العقيدة الإسلامية هي حقيقة ثابتة وشاملة تُحدد علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالآخرين، وبالكون من حوله. فعاليتها تكمن في تحويل الإيمان إلى قوة دافعة للإصلاح والتنمية، مما يجعلها الأساس المتين لبناء الفرد والمجتمع.

الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر يواصل في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، البحث في مدلول العقيدة الإسلامية ومفرداتها.



أ ـ التأطير العقدي للفكر

إن الفكر يسبق العمل، وليس العمل إلا نتاجا للفكر، ولا يكون الفكر الإسلامي رشيدا إلا إذا كان موصولا بالاعتقاد، صادرا عنه، ويتمّ ذلك بأن يكون المسلم في كل ما يفكر فيه لإنتاج الرؤى والتصوّرات والمخطّطات والمشاريع مستحضراً للعقيدة الإسلامية استحضارا تكون به تلك العقيدة حالا له لا مجرّد مفردات يحملها ذهنه.

وبهذا الاستحضار الحالي يتكيف الفكر بمقتضيات العقيدة أولا في مستوى القصد والعزم، فيوضع إذن الفكر في سياق الاعتقاد ابتداءً، ويوطّد على نهجه ليتحرّك ضمنه. ثمّ يتكيّف بعد ذلك في حركة بنائه للأفكار والصور بمقتضيات العقيدة بأن يتّخذ من معانيها ومقاصدها ناظماً ينظم كل تلك الرؤى والصور، ويكوّن منها بناءً متكاملاً في كل ميدان أراد فيه بناء، حتى تكون العقيدة هي الروح السارية في كل فكرة بعينها، وفي كل بناء فكري مركّب..

إن الفكر يسبق العمل، وليس العمل إلا نتاجا للفكر، ولا يكون الفكر الإسلامي رشيدا إلا إذا كان موصولا بالاعتقاد، صادرا عنه، ويتمّ ذلك بأن يكون المسلم في كل ما يفكر فيه لإنتاج الرؤى والتصوّرات والمخطّطات والمشاريع مستحضراً للعقيدة الإسلامية استحضارا تكون به تلك العقيدة حالا له لا مجرّد مفردات يحملها ذهنه.وعلى سبيل التمثيل لذلك فإن الفكر الإسلامي إنما يكون رشيدا عقديا حينما يكون نظره في الكون لبناء صورة علمية عنه موجّها في كلّ حين بحقيقة وحدانية الله في أفعاله، تلك الوحدانية التي كان بها الكون موحَّد القانون، فتحصل إذن تلك الصورة العلمية متولّدة عن وحدانية الله، وحينما يكون نظره لإنتاج قوانين تنظّم المجتمع موجّهاً بوحدانية الله في حكمه، فتكون إذن تلك القوانين مصاغة بحسب وحدانية الله في الحكم، وحينما يكون نظره في النظام الاقتصادي موجّهاً بحقيقة أن الملكية الحقيقية إنما هي ملكية الله، وليس الإنسان إلاّ مستخلفا فيها، وحينما يكون تخطيطه لبرامج استثمار الكون موجّها بعقيدة الارتفاق انتفاعا ورفقاً في نفس الآن، وهكذا الأمر في كل منشط من مناشط الفكر.

وقد كانت المهمّة الأساسية للفكر الإسلامي هي أن يصوغ من الشرع أحكاماً توجّه الحياة، إما صياغة استنباط مباشر من النص، أو صياغة اجتهاد، وفي هذا المجال ظهرت أكبر تجلّياته متمثّلة في الفكر الشرعي المعبّر عنه بعلم الفقه بمعناه الواسع، سواء كان فقهاً تعبّديا أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً.وحينما نطبّق المبدأ الذي بيّناه آنفا في التأطير العقدي للفكر على الصورة الحالية التي عليها الفكر الشرعي موروثة على عهد الانحطاط مفصولاً فيها الوجه العملي عن الوجه العقدي، حينذاك فإن الترشيد الاعتقادي يقتضي أن يصاغ الفكر الشرعي من جديد صياغة عقدية بحيث تبدو فيه روح العقيدة سارية في مفرداته، وفي هيكله العامّ مؤطرة له في كلّ مساراته. ويكون ذلك بأن يتمّ هذا التأطير بصورتين متكاملتين:

