المعارضة التونسية بين رهان السياسي ووجدان القاضي
تاريخ النشر: 7th, March 2025 GMT
المعارضة التونسية بين رهان السياسي و"وجدان" القاضي
عادل بن عبد الله
بصرف النظر عن التوصيف الدستوري لإجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021 -هل هي انقلاب أم قراءة ما فوق دستورية- فإن تلك الإجراءات قد أعادت هندسة المشهد العام بصورة تجاوزت المستوى السياسي الصرف. ولأسباب يمكن ردها إلى ضعف المعارضة وهشاشة مخرجات الانتقال الديمقراطي من جهة، وإلى الدعم النشط من القوى الإقليمية المتوجسة من نجاح التجربة التونسية من جهة ثانية، استطاع الرئيس -بالتعامد الوظيفي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة وأذرعها المختلفة- أن يجمّع كل السلطات بين يديه، خاصة بعد القرار 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وهو ما أعطى للمراسيم والقرارات الرئاسية سلطة لا تقبل الطعن أمام أية جهة قضائية، كما خوّل ذلك المرسوم للرئيس "حصريا" سلطة إصدار القوانين لتنظيم المحاكم وكذلك مراجعة إجراءات التقاضي.
بدخول الدستور التونسي الجديد حيز التنفيذ إثر الاستفتاء الشعبي العام سنة 2022، أصبحت "السلطة" القضائية مجرد "وظيفة" مثلها في ذلك كمثل السلطتين التنفيذية والتشريعية. ولم يكن تغير التسمية مجرد مسألة لغوية، بل كان تعبيرا عن رهان سياسي مداره شرعية "التأسيس الثوري الجديد". فالرئيس لا يعتبر "تصحيح المسار" تأسيسا لسلطة جديدة، بل هو إعادة لها إلى صاحبها الأصلي، أي الشعب. وهذا الشعب -حسب أنصار تصحيح المسار- هو الذي فوّض "الخبير الدستوري" قيس سعيد ليمارس السلطة باسمه مرتين: مرة أولى سنة 2019 عند انتخابه رئيسا من خارج النخب السياسية التقليدية ومن خارج الأحزاب، ومرة ثانية عند تأييده لإجراءات 25 تموز/ يوليو 2021.
ومهما كان موقفنا من الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 ومن مدى التزامها بالمعايير الدولية للانتخابات النزيهة، فإن فوز الرئيس قيس سعيد قد جاء ليُشرعن سردية التفويض الشعبي وليدفع بـ"حرب التحرير الوطني" إلى مرحلة اللا عودة، خاصة من جهة علاقة المنظومة الحاكمة بأغلب الفاعلين الاجتماعيين المعارضين، أي بأولئك الذين جاء "تصحيح المسار" لإنهاء الحاجة إليهم وإلى أجسامهم الوسيطة وديمقراطيتهم التمثيلية.
في ظل سردية "حرب التحرير الوطني"، لا يكون توحّد الجبهة الداخلية ضد "الخونة" و"المتآمرين" و"الفاسدين" خيارا، بل هو واجب وطني لا يمكن لأي "وظيفة" من الوظائف الثلاث ألا تنخرط فيه دون أن تكون عرضة هي الأخرى لتهمة الخيانة/ العمالة. وهو ما وضع الوظيفة القضائية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاشتغال بمنطق "الوظيفة" التابعة للوظيفة التنفيذية، لا بمنطق السلطة المستقلة، وهو ما يعني أن يتخلى القاضي عن وجدانه ثقةً في وجدان السياسي والأمني حتى إن لم يكن ذلك الوجدان مسنودا بأدلة وبراهين، وإما أن يحافظ على استقلال "وجدانه" فيصبح عندها محل استهداف مباشر من السلطة التنفيذية كما وقع لعشرات القضاة المعزولين أو المعاقبين بنقلات تعسفية وغيرها. فتبرئة من وقر في وجدان السياسي و/أو الأمني أنهم مذنبون يجب "تطهير" البلاد منهم، تعني أنّ القاضي "شريك لهم" كما صرّح بذلك الرئيس نفسه.
