الدم يحنّ.. هل ملك بريطانيا مولع بالإسلام لأنه حفيد أميرة أندلسية؟
تاريخ النشر: 7th, March 2025 GMT
في منتصف القرن 19، اكتشف مخترع فرنسي طريقة للتصوير وطبع الصور على الورق. كانت الطريقة معقدة للغاية، تتضمن تغليف قماشة من القطن بمستخلص من بياض البيض، قبل غمرها في محلول نترات الفضة والماء، وتجفيفها في غياب الضوء، ثم تعريضها للأشعة فوق البنفسجية بطريقة محسوبة تحت "النيغاتيف". وبعد مراحل أخرى من المعالجة، تصبح الصور جاهزة للعرض.
كانت طريقة مكلفة ومعقدة تحتاج إلى خبرة وإمكانيات لم تُتح للعوام. لذلك، كان ملوك وأباطرة أوروبا يكلفون المصورين بتصوير أهم المعالم التي حملت أعمق المعاني وتركت أعظم الآثار.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الإمام شامل الداغستاني.. لماذا أشاد به رئيس أوكرانيا واعتبره مصدر إلهام؟list 2 of 2لماذا كُتبت "لا إله إلا الله" على دينار إنجليزي قبل ألف عام؟end of listفي تلك الفترة، كلفت ملكة بريطانيا، فيكتوريا (1819-1901) المصور البريطاني تشارلز كليفورد بالتقاط صور لقصر الحمراء في غرناطة الأندلسية، لتصبح صور أبواب القصر وجدرانه التي تحمل العبارة الأشهر "لا غالب إلا الله" من بين أوائل الصور التي طُبعت في التاريخ بهذه الطريقة. الآن، يحتفظ الملك تشارلز الثالث بهذه المجموعة من الصور، التي تظهر أدق التفاصيل للزخارف الإسلامية والكتابات، في دقة مثيرة للإعجاب بالنظر إلى أن الصور التُقطت في خمسينيات القرن 19.
فالملك تشارلز أحد أكثر الملوك الإنجليز معرفة بالإسلام؛ حضارة وثقافة وعُمرانا، حتى إنه أسس حدائق بعض قصوره الخاصة على النمط الأندلسي، مثل الذي يظهر في صور قصر الحمراء، وأصر فيها على غرس ثمار ورد ذكرها في القرآن الكريم مثل التين والزيتون.
هذا بخلاف إعجابه الظاهر برؤية الإسلام للعالم، وهو ما جعله يموّل مركزًا للدراسات الإسلامية في جامعة أوكسفورد. لكن تشارلز لم يرث الصور ولا الاهتمام بالإسلام عن جدته الملكة فيكتوريا، بل ربما يعود إلى جدة أخرى أقدم من زمن فيكتوريا بقرون.. هذه هي الأميرة زائدة الأندلسية.
إعلان زائدة الأندلسية وإرثها الباقي!لا يُعرف على وجه الدقة إن كانت زائدة من بيت مشهور من بيوتات الأندلس أم مجرد سرية من السراري والجواري التي كانت وقتئذ، ولكننا نعرف أنها عاشت حياتها في رفاهية داخل بلاط بني عباد في إشبيلية بعد زواجها من ابنه الأمير المأمون بن المعتمد الملقب بأبي الفتح، لتتوالى عليها الأحداث غير المتوقعة فيما بعد!
فقبيل منتصف القرن 11 الميلادي/القرن 5 الهجري، أصبح بنو عباد، الذين تعود أصولهم إلى شبه جزيرة سيناء وتحديدًا إلى العريش المصرية، أبرز ملوك الطوائف في الأندلس، متفوقين على حكام قرطبة من جيرانهم وذلك بعد سقوط دولة بني أمية وتشرذم الأندلس بين ملوك الطوائف، ولا شك أن هذا التحول كان نقطة فارقة لإشبيلية عاصمة بني عباد، فالمعتمد الذي كان والد زوجها المأمون، شهدت إشبيلية في عصره فترة ازدهار ثقافي وأدبي كبير، وجذبت العديد من الشعراء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كان من بينهم ابن حمديس الصقلي، إلى جانب المعتمد نفسه الذي كان شاعرا أيضا.
ولكن لم يدم الأمن طويلا، وعرضت في الأندلس عوارض السياسة وحوادثها، وكادت مدن الأندلس تسقط كلها في يد ألفونسو السادس لولا تدخل المرابطين عدة مرات، وفي الأخير قرر يوسف بن تاشفين التخلص من ملوك الطوائف وتوحيد الجزيرة، وكانت مدينة إشبيلية على رأس المدن التي قصدها ابن تاشفين بنفسه للقضاء على حكم بني عباد فيها، مما أدى إلى وقوع المعتمد في الأسر ونفيه إلى أغمات قرب مراكش في المغرب، حيث توفي هناك بعد فترة قصيرة وهو يندب خسارته في آخر قصائده قبل رحيله.
في تلك الحروب قُتل المأمون بن المعتمد خلال حصار المرابطين، عام 484هـ/1091م، وكانت زوجته زائدة في موقف شديد الصعوبة، لا سيما بعد أن تمكنت من الهرب بحثا عن مكان آمن شمال إشبيلية. لكن من سوء حظها، سقطت في أسر جنود ملك قشتالة، الذين أرسلوها إلى بلاط سيدهم في طُليطلة حيث أجبرت على العيش في ظروف مختلفة.
