مختبر المستقبل في سوريا بين الفدرلة والتفكك
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
غيرت الإمبراطورية العثمانية التنظيمات الإدارية في المشرق العربي لأكثر من مرة، وأعادت ترسيم الولايات والمتصرفيات والسناجق، التي كانت تحتضن مراكز حكم محلية، إلا أن هذه الفترة شهدت انشغال الإمبراطورية بالحروب على أكثر من جبهة، بحيث تركت هذه التقاسيم خاضعة لحكام محليين يتنافسون في توريد الضرائب لإسطنبول، من غير إشراف حقيقي على التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث داخلها.
ومع انهيار الدولة العثمانية بدأت الدول الأوروبية التي انتدبت نفسها نيابة عن المجتمع الدولي، لتؤسس دولا حديثة في المنطقة، عملية تقسيم أخرى عملت على تأسيس دول أكثر منطقية في بنيتها وحدودها، إلا أنها لم تتركها من غير أن تفخخها بمشاكل محتملة مستقبلا، فالفرنسيون الذين انشغلوا ببناء لبنان وضمان استقلاليته، طرحوا من غير كثير من الجهود والتكريس الفكري والسياسي دويلات أخرى للدروز والعلويين في سوريا.
خرجت فرنسا وبريطانيا من المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، وخلفتا وراءهما تركة ثقيلة من المشكلات وهياكل إدارية وبيروقراطية غير قادرة على إدارة المجتمعات المحلية بالصورة اللائقة، وكان خيار الأنظمة العسكرية التي تولت عملية سد الفراغ، أن تعزز من السيطرة على حساب التنمية، واللجوء إلى المركزية، التي تتطلب وجودا ثقيلا في العاصمة والمدن الرئيسية، على حساب المناطق الريفية والجبلية والزراعية، ما يفسر ضخامة الحجم النسبي للعاصمة في الدول العربية بشكل عام، فالفرص لا توجد إلا في العاصمة، حيث يتوجب أن تتحصل الدولة بأجهزتها على الولاء الكامل، وبحيث يصبح الجميع في حالة تربص وترقب بالجميع، وبقيت المشكلات تتمدد مع الإهمال المتواصل للمناطق الأقل حظاً من التنمية والفرص، تحت طائلة الاستنزاف لمصلحة نخب العواصم والمدن الكبرى.
لم تكن هذه النخب تمتلك الرؤية اللازمة، ولا الخبرة الكافية لقيادة المجتمع في دول كبيرة نسبيا، فسوريا التي تعتبر متوسطة الحجم بين الدول العربية، تزيد مساحتها عن الدنمارك وهولندا وبلجيكا وسويسرا، وجميعها دول ثرية ومتقدمة اقتصاديا، ومنها ما لا يمتلك باستثناء المياه أي ثروات طبيعية مهمة، وبقيت المشكلات تتفاعل من غير اهتمام، وفي الجيل الثاني من الجيوش الوطنية، أخذ أبناء هذه المناطق المهمشة يتوجهون للخدمة العسكرية، لأنها توفر فرصة الحد الأدنى من الحياة الكريمة، التي تنقذهم من الفقر، وتشكل الفرصة الوحيدة المجدية للخروج من حالة الإهمال في مناطقهم، فكان أبناء الأنبار في العراق، والعلويون في سوريا، لتحدث حالة انقلابية تدفع بهذه المناطق إلى السيطرة من خلال أبنائها، الذين أداروا ظهورهم لمناطقهم الأصلية، وأخذوا يتصارعون على السلطة في العاصمة ومناصبها ومكتسباتها.
البقاء على الوضع الراهن من غير الانفتاح على الأسئلة الكبرى، يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية
فشلت السلطة في دمشق، بغض النظر عن هويتها، من الارتقاء بمستويات الحياة في جميع مناطق سوريا، بل أصبحت الإدارة هي الصراع على دمشق، ومع واقع طائفي كان من السهل دائما أن يتم تحشيده وتحريكه بالخوف، وخلق العداء المتبادل، أصبحت سوريا من جديد أمام الميراث المرير للدولة العربية المركزية، التي لم تجد خلال فترة نهوضها الفرصة من أجل بناء أدوات حقيقية وفاعلة، ولذلك حدثت حالة من الانفصال بين النظام السابق والسوريين، الذين رأوا رغبته في السيطرة والاستحواذ من غير أن يقدم لملايين السوريين المبررات المقنعة لذلك، سوى فوهة البندقية والزنازين في سجون مرعبة.
