أتذكر الحالة الشعورية - السرور الذي لا يوصف - التي أسرت على كامل جسدي؛ مع إنجازي أول كتاب ألفته «فرصاد أخضر» ولو أن دار النشر التي تعاملت معها لم تساعدني على تمام هذا الشعور بالصورة التي كنت أرجوها، ومع ذلك تكاملت حمولة المشاعر بيني وبين كافة أسرتي التي سرها كثيرا هذا الإنجاز، بغض النظر عن قيمته المعرفـية، وهي القيمة الموكول تقييمها من قبل القارئ العزيز، وأتصور أن الحالة الشعورية هذا هي من نصيب كل كاتب يظهر كتابه على النور أول مرة؛ الـ «مولود البكر» من بين هدير المطابع، ويكون بين يدي الناس؛ ليكون عربون مودة؛ أكثر منه مقايضة مالية، التي قد يفكر فـيها البعض، ولذلك كنت كثيرا ما أصطدم بسؤال: «كم قيمة هذا الكتاب؛ ما نريد نخسرك؟» فالكاتب؛ فـي تصوري البسيط؛ لا يسعى إلى المكسب المادي - المنزوع أساسا؛ من حساباته - بقدر ما يرى فـي كتابه حمولة معرفـية غالية، ولو كان هذا الفهم يستحضره الكاتب نفسه فقط، وهذا يكفـيه، كما أعتقد، ولأنه مقتنع بما هو عليه من تأليفه للكتاب، فلذلك يكون استيعابه للصدمات واسع، وقد تعرضت شخصيا لذلك عندما قدمت لأحد الذين أعتبرهم من الفئة الواعية لمفهوم المعرفة ذات الكتاب؛ فأول ما بادرني به: «هذه السلعة لا تؤكل عيش» - صدمة قوية - وعقب: «ابعث لي رقم حسابك».
ولذلك تتفاوت ردات الفعل من قبل القارئ؛ خاصة إذا استلم هذا الكتاب أو ذاك هدية، لا شراء من مكتبة، أو من معرض كتاب، حيث يتقصد من ذلك كتابا معينا، والسؤال هنا: هل هذه الصورة «المادية» مرتبطة بزمن معين، أي أن الأزمان قادرة على نسخها بأهمية المعرفة؟ وهل للكتاب قيمة غير تلك التي يراها القارئ؟ والسؤال الختامي: ماذا عن حقيقة المؤلف؛ الذي يدرك ذلك، ومع ذلك يستأنف التأليف؛ مع أن التأليف حالة جهادية بكل ما تعنيه الكلمة؟ فتأليف كتاب يحتاج إلى عمر زمني لا يقل عن عام إلى عامين؛ إن أراد له مؤلفه أن يكون كتابا ذا قيمة معرفـية نوعية. من جميل ما قرأت فـي هذا السياق: النص التالي: «بائع الكتب لا يراقب بضاعته، ولا يخشى السرقة، لأن القارئ لا يسرق والسارق لا يقرأ» - انتهى النص - أيفسر ذلك كسادا مطلقا لمعنى الكتاب؛ مع أن الكتاب هو العمود الفقري للحياة؟ ولكن هناك؛ من غير اللصوص التقليدين؛ من يسرق الكتب، وما أكثر قضايا الانتحال التي نسمع عنها، والتي يصل البعض منها إلى منصات المحاكم، فسارق الأفكار «الكتب» ليس يسيرا أن ينفذ بجلده؛ لأن الفكر مسألة وجودية متأصلة فـي ذهنية الكاتب، أو المفكر، وليس يسيرا إعارتها أو التحايل عليها، لتنتقل من فلان من الناس إلى فلان من الناس، ولذلك من يعاني من مغازلة الشهرة، وأن يشار إليه بـ «الكاتب» سريعا ما يسقط مع أول محاولة لرمشة العين، فالمسألة أعقد مما يتصور، فالمعاناة الذهنية التي يعيشها الكاتب، ليست يسيرة أن يتحملها أي فرد يود أن يكون كاتبا.
«اطمئنوا أهل الكتب»: فمشروعكم التنويري لن تسقطه ترهلات الذاكرة الكسولة، التي لا تعي حقيقة الواقع القائم على المعرفة، ولذلك لا تؤجلوا تجليات الإضاءات الكونية التي ترسلها المعرفة على امتداد هذا الكوكب، لتكتب لكم عمرا جديدا يتوغل عبر مفازات الزمن الممتد، وإن تصحرت هذه المفازات فـي لحظات فارقة بين زمنين، فإنها - يقينا - ستعاود التألق والحضور الطاغي، فالحياة لا يمكن أن تتنفس الحرية، وتتجاوز توغلات الزمن إلا من خلال كتاب يسطع نوره على امتداد الأفق، بغض النظر عن من يكون مؤلفه وكاتبه، والساهر على حمايته.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الخميس.. دار الكتب والوثائق تحتفل بمرور 155 عامًا على إنشائها
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تنظم دار الكتب والوثائق القومية، برئاسة الدكتور أسامة طلعت، ندوة علمية احتفالًا بمرور 155 عامًا على تأسيسها، وذلك في إطار فعاليات وزارة الثقافة المصرية، وتحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة.
يشارك في الندوة الدكتور أيمن فؤاد سيد، رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية والمدير الأسبق لدار الكتب، والدكتور أحمد الشوكي، وكيل كلية الآثار بجامعة عين شمس للدراسات العليا والبحوث والرئيس الأسبق لدار الكتب والوثائق القومية.
وتُعقد الندوة في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا من يوم الخميس الموافق 10 إبريل، وذلك بمقر دار الكتب التاريخي في باب الخلق، والذي يُعد أحد المعالم الثقافية البارزة، حيث تم إنشاؤه خصيصًا ليكون مقرًا لدار الكتب المصرية، وافتُتح عام 1904 بعد نقل الدار من سراي الأمير مصطفى فاضل بدرب الجماميز.