الناقد المغربي سعيد الفلاق: الحضارة الأندلسية فردوس لا تنتهي عجائبه
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
مدفوعا بشغفه بحقلَي السرد والتاريخ، وبمقاربة ثقافية تهدف إلى كشف التحيزات الثقافية والأيديولوجية في النصوص السردية، ودور السرد في تشكيل هوية المجتمع، يواصل الناقد المغربي سعيد الفلاق المسار الذي استهله سنة 2019 من خلال كتابه "التخييل التاريخي في الرواية العربية المعاصرة"، عبر إصدار جديد تحت عنوان "تخييل الأندلس"، سرد التاريخ بين الواقع والأيديولوجية في الرواية العربية والإسبانية،" عن منشورات ضفاف ببيروت، ودار الأمان بالرباط، والاختلاف بالجزائر، ودار سامح بالسويد.
ويندرج الإصدار الجديد للناقد المغربي ضمن ما يمكن تسميته بـ "نقد رواية الأندلس"، إذ يسعى من خلاله إلى دراسة تمثيلات تاريخ الأندلس الممتد لأكثر من 8 قرون في المرويات والسرود، في محاولة لسد فراغ ملحوظ في مواكبة العدد الهائل من الروايات التاريخية حول الأندلس نقديا.
وفي سياق سعيه لتقديم إجابات للأسئلة المتشابكة التي يطرحها هذا الموضوع، لا سيما المتعلقة بعلاقة الرواية بالتاريخ، وراهنية موضوع الأندلس، وإمكانية كتابة رواية تاريخية بمعزل عن المنزع الأيديولوجي، يحاول الفلاق عقد مقارنة بين روايتين عربيتين هما روايتا "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور و"البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج، وروايتين إسبانيتين هما "المخطوط القرمزي" لأنطونيو غالا و"قبر المنفي" لخوزيه ثونيغا.
إعلانفي مقابلته مع الجزيرة نت يسلط الناقد المغربي الفائز بجائزة كتارا سنة 2022 في فئة الدراسات النقدية عن دراسته "السرديات من النظرية البنيوية إلى المقاربات الثقافية"، الضوء على إصداره الجديد، ويتحدث عن مشروعه النقدي الذي يرتكز على رواية التخييل التاريخي، وعن أسباب اختياره لموضوع "تخييل الأندلس"، متطرقا إلى خصائص الرواية التاريخية، وكاشفا خلاصة دراسته في ما يخص الفرق في التعاطي مع تاريخ الأندلس بين الروائيين العرب والإسبان.
دفعني شغفي بحقليْ السرد والتاريخ إلى الاهتمام بهذا الجانب، فقد لاحظت أن الروايات العربية تجنح بكثافة لإعادة تمثيل قضايا التاريخ، وتسريد تجارب وشخصيات تنتمي إلى حقب مختلفة. مما دفعني إلى التساؤل عن سبب هذا الاندفاع نحو التاريخ. هل هو هروب من الحاضر أم بحث في الجذور المؤسِّسة له، والفاعلة فيه؟ كيف يدخل التاريخ إلى التخييل، هل بواسطة الاستنساخ الحرفي للمدونة أم بملء البياضات أم بتشكيل تاريخ بديل آخر؟ هذه الأسئلة شكلت بداية التفكير في الرواية التاريخية، ثم ساعدني التكوين الأكاديمي في التعمق أكثر في العلاقة الملتبسة بين الطرفين، ولكي أصل إلى ذلك كان عليّ قراءة الأدبيات المؤطرة لهذا المجال خاصة بول ريكور وهايدن وايت وبول فين، وهو ما قادني، من جانب آخر، إلى الدراسات الثقافية في سياق فكر ما بعد الحداثة التي درسَت السرد التاريخي، والتخييل السردي بالانتباه إلى السياقات المعرفية الموسعة التي ربطت الحكي بلحظات الإنتاج والتلقي من جهة، وبالمحيط السياسي والاجتماعي من جهة ثانية.
لهذا، أعتبر أن ثنائية التخييل والتاريخ صارت تصوغ هوية الرواية العربية والعالمية في كتابة الذاكرة الجمعية، وتخييل سرد الضحايا، وتأليف السرديات البديلة.