الصورة الأولى ـ أن يعمد الفكر الشرعي إلى كل محور من المحاور الأساسية للشريعة فيدرج بين يديه مبحثا عقديا يتعلّق به، ويكون ذلك المبحث كالسند لكافّة قضايا المحور، يوجّه بناءها وترتيبها والاجتهاد فيها عن قرب. فإذا محور العبادات على سبيل المثال يتقدّمه مبحث عقدي في العبادة في المفهوم الإسلامي وخصائصها وأبعادها الروحية والتربوية، ومحور المعاملات الاقتصادية يتقدّمه بحث في المال من الناحية العقدية من حيث حقيقة الملكية في المفهوم الإسلامي، ودورها في الخلافة في الأرض. ومحور الأنكحة يتقدّمه مبحث في الأسرة من حيث أهميتها في البناء الاجتماعي، ودورها في التعمير، وقداسة روابطها ومواثيقها.

وهكذا يمكن أن تدرج في منظومة الأحكام الشرعية بحسب ما يناسب كل محور فيها مباحث عقدية أخرى مثل: قيمة الإنسان المبنية على التكريم، وغاية وجوده التي هي الخلافة في الأرض، وحقوق الإنسان في العدل والمساواة، وعلاقة الإنسان بالكون ومنزلته فيه، والعدالة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي، بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا ويسند إلى مبحث تأصيلي من مباحث العقيدة.

الصورة الثانية ـ أن تقرن القضايا والأحكام الشرعية المندرجة في محاورها العامّة بمغازيها العقدية القريبة المندرجة في مباحثها الكلية المصدّرة بين يدي المحاور، بحيث لا يُقرّر حكم في النظر أو في التطبيق إلا وهو مرتبط بسند عقدي جزئي بالإضافة إلى استناده العام في نطاق محوره إلى السند العقدي العام للمحور كله، فإذا حُكم منع الاحتكار على سبيل المثال مرتبط عند تقريره بمغزى عقدي تربوي هو محاربة الأنانية والجشع والبغي، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاقتصادي بمبدإ عقدي عام هو أن الملكية الحقيقية للمال هي ملكية الله.

وإذا حُكم الوجوب في بعض وجوه الإنفاق التي يلزم بها وليّ الأمر أثرياء الأمّة مستند إلى مغزى عقدي هو حقّ كفالة المحتاج في المجتمع، وذلك في نطاق ارتباطه ضمن محوره الاجتماعي  بمبدإ عقدي عام هو تكريم الإنسان وحفظه من الهوان، وهكذا الأمر في سائر أحكام الشريعة حينما يباشرها بالتقرير والصياغة والتطبيق.

وبالتكامل بين هاتين الصورتين يكون الفكر الشرعي وهو يعالج واقع الأمة بأحكام الشريعة موجّها بالعقيدة في كل حال، فإذا ثماره من الأحكام تنتظم في سياق عقدي انتظاما محكما، فما من حكم يتقرّر إلاّ وقد وجّه بمغزى عقدي جزئي في نطاق ذلك الكلّي، فتصبح الشريعة بذلك في توجيهها لكافة مناشط الحياة موصولة بالعقيدة لما كان من تأطير عقدي دائم للفكر الذي يقرّرها، فتسري إذن روح العقيدة في كل خاطرة فكر، وفي كل حكم شرعي.

