العرب وحتمية الاتعاظ من درس زيلينسكي
تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT
ممّا لا شك فيه أن هناك تطورات لحقت بالاستراتيجية الأمريكية في تعاطيها مع الحلفاء وفي أسلوب إدارتها للصراع الدولي، وهذه التطورات تصبّ في اتجاه تقليل التكاليف الأمريكية ومحاولة ابتزاز الخصوم والحلفاء في التوقيت ذاته.
يمكن القول إنه ربما صدرت النخبة الاستراتيجية الحاكمة للهيمنة داخل الولايات المتحدة إدارة مثل إدارة ترامب للقيام بهذه المهمة، فهذا التحول يتطلب فجاجة ووجه يعبر عن رجل أعمال مغرم بالصفقات، ولا يعترف بمبادئ أو ثوابت، ولا يحكمه سوى مبدأ الربحية.
كذلك؛ ربما هناك أخطاء شائعة في بعض التحليلات التي تذهب إلى أن هناك انقلابا يقوده ترامب في السياسة الخارجية الأمريكية، وأنه يخوض حربًا ضد الدولة العميقة. وهذا الخطأ مبعثه أن قوة بحجم الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بتداول للاستراتيجيات المتناقضة وفقًا لرؤية كل رئيس يعتلي السلطة، وإنما هناك سقوف استراتيجية لا يمكن للرؤساء اختراقها، وواقع الحال هو تغير الأوجه والأسماء وأسلوب الإدارة سعيًا لنيل الهدف المتوافق مع المرحلة.
لعلّ أبسط مثال على ذلك هو ثبات الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني باتفاقات ممتدة زمنيًا وعابرة للإدارات الديمقراطية والجمهورية، وكذلك الموقف من أوكرانيا، والذي يراه البعض انقلابًا على موقف إدارة بايدن، في حين تؤكد التقارير الأمريكية أن المتغير الرئيس بالنسبة إلى أوكرانيا هو إمدادات المساعدات الغربية، حيث أدى انقطاع المساعدات الأمريكية من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أبريل/نيسان 2024 إلى تراجع القدرة القتالية لأوكرانيا، وهي الفترة التي كان بايدن فيها حاكمًا!.
لعل أبرز تطور استراتيجي مستجد أمريكيًا هو الدفع نحو اعتماد أوروبي على الذات في حماية أوروبا مع التوجه لاستيراد السلاح من أمريكا، أي تحول أمريكا من قوة تنفق على أوروبا إلى قوة تنتفع من أوروبا مقابل حمايتها. تاليًا؛ تصدر أمريكا وجهًا لروسيا مفاده السعي إلى التسوية والسلام، وفي الوقت ذاته تبيع السلاح لأوروبا لاستنزاف الروس من دون تصدر المشهد، لكي تتفرغ أمريكا للصراع الاقتصادي مع الصين، وتوجه إنفاقها الدفاعي والاقتصادي في حربها مع الصعود الصيني بعد تأمين جبهة استنزاف روسيا وتحديد نفوذها.
إنّ المراقب لمراكز الفكر الأمريكية يلمح تشجيعًا ودفعًا للجيش الأوروبي الموحّد كونه تخفيفًا من الكلفة الأمريكية، وهو أمر قد تشجعه أمريكا مع يقينها بأن أوروبا لا يمكنها الاستغناء عن حلف الناتو والقيادة الأمريكية، وأن هذا الجيش لا يشكّل استقلالاً تخشى معه أمريكا أن ينفرط عقد التبعيّة الأوروبية بسببه، بل سيحتاج هذا الجيش إلى وصاية أمريكية عبر التسليح والدعم الاستخباراتي.