ما هي المرجعية النقدية التي تستند إليها في دراسة النصوص الروائية؟ إعلانأتبنى في أعمالي ما أسميه بالتحليل الثقافي للنصوص السردية. تستمد هذه المقاربة الثقافية مفاهيمها الأساس من فكر ما بعد البنيوية الذي شهد بروز تيارات كثيرة تتجاوز بنيات النص ودلالاته المحايثة إلى مساءلة أنساق الخطابات، والكشف عن تحيّزاتها الثقافية والأيديولوجية، والبحث في دور السرد في تشكيل هوية الأمم والمجتمعات. من هنا، فمرجعيتي البحثية تنظر إلى الخطاب باستحضار سياقاته التاريخية والاجتماعية والثقافية، لكن دون أن نُلغيَ بنية النص ونسقه الداخلي. ذلك أن تكوين صورة كاملة عن الإنتاج الأدبي يقتضي النظر بعينيْن لا بعينٍ واحدةٍ. بهذا الفهم، أرفض آراء من يسيئون إلى البنيوية، كما أرفض، في المقابل، من ينتصرون حصرا للنقد الثقافي.
في رأيي أن العمل الأدبي مفتوح على التأويلات والقراءات، لكن هذا لا يلغي البعد النصي "الصنمي" بتعبير جيرار جنيت. علينا أن نستفيد من كلا التوجهين في أعمالنا، وقد طبّقت هذا الأمر في كتاب "السرديات من النظرية البنيوية إلى المقاربة الثقافية" (2023)، وخلصت إلى أنه يعطي نتائج ثرية تغني التحليل الثقافي بما هو تطوير للسريات الكلاسيكية.
نسجل أن هناك نقصا في هذا الجانب، فمع وفرة النصوص الروائية حول الأندلس تغيب المتابعة النقدية الوافية، والمقارِنة بين الأعمال العربية فيما بينها، ومع النصوص الغربية، خاصة الإسبانية. لا أتحدث عن مقالات فردية هنا أو هناك، ولكن عن كتب ومشاريع تتغيى بناء نقد لرواية الأندلس بمعناه النسقي المحايث، والتأويلي الثقافي. لذلك، ما يزال هذا المجال يحتاج إلى تظافر جهود الباحثين في الوطن العربي، وأحسب أن كتاب "تخييل الأندلس" يسعى إلى تحريك هذه المياه الراكدة، والإسهام، قدر الإمكان، في هذا الاهتمام الذي بدأ يتعاظم بالأندلس خاصة في الندوات واللقاءات.
إعلانأسجل، من جهة أخرى، أن هناك جملة من الأبحاث الجامعية لاسيما في سلك الدكتوراه، ما تزال رهينة مكتبات الكليات، وهذه فرصة، لأنبه إلى أهمية نشرها سواء من قِبل أصحابها، أو من لدن الجامعات الحاضنة لها، كما يمكن للعمل الجماعي داخل فرق البحث التي تُعنى بالسرديات أو بالمجال المتوسطي والإيبيري أن يكون له فائدة كبيرة في إعادة قراءة المنجز السردي حول الأندلس بأسئلة متجددة، وبخطابات نقدية دياكرونية وسانكرونية تحيط بالتاريخ الأندلسي الممتد، ليس فقط في بعده السياسي، ولكن أيضا الثقافي والموسيقي والشعري والعمراني والحضاري.
تفتتح الكتاب بمقولة لخوليو باروخا يقول فيها "موضوع الموريسكيين موضوع جديد دائما" ما الذي يجعل من هذا الموضوع موضوعا جديدا دائما في نظرك؟لم يكن اعتباطا أن يُفتتح الكتاب بمقولة باروخا الواردة في كتاب "مسلمو مملكة غرناطة"، وذلك للرد على موقف يرى أن الأندلس موضوع مستهلك، نظرا لكثرة ما كُتب عنها في مختلف اللغات الإنسانية، ومن زوايا مختلفة، مما يعني أن الباحث لم يعد بإمكانه أن يضيف إلى هذا المجال البحثي أي إضافة، والحال أن الأندلس من أكثر الفضاءات حيوية في مجال العلوم الإنسانية، لأنها لم تعد تدل على محيط جغرافي وتاريخي فحسب، بل تحولتْ إلى براديغم بحثي ضمن دراسات الأندلس التي تتناول شبه الجزيرة الإيبيرية حضاريا ودينيا ولغويا وثقافيا.