نحسب أن الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين كان له غرض في هذا المعنى من الوصل بين العقيدة والشريعة في نطاق غرضه الأعلى الذي هو الإحياء الروحي لعلوم الدين، ذلك أنه رأى أن علوم الشريعة انحرف بها أهلها إلى الفصل بين أحكامها كما تقررها أفهامهم، وبين روح العقيدة الإسلامية، فتبدّدت بذلك وتشتّتت..ونحسب أن الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين كان له غرض في هذا المعنى من الوصل بين العقيدة والشريعة في نطاق غرضه الأعلى الذي هو الإحياء الروحي لعلوم الدين، ذلك أنه رأى أن علوم الشريعة انحرف بها أهلها إلى الفصل بين أحكامها كما تقررها أفهامهم، وبين روح العقيدة الإسلامية، فتبدّدت بذلك وتشتّتت، فألّف هذا الكتاب الذي بناه على صورة فقهية لأغراض من أهمّها " ترتيب ما بددوه، ونظم ما فرّقوه"، وذلك بإعادة الربط بين العقيدة وبين أحكام الشريعة، فإذا هو يصدّر كتابه ذا الصورة الفقهية بمبحث عقدي عام شامل ترجم له بكتاب قواعد العقائد، ثم هو يتعهّد كل محور فقهي بعد ذلك، وأحيانا كل حكم شرعي بعينه بالوصل بينه وبين مغزاه العقدي ليكون الفكر المستنبط أو الفكر القارئ المتفهم مرتبطا دوما بمعاني العقيدة، مقاومة منه في ذلك لما رآه من "ميل أهل العصر عن شاكلة الصواب، وانخداعهم بلامع السراب، واقتناعهم من العلوم بالقشر عن اللباب" . إنها إذن حركة ترشيد عقدي قام بها الغزالي يريد بها تأطيرا عقديا للفكر كلّه، وهو ما تدعو الحاجة إليه الآن في نطاق ما ندعو إليه من الترشيد العقدي.

ويلحق بالفكر في هذا المجال كل ما هو شبيه به من ألوان المنازع الإنسانية في توليد الصور والتعبير عنها، مثل سائر الآداب والفنون شعرا وأناشيد ورسوماً وحركات جسمية وسواها، فإنها هي أيضاً ينبغي أن تكون موصولة بمعاني العقيدة صادرة بتوجيه منها، بحيث تكون واقعة في النفوس موقع الدفع إلى المتعة الجمالية بآيات الله في الكون، أو موقع الحثّ على العمل والتحفيز إليه، أو موقع الإثارة للدفاع عن النفس أو عن الإنسان المظلوم عامّة، أو الإثارة للحركة في سبيل نشر الخير والحقّ بين الناس لتحقيق معنى الشهادة عليهم، فهذه المواقع التي تقعها في نفوس المخاطبين إنما هي دالّة على المواقع التي منها تصدر من المخاطبين، وهي مواقع التوجيه العقدي الشامل.

إقرأ أيضا: العقيدة الإسلامية أساس الدين كله والمرجع الذي يوجّه الأحكام..

إقرأ أيضا: العقيدة الإسلامية من الدلالة الغيبية النظرية المؤسّسة إلى البعد العملي

إقرأ أيضا: ترشيد مدلول العقيدة في تصوّر المسلمين يستلزم نظرا جديدا في المفردات

إقرأ أيضا: العقيدة الإسلامية ليست مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العقيدة اجتهاد عقيدة اجتهاد مفاهيم سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العقیدة الإسلامیة الفکر الإسلامی علوم الدین إقرأ أیضا الله فی فی نطاق ذلک فی موج ها فی هذا

إقرأ أيضاً:

الحب أخلاق قبل أن يكون مشاعر

 

 

محفوظ بن راشد الشبلي

mahfood97739677@gmail.com

 

كم من الحُب الذي يهديه المُحب لمن أحبه بصدق المشاعر التي تُساوي مقدارها كمية أحاسيسه الجيّاشة التي يكنّها له في قلبه وبين أضلعه والتي لا يُمكن قياسها بأي تعبير وشرح وتفصيل، بل بالفعل الصادق منه والمصحوب بكمية زخم الاندفاع تجاهه، التي لا يُمكن خلطها بازدواجية مع حُب آخر مهما كانت الأسباب المُبررات، لأن سيكولوجية الحُب بمفهومها المُطلق هي تبقى أخلاق وكرامة وعزّة نفس قبل أن تكون مشاعر نُعبّر بها ظاهريًا ونخفي خلفها وجه آخر غير الوجه الذي تُقابل به من أحببت.

