء الأبرياء في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا وغزة، وقبلها في فيتنام وغيرها، فإنَّ ترامب يُمثِّل حالة من السعار الرأسمالي الأمريكي، الذي لا يُراعي أي حقوق أو يؤمن بأيِّ قيم أو مبادئ، ولا تُحرِّكه سوى الأخلاق السيئة من جشعٍ وطمعٍ وشَرهٍ ونَهمٍ، في أفظع صورها، دون أي اعتبار لمآلات تلك التصرفات الخبيثة، المليئة بالكراهية والاحتقار للآخر، وما تنطوي عليه من نظرة دونيةٍ لكل ما هو مُناهض أو رافض لأفكاره.
من المؤسف أن الرئيس الأمريكي السابع والأربعين لا يتحلى بأي قيمٍ إنسانية عُليا؛ بل يحرص على الإتيان بكل ما هو قبيح ووقح وشاذ، ولننظر إلى خطابه السُلطوي الفاشي تجاه الوضع في قطاع غزة. ففضلًا عن تورُّط الولايات المتحدة في سفك الدماء الفلسطينية الزكية، من خلال تزويد كيان الاحتلال الإسرائيلي بالمتفجرات الثقيلة والأسلحة الفتّاكة والخبرات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية، فإنَّ الإدارات الأمريكية المُتعاقبة؛ سواء الديمقراطية أو الجمهورية، تنحاز وتخضع لإسرائيل في جميع المواقف، ولنا أن نتخيل أنَّ أكبر دولة في العالم تصوِّت بالرفض على أكثر من مشروع قانون في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، يُطالب بوقف إطلاق النار في غزة؛ بل وتُعلن واشنطن كل بضعة أشهر عن تمرير صفقات تسليح لإسرائيل لمواصلة حربها الشعواء على الشعب الفلسطيني الأعزل.
أضف إلى ذلك، أن ترامب عندما طرح فكرته الخبيثة بتهجير سكان غزة، أطلق الفكرة وكأنها تحققت، وتحدث عن عمد إلى وسائل الإعلام بصورة توحي أنه واثق لا- محالة- من تنفيذ الفكرة كما يرغب ويهوى، ومارس ابتزازًا رخيصًا وعنجهية فارغة بحق الدول العربية وقال إنهم "سيفعلون ذلك"؛ أي أنهم سيقبلون بالتهجير. ورغم الموقف العربي الصلب الرافض للتهجير، إلّا أنه ما يزال يطرح مُخططه لتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، بعد تهجير أهلها. هنا نقطة بالغة الأهمية في الفكر الرأسمالي المُتوحِّش لترامب، قطب العقارات الأمريكي ورجل الصفقات، كما يصف نفسه في كتابه "فن الصفقة"، إنه نموذج للرأسماليّ الذي يرى أنَّ حل جميع المشكلات في العالم يتم من خلال المال وحده، حتى إن جميع فضائح ترامب وصفقاته المشبوهة كان المال العنصر الأساسي فيها.
ترامب أيضًا يرى في نفسه نموذج "المُخلِّص" لهذا العالم، وهي فكرة يمينية مُتطرفة، ترتكز على احتقار الآخر والتقليل من شأنه ومحاربة كل مُختلِف معه، لكنه "مُخلِّص رأسمالي" لا يؤمن بأي مبدأ، ويمارس عبادة المال في أحقر صورها، ينظر إلى العالم بمنظارٍ دولاري، هذا يساوي دولاراً وذاك عشرة دولارات!! يُعلن سياسات ويتخذ إجراءات فقط من أجل المال واكتناز القناطير المُقنطرة من الذهب والفضة والدولارات المُسوَّمة، لا يعبأ بالنتائج الكارثية، غرورًا منه بأنها ستصب في صالحه تحت شعارٍ فوقيٍّ يؤمن به ويُردده ليل نهار: "أمريكا أولًا"! دون أن يعلم أن "أمريكا أولًا" تكون من خلال القيادة الرشيدة لا المتهورة، والاقتصاد الداعم لاقتصادات العالم، لا الاقتصاد القائم على الحروب التجارية والابتزاز، "أمريكا أولًا" بالقيم الإنسانية الداعمة للحُريات والحقوق، لا السالبة لها والمُهينة للكرامة الإنسانية، "أمريكا أولًا" بانفتاحها على العالم باعتبارها أرض الفرص والأحلام، لا الطاردة للمهاجرين والراغبة في مُمارسة التطهير العرقي في بعض الولايات، لضمان "نقاء" السلالة الأمريكية!