في منطقتنا وعبر محاولات التسوية الأمريكية مع روسيا وتحديد نفوذها، تخطط أمريكا لبسط نفوذها بإقامة مشروعات استراتيجية مثل الممر الاقتصادي مع الهند والسيطرة على حقول الغاز. وهي مشروعات يلزمها وكيل وواجهة مثل “إسرائيل الكبرى” التي تطمح أمريكا في توسيع مساحتها ونفوذها ودوائرها الأمنية على حساب دول الطوق، داخل سوريا ولبنان والأردن ومصر. هذا فضلًا عن ضم الضفة الغربية وإصدار تعميمات في الكونجرس لتسميتها بالاسم الصهيوني “يهودا والسامرة” بديلاً عن مسمى الضفة الغربية.
يأتي مشروع التهجير، في هذا السياق، وهو مشروع أمريكي بامتياز، تسخر به أميركا الجيش الصهيوني لخدمة مصالحها، ولا تأبه بخسائره فهو يحارب بالوكالة عن أمريكا لخلق تموضع استراتيجي بالقوس الذي تحدث عنه هنري كيسنجر ووصفه بقوس الأزمات، وأن السيطرة عليه تضمن السيطرة على أوراسيا، وأن السيطرة على أوراسيا تضمن السيطرة على العالم والبقاء قوة أولى مهيمنة.
ممّا لا شك فيه أن التعامل الأمريكي المهين مع الدمية الأوكرانية المتمثلة بالرئيس زيلينسكي تشكّل مصداقًا للتعامل الأمريكي مع الدمى التي توظفها أمريكا وتنقضي وظيفتها. وهو درس لكل زعماء المنطقة التي وظفتهم أمريكا لاحتواء خصومها، ومفاده أن التصعيد والتهدئة قرار أمريكي لا بدّ وأن تنفذه الدمى، وإلّا فإنّ لحظة المكاشفة والإهانة العلنية قادمة لا محالة، وإن ارتهان أي نظام لأمريكا من دون الاحتماء بأوراق القوة الذاتية مصيره الذل والإهانة والانكشاف الاستراتيجي.
إن الحرب التي تطل برأسها من جديد على المنطقة بعد تملص الكيان الصهيوني من الاتفاقيات، ما يشكّل إهانة للوسطاء يتطلّب موقفًا مختلفًا ما تزال بقايا فرص متاحة للأنظمة لاتخاذه، وإلّا فإنّ الإملاء الأمريكي المهين بانتظارهم، وما حدث للرئيس الأوكراني لم يكن إلا بداية لتدشين مسار أمريكي جديد للتعاطي مع الدمى بعد استشعار أمريكا الخطر على مركزها الدولي وقطبيتها الأحادية وكلفة قناع الديمقراطية والتظاهر بالدبلوماسية واحترام الدمى ووصفهم بالحلفاء.
أمريكا لا تحترم إلّا القوي، وهو ما بدا في تعاطيها مع الخصم الروسي، وفي خطابها الموجه للمقاومات على الرغم من سلوكها العدواني تجاههم، ولن يوقف هذه الاستراتيجية الأمريكية الخطيرة سوى المواجهة بقوة، وبشكل جماعي.
في جميع الحالات؛ جبهات المقاومة حسمت خيارها بأنها ستواجه ولن تنصاع للإملاءات، وستواجه مهما كانت التضحيات، أما المترددون والمرتعشون فالمذلة بانتظارهم، وسيخسرون عروشهم التي كبّلت أيديهم وأذلت أعناقهم وقيدتهم عن خيار المقاومة الحتمي.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
المحلل السياسي الأمريكي: ترامب يحتاج إلى تطبيق استراتيجية أمريكا أولا في الشرق الأوسط
واشنطن "د. ب": وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتبني سياسة خارجية جديدة للولايات المتحدة. وفي أوروبا تبنى سياسة مستقلة عن حلفاء واشنطن ودفع روسيا وأوكرانيا إلى بدء محادثات للسلام، لكنه في الشرق الأوسط يواصل السير على النهج المشؤوم لأسلافه مبديا استعداده لشن المزيد من الحروب المدمرة.