ولعل ما احتوته الحضارة الأندلسية من تنوع واختلاف وازدهار أسهم في احتفاظها بطابع التجدد المستمر. إنها بمثابة "فردوس" لا تنتهي عجائبه. يظهر هذا في الإصدارات الهائلة التي تتوالى لاسيما في حقليْ التاريخ والرواية، يعمل التاريخ على النبش في الأحداث بإعادة قراءة ما حدث، سواء في التاريخ الخاص أو العالمي، وتتصدى الرواية لإعادة تخييل تلك الحقبة أو أجزاء منها وفق تصور محدد. بهذا الفهم، لاحظت أن الروايات، على تعدّدها، تُركز على مَلمحين مُتقابلين: تاريخ ازدهار الأندلس حضاريا وفكريا وعمرانيا، حين كانت مصدر إشعاع علمي يستقطب العلماء والمفكرين، وينتج المعرفة بمختلف فروعها (الأدب، الفلسفة، الفلك، الرياضيات، الطب، المنطق، السياسة..)، ثم تاريخ التراجع والانهيار والسقوط عبر الاهتمام بالصراع حول السلطة بين العائلات والملوك والأمراء الذين تعاقبوا على تدبير شؤون الأندلس من ناحية، أو بسرد أحداث الهزيمة الكبرى التي أدت إلى ضياع مملكة غرناطة، آخر قلاع الحكم الإسلامي من ناحية ثانية. الظاهر، من خلال التأمل، أن الملمح الثاني يطغى على الروايتين العربية والإسبانية، ويرجع هذا إلى أمريْن على الأقل: أولهما رغبة الرواية العربية في إظهار المأساة الأندلسية الناتجة عن القمع، والتعذيب، والقتل، والطرد الجماعي. والثاني رغبة الرواية الإسبانية في الاحتفاء باستعادة الأندلس من المسلمين بعد قرون طويلة.
إعلان تتأسس الرواية التاريخية على الجمع بين المرجعيتين التاريخية والتخييلية، أي أنها جنس هجين يمتزج فيه الإبداع بالواقع كما يصفها بعض النقّاد، وفق هذا التصور، أي دور للرواية في إعادة كتابة التاريخ الرسمي؟تتميز الرواية التاريخية بالنظر إلى مفهومها بأنها سرد لأحداث تاريخية ضمن بنية تخييلية، فهي تعمل على العودة إلى حدث مرجعي أو شخصية تاريخية أو حقبة زمنية من صميم الماضي، ثم تبني حبكتها بالاتكاء على التفاصيل التاريخية -أو المفترض أنها تاريخية- وفق بناء سردي تخييلي لا يمكن أن يكون وفيا للمدونة التاريخية بالضرورة، بل إن سرديات ما بعد الحداثة بما جاءت به من مجابهةِ السرديات الكبرى، وهدم ما دُرج على اعتباره "حقائق" يجعل من مهمة الرواية التاريخية مهمة نقدية وتفكيكية بالدرجة الأولى.
بهذا الفهم، يُمكن أن نقول بأن دور الروائي فعال في إعادة كتابة التاريخ الرسمي، ومراجعة المدونات، ومقارنتها بغيرها، لأن التاريخ كُتب بشكل عام بعين السلطة، ذلك أن القوي يفرض إلى جانب سلطته السياسية سلطة أخرى رمزية وثقافية. لقد كان التاريخ مليئا بالافتراءات والصور المشوِّهة للجماعات المضطهدة، مثل "الموريسكيين"، وأظن أنه حان دور الروائي، والمثقف عموما، لإعادة الاعتبار للمغيّب والهامشي.