لا ريب أنَّ النظرة الرأسمالية المُتوحِّشة من الرئيس الأمريكي للعالم من حوله، ستقودنا حتمًا إلى صراع عبثي سيقضي على كل آمال وفرص التعايش والتفاهم بين شعوب الأرض، سيظل ترامب يُمارس ابتزازه المُنحط للآخرين على أعتاب بيته الأبيض، شاهرًا سيف الرأسمالية، مُلقيًا بكل ثقله الرأسمالي من أجل انتزاع كل ما يُريد، ولعل الشجار العلني بينه وبين الرئيس الأوكراني على الهواء مباشرة، قد كشف عن جزء مما يدور في الغرف المُغلقة، فهكذا يُدير رئيس أكبر دولة في العالم سياسته الخارجية، وهكذا يبتز خصومه ويُخضِعَهم ويَحُط من قدرهم، وهكذا يُمارس نائب الرئيس الأمريكي دور "كلب الحراسة" باعتباره مدافعًا شرسًا عن سياسات رئيسه الرأسمالي المُتوحِّش. ومن المُفارقة أنَّ الولايات المتحدة التي تخوض حربًا مع روسيا بالوكالة عبر أوكرانيا، يسعى الآن رئيسها "صديق بوتين" لاستغلال الوضع؛ إما استسلام أوكرانيا لشروط الدب الروسي في السلام، أو منح الولايات المتحدة نصف المعادن الأوكرانية مجانًا من أجل مواصلة واشنطن دعمها لكييف، وحتى يظل الرئيس الأوكراني "مُمتنًا وشاكرًا" للولايات المُتحدة.
ويبقى القول.. إنَّ التوحش الرأسمالي الذي يُنفذه ترامب، لن يقود العالم سوى لمزيد من الأزمات والصراعات والحروب بأنواعها؛ إذ لم يعد العالم مُستعدًا لقبول "الوحش" الأمريكي الذي يُمارس البطش في كل مكان، كما إنَّ عبادة المال وهيمنة المصالح الاقتصادية دون أدنى اعتبار لقِيم أو مبادئ أو أخلاق، ستُفضِي في نهاية المطاف إلى انهيار النموذج الحضاري المُتقدِّم للإنسانية، وسيادة شريعة الغاب.. لذلك لا بديل لدول العالم سوى الاتحاد في مُواجهة البطش الأمريكي، ورفض أية مساومات على الحقوق أو الرضوخ للغطرسة الأمريكية، ومُواصلة مقاومة الظلم بكافة أشكاله، عندئذٍ ستنكسر شوكة ذلك الاستعلاء الرأسمالي المُتوحِّش، وسينتصر الخير، وتعلو قِيم الحق، ويعُم الوئام أنحاء العالم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الولایات الم أمریکا أول ا الذی ی
إقرأ أيضاً:
ترامب يدمر 100 عام من التفوق الأمريكي في 100 يوم
بينما تغمر إدارة ترامب الساحة بسلسلة من التحولات المتطرفة المتلاحقة، حازت سياسة الرسوم الجمركية على معظم الاهتمام. إلا أن السياسة التي قد تكلف الولايات المتحدة أكثر على المدى الطويل هي الهجوم الذي تشنه الإدارة على الجامعات والبحث العلمي بشكل عام.
لطالما قادت الولايات المتحدة العالم في مجال العلوم إلى درجة أن البعض قد يظن أن هذا التفوق سمة طبيعية دائمة لها. لكن في الواقع، خلال القرنين التاسع عشر وأوائل العشرين، كانت الولايات المتحدة أكثر تبعية من كونها رائدة. كثيرًا ما كان الصناعيون البريطانيون يشكون من أن الشركات الأمريكية تسرق تقنياتهم وتنتهك براءات اختراعاتهم. وخلال العقود الأولى من القرن العشرين، كانت ألمانيا هي الدولة التي حصدت أكبر عدد من جوائز نوبل العلمية، حيث نالت ثلث الجوائز، تلتها بريطانيا بنحو 20%، بينما حصلت الولايات المتحدة على 6% فقط.
3 قوى هائلة غيّرت المشهد العلمي في منتصف القرن العشرين.