للرد على بيان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الداعي إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير"، لم يجد النظام التونسي ممثلا في وزارة الخارجية تعبيرا أفضل من "بالغ الاستغراب". فالمفوض الأممي فولكر تورك يبني انتقاداته للنظام التونسي على "مغالطات"، ذلك أن الرواية الرسمية للنظام ما زالت متمسكة باستقلال القضاء وبتوفير الضمانات القضائية للمتهمين، كما أن النظام ينكر الطبيعة السياسية للقضايا ويعتبرها مجرد "قضايا حق عام" لا علاقة لها بأنشطة أصحابها الحزبية والسياسية والإعلامية ولا بممارستهم حرية الرأي والتعبير. وإذا قرأنا هذا الموقف الرسمي في سياق المحاكمات السياسية الحالية التي قد تصل بعض العقوبات فيها إلى الإعدام، سيكون من الواضح أن لا نية للسلطة للتراجع عن المقاربة الأمنية-القضائية لحل القضايا السياسية.
بمعنى من المعاني، يبدو أن النظام قد اختار المضيّ في المحاكمات الحالية ردا على دعوات الحوار الوطني وإظهارا لقدرته على فرض خياراته السلطوية الأحادية. فما لا يفهمه العديد من السياسيين والمحللين هو أن الحوار والتشاركية والاعتراف بتعدد الشرعيات والرمزيات والإقرار بدور الأجسام الوسيطة.. كل ذلك يعني نهاية "تصحيح المسار" وفقدانه لعلة وجوده أمام منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها في الخارج. ولذلك يواصل النظام سياسة الهروب إلى الأمام ويرفض الاعتراف بأي حاجة لتعديل خياراته الكبرى سواء في السياسة (الديمقراطية المباشرة) أو في الاقتصاد (الشركات الأهلية).
إن إدارة ملف المعارضة السياسية بمقاربة أمنية-قضائية مسنودة بإعلام مدجّن ليس خيارا جديدا في الساحة التونسية، بل هو إعادة إنتاج لخيارات سابقة منذ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية. ولا شك في أن التعامد الوظيفي بين "تصحيح المسار" وبين الرأسمال البشري/الفكري للمنظومة القديمة يجعل من التفكير في بدائل للمقاربة الأمنية أمرا مستبعدا.
عندما كان القضاء "سلطة" فإنه كان نظريا محكوما بجملة من القواعد مثل أن القاضي لا يحكم بعلمه، وأن الإدانة أو التبرئة يكونان بما "استقر في وجدان المحكمة". ولكن انتقال القضاء من سلطة إلى وظيفة في ظل سردية "التأسيس الثوري الجديد" وسردية "حرب التحرير" تجعل القاضي محمولا على الحكم بعلم السلطة وما يستقر في وجدان السياسي والأمني بصرف النظر عما يستقر في وجدانه بعد الاطلاع على ملف الإحالة. فالقاضي -مثل جميع موظفي الدولة- هو الآن في خدمة "مشروع سياسي"، وإلا في معارضته إذا ما خالف انتظارات المنظومة الحاكمة منه.
ولا شك في أن لكل احتمال من الاحتمالين كلفة أخلاقية وقانونية يتحملها القضاء وسائر المواطنين سواء في الوضع الراهن أو في المستقبل. وإذا كان وجدان القضاء قبل "تصحيح المسار" غير مطابق للقلب السليم -أي خاضعا لاعتبارات وتدخلات من خارج الملفات ذاتها- فإنه على الأقل كان قادرا على ضمان نوع من الاستقلالية بحكم تعدد مراكز السلطة والسلطة المضادة. ولكنّ تمركز السلطة وغياب السلطات المضادة في ظل "تصحيح المسار" يجعلان من ذلك الوجدان القضائي مسيجا بوجدان السياسي والأمني، وخاضعا للسلطة التنفيذية التي تجعل الوجدان الصافي للمحكمة خيارا لا يستطيع إلا القليل من القضاة تحمل كلفته.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية القضاء المحاكمات تونس قضاء محاكمات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة صحافة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تصحیح المسار فی وجدان
إقرأ أيضاً:
الاقتصاد البرتقالي في دول مجلس التعاون الخليجي (3- 4)
عبيدلي العبيدلي **
رؤية مستقبلية للصناعات الإبداعية والابتكار الرقمي والتنويع الاقتصادي
لطالما اعتمدت دول مجلس التعاون الخليجي على النفط والغاز كعمود فقري لاقتصاداتها. ومع ذلك، فإن الديناميكيات العالمية المتغيرة، بما في ذلك التحرك نحو الاستدامة، وصعود الاقتصادات الرقمية، وزيادة توقعات الشباب، قد أدت إلى تسريع الحاجة إلى التنويع الاقتصادي. أحد أكثر البدائل الواعدة هو الاقتصاد البرتقالي، الذي يشمل القطاعات التي تعتمد على الإبداع والأصول الثقافية ورأس المال الفكري - مثل الإعلام والفنون والتصميم والبرمجيات والمحتوى الرقمي والصناعات التراثية.