أشرت في هذا الكتاب إلى تحول مفهوم الرواية التاريخية إلى مفهوم "قدحي" عند بعض الروائيين المعاصرين، وهو ما يلاحظ أيضا بالنسبة لبعض القُرّاء، ما الأسباب التي أدت إلى ذلك في نظرك؟هذا صحيح، لاحظت أن بعض الروائيين يبتعدون عن هذا المصطلح حتى لو كان عملهم يندرج ضمن هذا التصنيف النوعي. إذ يكتفون بالقول بأنهم يكتبون رواية وكفى، دون الحاجة إلى نعتها بالتاريخية. يظهر أن هذه النظرة قديمة تعود، على الأقل، إلى مؤسس الرواية التاريخية والتر سكوت الذي نشر أول عمل له "ويفرلي" دون الإشارة إلى اسمه، وبرّر ذلك فيما بعد بأنه لم تكن له الجرأة الكافية لفعل ذلك خوفا من ردة فعل الجمهور. كما أن جرجي زيدان عانى من وصف أعماله بأنها تندرج ضمن "الآداب الهامشية" التي تقف على هامش الأدب ولا ترقى إلى مستوى الأدب المكرّس الذي تفرضه المؤسسة الأدبية بما تحمله من سلطة رمزية ومادية في أحايين أخرى. ولعل هذا ما دفع بالنقاد إلى تجديد النظر في مفهوم الرواية التاريخية باقتراح مفهوم التخييل التاريخي الذي يعلي من قيمة التخييل الروائي، ويتيح للكاتب إمكانية الانفصال عن سلطة المؤرخ للإفصاح عن الانتماء للفن الروائي.
إعلانغير أنه يلاحَظ أن هذه النظرة بدأت تتفتت بعد أن صارت الرواية التاريخية تحظى بمكانة رفيعة في السرديات الحديثة. كما أن القراء رغم ما قد يُبديه بعضهم من مواقف مشكّكة أو رافضة، فإنهم يجدون متعتهم في قراءة التاريخ بشكل سردي، وهذا ما يفسر إلى حد ما "موضة" الرواية التاريخية التي لا يمكنها أن تموت.
توصف بأنها إبداع "غير تام" كما قلتَ، فقط لأن الكاتب يستفيد من أرشيف واسع، ومعلومات وافرة، وأحداث قد تكون جاهزة إلى حد كبير. غير أنه وجب التنبيه هنا إلى أن الروائي الجيد هو من ينطلق من الحادثة التاريخية ثم يتجاوزها، لأن من يعمد إلى إعادة كتابة السير التاريخية لبعض الشخصيات أو الأحداث دون مجهود تخييلي، فإن عمله لا يعدو أن يكون نقلا وإلصاقا ودمجا. هذا "البريكولاج" يصعب أن نصفه إبداعا، بل إنه قد يسيء إلى فن الرواية التاريخية، ويدفع بالقراء والنقاد إلى الابتعاد عن بعض التجارب الإبداعية رغم ما تحقّقه من تراكم.
أعتقد أن فهم خصائص الرواية التاريخية مفيد جدا لكل من الروائي الذي يبدع نصوصا تخييلية تاريخية من ناحية، وللقارئ الذي عليه أن يعرف المساحة التي يتحرك فيها كي لا يذهب إلى التصديق بأن ما يقرأه حقائق ثابتة، لا نص تخييلي من ناحية ثانية، وللناقد الذي يكشف بنى النص وسياقاته من جهة ثالثة.
درستَ في إصدارك الجديد روايتيْ "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور و"البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج، ثم روايتيْ "المخطوط القرمزي" لأنطونيو غالا و"قبر المنفي" لخوزيه ثونيغا. السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل يمكن كتابة رواية تاريخية بمعزل عن المنزع الأيديولوجي؟الحقيقة أن أيّ كتابة مهما كانت طبيعتها لا يمكنها أن تبتعد عن المنزع الذاتي، غير أنه مثلما يمنح تخييل التاريخ الحرية للروائي في تمثل الأحداث، وتمثيل المرحلة، فإن حضور المنزع الأيديولوجي القومي الضيق يضر بالإبداع، ويجعله يُكرّس السرديات الغالبة. انتبهتُ، مثلا، إلى أن رواية "المخطوط القرمزي" في كتابتها لسيرة الأمير ثم الملك أبي عبد الله الصغير تلجأ إلى إنكار الوجود العربي/ الأمازيغي برمته، فلا وجود لشخصيات مثل طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الداخل، وحتى إن اعترف ببعضها، فإنه يُرجع أصولها إلى أقوام أخرى، ذاهبا إلى أنها مجرد اختراع عربي لإضفاء الشرعية على انتصارات وهمية.
إعلانأما "قبر المنفي"، فإنها تسيء، بمعنى من المعاني، إلى ثورة البشرات التي جاءت ردّا على القوانين المتتالية التي هدفت إلى تنصير أهل الأندلس، والقضاء على هويتهم ولغتهم ودينهم. بينما يلاحظ أن "ثلاثية غرناطة" و"البيت الأندلسي" تبتعدان عن القومية الضيقة في تمثيلهما لسردية الضحايا المطرودين من أرضهم.