الأولى كانت أدولف هتلر، الذي دفع بجيل من أعظم العقول العلمية في أوروبا للفرار إلى أمريكا. ومن بين جوائز نوبل العلمية التي فازت بها ألمانيا حتى عام 1932، ربعها تقريبًا كان من نصيب علماء مهاجرين رغم أن نسبتهم لم تتجاوز 1% من السكان. هؤلاء العلماء أسسوا لاحقًا العمود الفقري للمؤسسة العلمية الأمريكية. وبعد إصلاحات الهجرة عام 1965، استمرت الولايات المتحدة في جذب أفضل العقول من أنحاء العالم، خصوصًا من الصين والهند، الذين قدموا للدراسة وبقوا لتأسيس مختبرات بحثية وشركات تكنولوجية.
القوة الثانية كانت الحربينِ العالميتين. فبحلول عام 1945، كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا مدمرة، فهناك ملايين القتلى، ومدن مهدمة، وحكومات غارقة في الديون. حتى الاتحاد السوفييتي، رغم انتصاره، فقد نحو 24 مليون شخص. في المقابل، خرجت الولايات المتحدة من الحرب مهيمنة اقتصاديًا وتكنولوجيًا وعسكريًا.
أما القوة الثالثة، فكانت القرار الاستثنائي الذي اتخذته الحكومة الأمريكية بتمويل البحث العلمي الأساسي على نطاق واسع. ففي خمسينيات القرن الماضي، بلغ إنفاق البحث والتطوير نحو 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى نسبة حينها. وقد ابتكرت أمريكا نموذجًا فريدًا، ففي حين تتنافس الجامعات العامة والخاصة على التمويل الحكومي، كانت الحكومة تمولها دون أن تدير البرامج مباشرة، ما أوجد بيئة حرة ومبدعة أدت إلى بناء أعظم منظومة علمية في تاريخ البشرية.
اليوم هذه القوى الثلاث جميعها تشهد تراجعًا. فإدارة ترامب في حالة حرب مع الجامعات الرائدة في البلاد، مهددة إياها بالاستحواذ العدائي، وحارمة إياها من مليارات الدولارات من تمويل البحث العلمي. أما الجواهر العلمية الوطنية مثل المعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم، فهي تتعرض للتدمير الممنهج.
الميزة الثانية للولايات المتحدة، وهي تفوقها الساحق على بقية العالم منذ 1945، قد تراجعت بالفعل. وخلال العقد الماضي، أصبحت الصين تتفوق في مؤشرات علمية رئيسية، فهي تنشر الآن عددًا أكبر من الأبحاث العلمية في 82 مجلة رائدة يتابعها مؤشر (ناتشر)، وتتقدم الولايات المتحدة أيضًا في مجالات الهندسة والتكنولوجيا. في مجال براءات الاختراع، تتلقى الصين قرابة نصف طلبات العالم، ولم يعد هناك أي مقارنة مع الولايات المتحدة. أما من حيث الجامعات، فقد ارتفع عدد الجامعات الصينية في قائمة أفضل 500 جامعة من 27 جامعة عام 2010 إلى 76 جامعة عام 2020، بينما انخفض عدد الجامعات الأمريكية من 154 إلى 133.
الميزة الثالثة والأخيرة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، والتي عجزت الصين عن مضاهاتها، هي قدرتها على جذب أفضل العقول من جميع أنحاء العالم. ففي الفترة بين 2000 و2014، كان أكثر من ثلث الأمريكيين الذين فازوا بجوائز نوبل في العلوم من المهاجرين. وفي 2019، كان نحو 40% من مطوري البرمجيات مهاجرين. وفي مراكز علاج السرطان الكبرى عام 2015، تراوحت نسبة الباحثين المهاجرين من 30% إلى 62%.
لكن هذا المشهد يتغير بسرعة مخيفة. تُلغى مئات التأشيرات، ويتم ترحيل الطلبة والباحثين، وخاصة من الصين، وسط تهديد دائم بالتحقيقات الفيدرالية. في المقابل، تطرح الصين برامج سخية لاستعادة أفضل عقولها، بينما يختار آخرون التوجه إلى أوروبا وكندا وأستراليا. وفي استطلاع أجرته مجلة (ناتشر) الشهر الماضي، سُئل الباحثون الأمريكيون عما إذا كانوا يفكرون في مغادرة البلاد، وأجاب 75% بالإيجاب.
هذه هي اللبنات الأساسية التي صنعت قوة أمريكا الاستثنائية خلال القرن الماضي، وهي الآن تُفكك في غضون مائة يوم فقط.