ومن الطبيعي أن يتطلب هذا التحول الاقتصادي الاستراتيجي خارطة طريق شاملة لصانعي السياسات والهيئات الحكومية والمخططين الاقتصاديين في دول مجلس التعاون الخليجي، إن هم أرادو مواجهة التحول نحو اقتصاد برتقالي.
فمن المتوقع أن يمس هذه الاختيار الاستراتيجي التوجيهات الخاصة بالقطاعات، والإصلاحات المنهجية اللازمة لبناء اقتصاد إبداعي نابض بالحياة ومستدام ذاتيا، وقادر على أن يصبح ركيزة اقتصادية رئيسية ملهمة وموجهة في آن.
اختيار المسار الاستراتيجي المسار التجاري مقابل المسار الصناعييضمن المسار التجاري تحقيق الدخل ونشر السلع والخدمات الإبداعية في السوق. ويتضمن ذلك مجالات مثل توزيع المحتوى، والترويج للأحداث، وتسويق المنتجات. ومن الطبيعي أن يكون أسهل نسبيا في التنفيذ لأنه يتطلب استثمارا أقل في البنية التحتية، ويستفيد من سلاسل التوريد والمنصات العالمية الحالية. كما يمكن هذا المسار دول مجلس التعاون الخليجي من بناء رؤية وإيرادات فورية.
على نحو مواز يتضمن المسار الصناعي إنتاج وتصميم وتصنيع المنتجات الإبداعية، مثل الوسائط الرقمية والبرمجيات والحرف اليدوية وتطوير الملكية الفكرية. ورغم أنها أكثر تطلبا من حيث رأس المال البشري، والبنية الأساسية، والاستثمار، إلا أنها تبني أسسًا اقتصادية مستدامة، وتضمن الملكية المحلية للأصول الإبداعية، ويمكنها توليد صادرات ذات قيمة مضافة عالية.
في ضوء تلك المقارنة ينصح بتبني نموذج هجين: البدء بالمسار التجاري لتوليد الزخم، واكتساب فهم السوق وتحفيز الاهتمام، مع الاستثمار التدريجي في القدرات الصناعية والتدريب والبنية التحتية لتأمين الفوائد الاقتصادية طويلة الأجل.
تحديد مكونات الدخول القطاعية قنوات الدخول التجارية توزيع الأفلام والتلفزيون: يشمل هذا القطاع استيراد وتوطين الأفلام والبرامج التلفزيونية العالمية من خلال الدبلجة والترجمة المرئية، وتصدير المحتوى الخليجي المنتج إلى الأسواق الدولية. يتحقق ذلك من خلال الاستثمار في منصات البث الإقليمية، وخفض قيمة المحتوى، كي تتمكن دول مجلس التعاون الخليجي من أن تصبح لاعبًا رئيسيًا في توزيع الوسائط العربية. السياحة الثقافية: من خلال تعزيز وتسويق مواقع التراث المحلي والمتاحف والمهرجانات والفعاليات الفنية، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي جذب السياح المهتمين بالتجارب الثقافية الأصيلة. تساهم مبادرات مثل الجولات التراثية المصحوبة بمرشدين ومهرجانات الطهي والعلامات التجارية الإبداعية للمدن في عائدات السياحة والقوة الناعمة. المنصات الرقمية: يتضمن ذلك إنشاء أو الاستثمار في تطبيقات الأجهزة المحمولة ومواقع الويب لبث الموسيقى والتعليم عبر الإنترنت والبودكاست والترفيه الاجتماعي. يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي إنشاء منصات تعرض المحتوى العربي، والاستفادة من كل من الجماهير المحلية والشتات مع تحقيق إيرادات الإعلانات والاشتراكات. تسويق الأزياء والسلع الفاخرة: بفضل القوة الشرائية القوية والأذواق الراسخة للعلامات التجارية الراقية، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تضع نفسها كمركز عالمي للأزياء. إن تشجيع المصممين المقيمين في الخليج والترويج للملابس والإكسسوارات التقليدية في أسواق الأزياء الدولية يعزز الرؤية الاقتصادية والثقافية. قنوات الدخول الصناعية استوديوهات الألعاب والرسوم المتحركة: يتيح إنشاء استوديوهات محلية لإنتاج ألعاب رنانة ثقافية ومحتوى رسوم متحركة لدول