العارض في أحداث الساحل وتحركات الدروز هو الاشتباكات العسكرية المتفرقة التي يمكن أن تتحول إلى وقائع سياسية واسعة مع الوقت، في حال تطورت إلى الاقتتال الأهلي الواسع، أما الجوهري، فهو في عدم قدرة سوريا وغيرها من الدول العربية على بناء نموذج حقيقي للدولة تقوم على أسس المواطنة ضمن عملية تنموية شاملة وعادلة، وهذه أزمة حتى في الدول التي لا تتوفر داخلها الافتراقات الطائفية، أو العرقية مثل مصر، ففي الحالة المصرية كانت الأرياف هي الحاضنة الرئيسية لحركة الإخوان المسلمين المناهضة للحكم في القاهرة وممارسته وقناعته، للدرجة التي دفعت الصحافي وائل عبد الفتاح لوصف حسن البنا بالمخلص القادم من الأرياف! ما زال كثيرون ينظرون إلى الشرع بوصفه الرجل الذي أتى بعد سقوط الأسد، وأن آل الشرع سيشكلون السلالة الجديدة في سوريا ما بعد الأسديين، وعلى الرئيس الشرع أن يثبت المفهوم المغاير، وأن يفكر خارج الصندوق التقليدي للدولة العربية، فسوريا أقرب ما يمكن لتطبيق نموذج فيدرالي تلتزم فيه كل منطقة بأن تعمل من أجل مصالحها، وأن تؤدي للدولة ما يلزم لتتمكن من قيام بالوظائف الأساسية لكل منطقة، وأن تتعهد جميع المناطق بألا تعمل مع أي قوة خارجية ضد الدولة المركزية، وإذا كانت هذه الحالة تحتاج نضوجا في البنى الإدارية والمجتمعية، فالحل الآخر، أن يتم العمل على إشاعة فرص شاملة في سوريا في عملية نهضوية تشجع الزخم السكاني على حراك واسع ضمن مجتمعات جديدة مفتوحة ومتوازنة.
البقاء على الوضع الراهن من غير الانفتاح على الأسئلة الكبرى، يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية تتحول سوريا خلالها إلى رقعة شطرنج تشغل القوى الخارجية خاناتها المختلفة، بحيث تصبح أرضا قلقة مهددة أمنيا على الدوام، وتعمل على تصدير الأزمات إلى جوارها ومحيطها الأوسع.
هل يمكن للسوريين أن ينتبهوا لهذه المشكلة، أم أنهم سيعملون على استعادة نموذج للدولة السورية نشأ في ظروف مرتبكة، وكأنه الغاية النهائية، ليجدوا أنفسهم مع الوقت مستمرين في إنتاج مظلوميات اجتماعية وفئوية جديدة لا تلبث أن تعبر عن نفسها بالصدام والعنف من جديد، خاصة أن سوريا الهادئة والجميلة لم توجد أصلًا إلا لسنوات قليلة خلال أكثر من قرن من الزمن أتبع نشأتها كدولة حديثة.
المصدر: القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا فرنسا مصر سوريا مصر فرنسا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة صحافة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی سوریا من غیر
إقرأ أيضاً:
الجامعة العربية: الحروب الإسرائيلية دخلت مرحلة جديدة من العربدة الكاملة
القاهرة (الاتحاد)
أخبار ذات صلةقال أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية إن الحروب التي تشنها إسرائيل على كل من الأرض الفلسطينية المحتلة خاصة في قطاع غزة ولبنان وسوريا، قد دخلت مرحلة جديدة، وتعمد خرق الاتفاقات الموقعة واستباحة الدول وقتل المزيد من المدنيين، محذراً من عواقب العجز العالمي أمام هذا الاجتراء الذي تمارسه إسرائيل ضد كل ما يمثله القانون الدولي من معان وضوابط.
وأكد الأمين العام للجامعة العربية، في بيان أصدره أمس، أن آلة الحرب الإسرائيلية لا يبدو أنها تريد أن تتوقف طالما يصر قادتها على مواجهة أزماتهم الداخلية بتصديرها للخارج، مضيفاً أن هذا الوضع صار مكشوفاً للجميع.
وقال أبو الغيط، إن الحرب على غزة، وما تمارسه إسرائيل من قتل واسع وتهجير لمئات الآلاف هو مرحلة جديدة غير مسبوقة من الوحشية والتجرد من الإنسانية.