وفي زماننا الحالي الذي اختلطت فيه المشاعر الزائفة بتلك الصادقة منها ظهرت فيه ما يُسمى بمفهوم الحب الاحتياطي الذي تُعزف فيه سيمفونية اللحن الظاهري المُزيّف عن اللحن الحقيقي لسيمفونية المشهد التمثيلي في الحب، والذي جعله مُمتهنوه للأسف لوقت الحاجة متى ما احتاج له مال به وضعه الهش الذي يعيشه إلى ذلك القلب وأفرغ فيه من الكلام المعسول والمغلّف بغلاف من البلاستيك أو القرطاس الهَش الذي تُغلّف به الهدايا لتُقدم في المناسبات، وهو ما يُسمى بالحب الفوضوي العاري من الأخلاق الحقيقية في عالم الحُب السطحي الغريب والعجيب في زمان الفوضى الحقيقية لمفهوم الحب المنزوع من صدق المشاعر والأحاسيس والأخلاق الكريمة فيه، وكأن ذلك الإنسان قد جعلوه محطة عبور وانتظار يمرون به في طريقهم وهم عابرون إلى حبهم الذي يعيشونه مع غيره للأسف ثم أُكررها للأسف.

إن الأخلاق في الحب لا يحملها الشخص العادي أو بالمفهوم الآخر العابث بالحب، لأن الأخلاق هي أخلاق والحُب يبقى حُباً لا تُدنّسه المشاعر الزائفة ولا يُمكن جعله بأي شكل من الأشكال أو بأي لون من الألوان ولا بأي لغة من اللغات بمعنى الحُب الزائف أو بالحب الفوضوي أو الاحتياطي، متى ما اختلفت به مع شخص اتجهت به لشخص آخر توهمه به وتجعله كالأهبل في حبه لك أو كالغبي أو كالأطرش في الزفّة بحبك الذي ادعيته له وأوهمته بأنك تُشاطره إياه وأنت في حقيقتك أوقعته في هشاشة حب تُبادله غيره وتعزف لحنه الهزيل معه وهو المسكين أفنى عمره في حبك، فأين هي أخلاقك في الحب أيها المدعي له.

في منظومة الحب ليكن في مفهومك لن يُطبّع معك ولن يقبل ولن يرضى منك صاحب الحب الحقيقي بأن يكون محطة انتظار أو عبور لك مهما لمّعت له زيف مشاعرك وأهديت حقيقتها لغيره، إن كانت هي أصلاً حقيقية معك ومع غيرك، إلا إذا كان هو كذلك يحمل لك في قلبه حُباً زائفاً خالياً من المشاعر والأحاسيس، أما الكريم في الحب فيبقى كريمًا عزيزًا وفيًا مُخلصًا.

الخلاصة.. إنَّ قلوب البشر ليست محطات عبور متى ما شاءت لها أقدار العابثين نزلوا فيها وغادروها متى ما شاءوا؛ بل هي مكنونة أخلاق ومنبع كرامة وموطن عِزة لمن يفهمها ويُقدّر حُبها، أما وإن تجعلوها محطات عبور وتسلية ومهزلة فالأحرى أن تحترم أشخاصها أولًا قبل أن تحترم حبهم الذي يحملونه لك في مُهجهم أيها العابثون بأخلاق الحُب ومفاهيمه ومعانيه الحميدة.

مقالات مشابهة

  • بين بيغن والضربة الثانية.. جدل بإيران بشأن العقيدة العسكرية
  • الحب أخلاق قبل أن يكون مشاعر
  • زيزويخرج عن صمته: لم أوقع لأى نادى والزمالك مش عايز يجدد عقدي من شهور
  • مؤسسة نظر ترى النور لتعزيز البحث العلمي وتجديد الفكر في المغرب
  • «الرئيس السيسي» لنظيره الفرنسي: من المهم خلق شراكة قوية يستفيد منها كافة الأطراف
  • التوتر قد يكون ايجابيًا..5 نصائح للاستفادة منه
  • قادة الفكر والخبراء يسلطون الضوء على أحدث الابتكارات.. السعودية.. وجهة عالمية لقيادة التحول في إدارة المشاريع
  • البنك الإسلامي للتنمية يعزز تعاونه مع بنك الجزائر لدعم الصيرفة الإسلامية
  • لترويجها الفكر السلفي المتشدد.. تأجيل دعوى إلغاء ترخيص قناة الرحمة لـ 13 أبريل
  • وضع مصدر؟؟؟ دون أدوية.. 3 طرق طبيعية وفعالة للتخلص من الوزن الزائد