لهذا، فإن التلاعب بالتاريخ سرديا يمكن أن يحدث، مثلما يحدث التلاعب به تاريخيا، وهنا تزداد الحاجة إلى الرد على النصوص السردية بنصوص أخرى سردية لخلق نوع من التوازن، وفتح المجال للنظر إلى التواريخ ليس بصفتها أحداثا ناجزة ونهائية، ولكن في إطار الممكن دون السقوط في الخطاب القومي الإقصائي الذي يصدره بعض الروائيين الإسبان باعتبارهم أن الأندلس مجال تاريخي وحضاري إسباني حصري لا امتداد عربيا له. إن الأندلس هي إرث إنساني، وجزء أصيل من تاريخ وذاكرة الأمة العربية والإسلامية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان فی الروایة العربیة الروایة التاریخیة تاریخ الأندلس هذا المجال من ناحیة فی کتاب فی هذا من جهة ما بعد الذی ی إلى أن
إقرأ أيضاً:
يد غادة الصغيرة - قصة ألم لا تنتهي جراء الإبادة الإسرائيلية في غزة
على الأرجوحة الصغيرة في ساحة مدرسة "دار الأرقم"، كانت الطفلة غادة دبابش (6 سنوات) تحاول أن تنتزع من الحرب فسحة لعب، كأنها ترفض أن تُسرق منها طفولتها. تضحك وتتمايل بخفة، ولم تكن تعلم أن تلك اللحظة البريئة ستكون آخر عهدها بكامل جسدها.
صاروخ إسرائيلي أنهى المشهد، وبتر يدها اليمنى بالكامل، اليد التي كانت تكتب بها، وتتناول طعامها، وتتشبث بها بأختها الكبرى، وتلوّح بها لأمها كل صباح.
وغادة، النازحة من حي الشجاعية شرق مدينة غزة ، كانت ضمن عشرات الأطفال المقيمين في المدرسة التي تحوّلت إلى ملجأ للنازحين وسط المدينة.
في المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل مطلع أبريل/ نيسان، قُتل 31 فلسطينيًا وأُصيب أكثر من 100، كثير منهم أطفال مثل غادة.
وزعم الجيش أنه هاجم "مجمع قيادة" ل حماس بقصفه مدرسة الأرقم، فيما نفى مكتب الإعلام الحكومي بغزة ذلك، مؤكدا أن الهجوم استهدف نازحين مدنيين.
والجمعة، قال المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إن النساء والأطفال تصدروا قائمة الضحايا منذ استئناف إسرائيل حربها على قطاع غزة في 18 مارس/آذار الماضي، موضحًا أن الجيش الإسرائيلي قتل خلال تلك الفترة 595 طفلًا و308 سيدات.
وتجلس غادة اليوم، في زاوية من مدرسة أخرى أُعيد تهجيرها إليها، لا تبوح بالكثير، لكنها تحمل في نظراتها ما يفوق الكلام. تبتسم حين تُسأل، لكنها تسرح سريعا في صمتها الطويل، كأنها تحادث شيئا لا يُرى.
يقول والدها أحمد دبابش، بصوت مُتعب: "كانت تلعب على الأرجوحة في ساحة المدرسة، وتضحك. وفجأة سقط صاروخ.. أصيبت بشظية في يدها مباشرة، وكانت الإصابة بالغة جدًا. أسعفتها بنفسي، ربطت يدها لأوقف النزيف، وركضنا إلى المستشفى. كنت أدرك أن يدها قد لا تُنقذ من شدة التهتك".
وأضاف: "دخلت غرفة العمليات.. حاول الطبيب، لكنه عاد ليخبرنا أن البتر لا مفر منه".
وتابع بألم: "وقّعت على العملية وقلبنا يتقطع، لكن هذه مشيئة الله ونحن مؤمنون. غادة كانت تستخدم يدها اليمنى في كل شيء: في الأكل، والكتابة، حتى دخول الحمام. الآن نحاول أن نواسيها، وندربها على استخدام يدها اليسرى، لكنها تتعب كثيرًا، حتى من الضحك".