وفي تحليل نشره موقع معهد كاتو الأمريكي للدراسات، قال دوج باندو الزميل البارزفي المعهد إن الحكومات الأمريكية المتعاقبة دعمت باستمرار المعاملة الوحشية التي تعامل بها إسرائيل العرب، سواء عبر الحكومة الإسرائيلية أو المستوطنين. كما أن هذه الإدارات خاضت حروبا في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل أو دول أخرى. والآن على ترامب أن يتبني نهجا يحقق السلام للأمريكيين بدلا من إشعال الحروب لصالح حكومات أجنبية.
باختصار، يحفل سجل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالعنف غير المجدي وغير القانوني، والذي غالبا ما يمارس بالنيابة عن دول أخرى. وفي حين زعم جورج بوش الابن عند غزوه للعراق في 2003 وجود مصالح أمريكية مهمة هناك، فإن خلفاءه، مثلوا ائتلاف نتنياهو المتطرف في إسرائيل. وفي حرب غزة، تخلت واشنطن حتى عن تظاهرها بالالتزامات الإنسانية.
وكانت نتائج السياسة الأمريكية أكثر من كارثية. تقول مها يحيى من مركز كارنيجي الشرق الأوسط في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية "على مدى الـ 15 عاما الماضية، عانى الشرق الأوسط من الحرب والدمار والنزوح. لقي مئات الآلاف حتفهم مع احتدام القتال في غزة ولبنان وليبيا والسودان وسوريا واليمن. وتشرد ملايين آخرون. وأدى العنف إلى تراجع المكاسب في التعليم والصحة والدخل، ودمرت المنازل والمدارس والمستشفيات والطرق والسكك الحديدية وشبكات الكهرباء. وقد أثبتت الحرب الإسرائيلية في غزة أنها مدمرة بشكل خاص، حيث أعادت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية للقطاع إلى مستويات عام 1955.وقدر البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة أن إعادة إعمار الشرق الأوسط وتوفير مساعدات إنسانية كافية تحتاج إلى ما بين 350 و650 مليار دولار".
للأسف يتبنى ترامب نفس النهج الكارثي، فهو يكثف حملته العسكرية غير الشرعية ضد اليمين ويهدد بشن الحرب على إيران. كما ضاعف الدعم غير المشروط للحملة الإسرائيلية القاتلة في غزة، وتقبل انتهاك إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي طالب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بقبوله. وأخيرا تشن إدارته حملة عسكرية في الصومال رغم عدم وجود أدلة قوية على وجود تهديد للمصالح الأمريكية فيها.
وفي كثير من الأحيان يحظى ترامب بدعم فعلي من، مؤسسة السياسة الخارجية، على الرغم من ازدرائها المعلن له. ففي واشنطن، يكاد يكون هناك إجماع على دعم سياسة خارجية استعمارية باسم "النظام القائم على القواعد" الوهمي، وهو نظام صممته الدول الغربية لكنها تنتهكه باستمرار. بالنسبة للعديد من أعضاء "المؤسسة"، تعتبر الحرب الملاذ الأول، لا الأخير. تعتبر الهيمنة والتفوق مكافأة كافية، بغض النظر عن حجم الثروة المهدرة أو عدد الأرواح الأمريكية، ناهيك عن الأجنبية، التي يتم التضحية بها في هذه الحروب.
وظلت واشنطن تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط باعتبارها حيوية، لأنها كانت مصدرا رئيسيا لإمدادات النفط الخام للدول العربية، لكن مصادر إمدادات النفط العالمية تنوعت وأصبحت الولايات المتحدة نفسها أكبر دولة منتجة للخام في العالم، لذلك لم تعد الطاقة سببا لاستمرار التدخل الأمريكي العشوائي، ناهيك عن التدخل العسكري في المنطقة.