مجلس التعاون الخليجي إشراك التركيبة السكانية الشابة وتصدير الثقافة الرقمية. يمكن لهذه الاستوديوهات أيضا التعاون مع المؤسسات التعليمية لبناء المواهب الإبداعية. تصنيع الحرف اليدوية والتصميم الثقافي: يشمل هذا القطاع إنتاج الحرف اليدوية التقليدية عالية الجودة ومنتجات التصميم الحديثة المتجذرة في الثقافة المحلية. من خلال العلامات التجارية والشهادات المناسبة، يمكن تصدير هذه المنتجات عالميا وبيعها من خلال منصات التجارة الإلكترونية. النشر وتكنولوجيا الإعلام وتطوير الواقع المعزز / الواقع الافتراضي (AR/VR): يمكن أن يساعد الاستثمار في نشر الكتب ومنصات الوسائط عبر الإنترنت والتقنيات الغامرة لرواية القصص في بناء سرد ثقافي فريد للمنطقة. يمكن لتطبيقات الواقع المعزز / الواقع الافتراضي في السياحة والتعليم والمتاحف أن تحدث ثورة في تجربة المستخدم. تطوير البرمجيات للتطبيقات الثقافية: تشجيع تطوير تطبيقات وأدوات لتعلم اللغة العربية أو استكشاف تاريخ الخليج أو الانخراط في الفن الإسلامي يعزز المشاركة الثقافية الرقمية. يمكن أيضا تحقيق الدخل من هذه الأدوات على مستوى العالم ودمجها في أنظمة التعليم في الخارج. التحديات المتوقعة التحديات التجارية
أدى الاعتماد على المحتوى الإبداعي المستورد إلى انعدام الهوية الإقليمية في استهلاك وسائل الإعلام. تواجه المنتجات المحلية صعوبات في جذب الاهتمام العالمي بسبب ضعف رؤية العلامة التجارية والقيود اللغوية. تعاني المنطقة أيضا من نظام بيئي متخلف لريادة الأعمال الإبداعية، بما في ذلك محدودية الوصول إلى التمويل والإرشاد. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال البيئة القانونية والتنظيمية لإنفاذ حق المؤلف هشة.
التحديات الصناعيةيتطلب المسار الصناعي قوة عاملة ذات مهارات عالية، والتي تعاني حاليا من نقص في المجالات الإبداعية التقنية مثل تصميم الألعاب والرسوم المتحركة والتصميم الصناعي. الاستثمار المالي المطلوب لبناء استوديوهات الإنتاج ومراكز البحث والتطوير ومختبرات الابتكار كبير. وعلاوة على ذلك، تفتقر المنطقة إلى نظام بيئي قوي لتوليد الملكية الفكرية وحمايتها، وهو أمر ضروري للقدرة التنافسية الصناعية.
الاستفادة من الفرص الفرص التجاريةيمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تصبح مركزا إقليميا للتوزيع والتسويق للإعلام والمنتجات الفنية والثقافية العربية، وتخدم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والشتات. يتزايد الطلب العالمي على المحتوى الثقافي الفريد والأصيل، مما يوفر أسواقا جديدة للمنتجات الخليجية الصنع. سيؤدي الجمع بين السياحة الثقافية والظهور الإعلامي، مثل استضافة المهرجانات السينمائية والمعارض الفنية، إلى تضخيم البصمة الثقافية للمنطقة. يمكن أن تضمن الشراكات مع المنصات العالمية معايير عالية الجودة والوصول العالمي.
الفرص الصناعيةيمكن لدول مجلس التعاون الخليجي الاستثمار في بناء تجمعات تصنيع إبداعية ومناطق تصميم رقمي لإنتاج سلع وخدمات عالية الجودة للتصدير. ويوفر امتلاك حقوق الملكية الفكرية من خلال الابتكار المحلي إمكانات كبيرة للإيرادات على المدى الطويل. سيؤدي التعاون مع المؤسسات العالمية لإنشاء مدارس للفنون الإبداعية ومراكز التكنولوجيا إلى تعزيز تنمية رأس المال البشري. يمكن للمنطقة أيضا الاستفادة من ميزة المحرك الأول في العالم العربي من خلال تصنيع القطاعات الإبداعية على نطاق واسع.
** خبير إعلامي
رابط مختصر