وتقول الطفلة بصوت خافت ووجه شاحب: "أنا غادة دبابش.. عمري 6 سنين.. اليهود قطعوا إيدي وأنا نفسي بيد بدالها".
ولا تُعاني غادة من ألم الإصابة فقط، بل من تداعياتها اليومية، فلا تستطيع اللعب كما كانت، ولا استخدام الحمام دون مساعدة، ولا الكتابة التي كانت تحبها.
وتدخل شقيقتها الكبرى ملك (8 سنوات)، على خط الألم بصوت طفولي ممتزج بالحسرة: "كنت أحمل أخي الصغير عندما حدث القصف فجأة.. امتلأ المكان بالدخان ولم أرى شيئا.. كنت أتمنى أن ينتهي الدخان سريعا فقط لأعود لأمي".
ثم تستدرك بصوت مثقل بالمسؤولية: "أتمنى أن نحظى غادة بطرف صناعي حتى تستطيع الكتابة واللعب مثلنا (..) هي لا تستطيع دخول الحمام وحدها وأنا دائمًا أكون معها بوقف معها واتمنى أن أراها تضحك من قلبها".
وتختم همسًا، وهي تقبّل يد أختها المبتورة: " أجمل هدية لأختي هي الطرف الصناعي.. حتى تعود لحياتها الماضية".
وفي 24 مارس/ آذار الماضي قالت وزارة الصحة بغزة إن عدد الأطفال الذين قتلوا خلال حرب الإبادة الجماعية على مدار 19 شهرا (حتى 23 مارس) بلغ نحو 15 ألفا و613 طفلا، وهو ما يشكل 31 بالمئة من إجمالي القتلى في حينه.
وقالت في إنفوغرافيك نشرته آنذاك، إن الإصابات في صفوف الأطفال وصلت إلى 33 ألفا و900 طفل، بنسبة تصل إلى 30 بالمئة من إجمالي مصابي القطاع، البالغ 113 ألفا و408 أشخاص.
وأفاد الإنفوغرافيك بأن إسرائيل قتلت في ذات الفترة 825 رضيعا بعمر أقل من عام.
ولم تشر الوزارة إلى عدد الأطفال والنساء الذين قتلوا منذ استئناف إسرائيل إبادتاها الجماعية في 18 مارس الماضي، والتي أسفرت حتى ظهر الجمعة، عن مقتل 2062 وإصابة 5375 آخرين معظمهم من النساء والاطفال، وفق أحدث بياناتها.
ومطلع مارس الماضي انتهت المرحلة الأولى من اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى بين حركة "حماس" وإسرائيل بدأ سريانه في 19 يناير/ كانون الثاني 2025، بوساطة مصرية قطرية ودعم أمريكي.
وبينما التزمت "حماس" ببنود المرحلة الأولى، تنصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، المطلوب للعدالة الدولية، من بدء مرحلته الثانية استجابة للمتطرفين في ائتلافه الحاكم، وفق إعلام عبري.
واستأنفت إسرائيل منذ 18 مارس جرائم الإبادة عبر شن غارات عنيفة على نطاق واسع استهدف معظمها مدنيين بمنازل وخيام تؤوي نازحين.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، جرائم إبادة جماعية في غزة، خلّفت أكثر من 168 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.
وتحاصر إسرائيل غزة للعام الـ18، وبات نحو 1.5 مليون من مواطنيها، البالغ عددهم حوالي 2.4 مليون فلسطيني، بلا مأوى بعد أن دمرت حرب الإبادة مساكنهم، ودخل القطاع مرحلة المجاعة؛ جراء إغلاق تل أبيب المعابر بوجه المساعدات الإنسانية.
المصدر : وكالة سوا - الأناضول اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ ومُسيّرة أطلقا من اليمن تصعيد الاحتلال مستمر في مدينة طولكرم ومخيميها - 90 يوما من العدوان مصرع شاب إثر حادث سير ذاتي بمركبة غير قانونية شمال غرب رام الله الأكثر قراءة السيسي وملك الأردن يبحثان جهود إنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة قوات الاحتلال تحوّل القدس إلى "ثكنة عسكرية" الخارجية تُحذّر من مخططات المنظمات الاستيطانية ضد الأقصى الرئيس الكولومبي: يجب التفكير في الشعب الفلسطيني عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025