والمبرر التقليدي الآخر لاستمرار التدخل الأمريكي الدائم في الشرق الأوسط هو إسرائيل. وقد ظلت واشنطن تقدم الدعم غير المشروط لسياسات تلك الدولة، مهما بلغت قسوتها. وأسوأ مبرر لهذا النهج الأمريكي هو تفسير ديني مزيف يصور دولة علمانية حديثة يديرها ملحدون على أنها الخليفة اللاهوتي للمملكة العبرية القديمة.
ويقول دوج باندو إن إسرائيل الآن قوة عظمى إقليمية، تتمتع بتفوق تقليدي وأسلحة نووية. وهي قادرة تماما على الدفاع عن نفسها، على الرغم من أنها استخدمت قوتها العسكرية مؤخرا للتوسع - في الضفة الغربية، وربما في غزة وأماكن أخرى، ولم يعد مطلوبا من الولايات المتحدة خوض الحروب لصالحها ولا نيابة عنها.
في الوقت نفسه فإن دعم السياسات الإسرائيلية، وأبرزها رفض معاملة الفلسطينيين كبشر لهم حقوق أساسية وتطلعات مشروعة، يضمن بقاء الشرق الأوسط في حالة من الاضطراب العنيف. وتقول مها يحيى: "مهما حاولوا، لن تتمكن إسرائيل والولايات المتحدة من تحقيق السلام بتجاهل الفلسطينيين. في الواقع، إن محاولة القيام بذلك هي ما أوصلهم إلى هنا". ومع ذلك، لا يتظاهر ترامب حتى بالاهتمام بالتطهير العرقي والديني الوحشي والقتل العشوائي للفلسطينيين وغيرهم من العرب على يد الاحتلال إسرائيلي.
والحقيقة أن تأجيج الحروب في أماكن أخرى ليس حلا للمشكلات في الشرق. قد تكون محاربة أنصار الله في اليمن بلا نهاية. لكن ترامب يصر على مخاطبة الجماعة بقوله: "توقفوا عن إطلاق النار على السفن الأمريكية، وسنتوقف عن إطلاق النار عليكم". ومع ذلك، فإنهم يستهدفون السفن الأمريكية لأن واشنطن تدخلت في دول الجوار.
وكانت جماعة انصار الله قد أوقفت حركة المرور في البحر الأحمر ردا على تدمير إسرائيل لغزة بدعم الولايات المتحدة، وأوقفوا هجماتهم خلال وقف إطلاق النار الأخير قصير الأمد.
أعلن ترامب منتصرا أن " جماعة انصار الله قد قضي عليهم بسبب الضربات المتواصلة على مدار الأسبوعين الماضيين"، لكن إدارة بايدن استهدفت جماعة انصار الله وحلفاءها بانتظام منذ ديسمبر 2023، ثم واصلت إدارة ترامب الاستهداف دون نتيجة واضحة.
وفي ختام تحليله قال باندو إن الرئيس ترامب يؤكد باستمرار اعتزامه العمل على إعادة مصالح الأمريكيين إلى صميم سياسة واشنطن تجاه أوروبا. ومع ذلك، فهو يخاطر في الشرق الأوسط ببدء حروب لا تنتهي، التي انتقد سابقيه، بسببها. كما أن دخول الولايات المتحدة في أي حرب عدوانية غير قانونية جديدة سيهوي بسمعتها العالمية نحو مزيد من التدهور، لكي تكتشف الإدارة الأمريكية أن بلادها أصبحت تعاني من الوحدة الشديدة رغم قوتها،في الوقت الذي تواجه فيه أزمات متعددة في الشرق الأوسط.
وأضاف باندو" بدلا من ذلك، على ترامب تطبيق استراتيجية أمريكا أولا في الشرق الأوسط. فهذه المنطقة لم تعد مهمة كثيرا بالنسبة للدول الموجودة خارجها، بخاصة الولايات المتحدة، وعلى سياسة واشنطن أن تعكس هذه الحقيقة الجديدة".