إعلانوالحق أن ألفونسو السادس، زوج زائدة المستقبلي، كان مصدر إزعاج كبير للمعتمد، خاصة حين سيطر على مدينة طليطلة وانتزعها من أصحابها من بني ذي النون عام 478هـ/1085م؛ إذ شكّل غزو ألفونسو لطليطلة ضربة قاصمة للمعتمد، كبير ملوك الطوائف.
وبحسب أستاذ التاريخ المختص بشبه القارة الإيبيرية في كلية لندن الجامعية، رودريغو غارسيا فاليسكو الذي نشر مقالًا سابقًا في معهد تابع لجامعة كامبريدج تناول فيه تلك الفترة التاريخية، لم تكن العلاقة بين زائدة وألفونسو السادس علامة على التسامح والتعايش، بقدر ما كانت تأكيدا على قوة وجبروت ألفونسو، على الأقل في طور العلاقة الأول.
كان ألفونسو السادس يحلم بأن يصبح الحاكم الأوحد لشبه الجزيرة الإيبيرية، بما فيها الأراضي الإسلامية، ووفقا للمؤرخ التونسي ابن الكردبوس التوزري في القرن 13، بدأ الحاكم القشتالي المغرور في تصوير نفسه على أنه "إمبراطور الديانتين"، أي الإسلام والمسيحية.
في تلك الأثناء وبدلا من إرسال الأميرة زائدة إلى أقاربها المنفيين في المغرب، قرر ألفونسو السادس أن يتخذها جارية له، في حين رجح بيلايو أسقف أوفييدو، بأن تكون زوجته.
وإذا كان وجود الأميرة المسلمة في البلاط المسيحي يمثل موضوعا حساسا في حد ذاته، فإن قرار ألفونسو السادس بجعل زائدة الأميرة المسلمة زوجته الشرعية لا بد أنه ترك الكثيرين حوله في حيرة ودهشة! إذ سرعان ما حملت زائدة وأنجبت سانشو، الابن الوحيد لألفونسو السادس، ويقال إنها تنصّرت واتخذت اسم "إيزابيل"، وقد توفيت بعد سنوات أثناء ولادتها ابنها الثاني لألفونسو.
كان من اللافت أن وصلت سلالة زائدة إلى إنجلترا بعد ارتباطها بألفونسو السادس ملك قشتالة وليون، فمن نسلها نشأت إيزابيل بيريز أميرة قشتالة، التي أُرسلت في القرن 14 إلى إنجلترا للزواج من إِيرل كامبريدج، ريتشارد كونسيرج.
إعلانثم قاد ابنهما ريتشارد دوق يورك تمردا ضد الملك هنري السادس، وهو التمرد الذي تطور لاحقا ليصبح ما يعرف "بحروب الورود"، التي استمرت لعقود قبل أن يتولى إدوارد الثاني ابن ريتشارد، العرش في عام 1461، وبذلك، وصل إرث الأندلس، إسبانيا الإسلامية، إلى البلاط الملكي لسلالة بلانتاجانت الحاكمة في بريطانيا، فلعل ولع تشارلز الثالث بالإسلام وحضارته يرجع إلى ما يجري في عروقه من إرث كامن لهذا الدين العظيم ولو من جهة التاريخ.
تشارلز والحضارة الإسلاميةفي عام 2015 زار ولي عهد بريطانيا وأمير ويلز وقتها الملك تشارلز الدوحة عاصمة قطر، وقد اقتضى البروتوكول أن يصحبه رئيس مكتبة قطر الوطنية ووزير الدولة حمد الكواري الذي لاحظ اهتمام تشارلز بالإسلام وتراثه وحضارته، حتى إن الكواري نقل عن تشارلز أن لديه انطباعا بإهمال العرب لحضارتهم وعدم قيامهم بدورهم المطلوب في تعريف العالم بهذه الحضارة، والغريب أنه في معظم حديثه كان يشير إلى الحضارة والتراث، ولا يستعمل كثيراً لفظ الثقافة إلا قليلا.
ويضيف الدكتور حمد عبد العزيز الكواري: "من قراءاتي عنه وجدت أنه يُتقن قراءة الخط العربي، ومن أقواله التي قرأتها له: العالم الإسلامي هو القيِّم على واحد من أعظم كنوز الحكمة والمعرفة الروحية المتراكمة المتاحة للبشرية".
يبدو اهتمام ملك بريطانيا بالإسلام وتراثه وحضارته، وقراءته الجيدة عنه، أمرا لافتا وقديما؛ مقارنة بمن سبقوه من ملوك وملكات بريطانيا، وفي ظل دولة عُرفت بتاريخها الإمبريالي الضخم في المنطقة العربية والإسلامية، بل قبل عدة عقود، عبّر الملك تشارلز الثالث عن رفضه لنظرية "صراع الحضارات"، التي تدعي وجود صراع بين الإسلام والغرب.
في عام 1993، تولى تشارلز رعاية مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، حيث ألقى خطابا مشهورا لا يزال متداولا حتى يومنا هذا بعنوان "الإسلام والغرب"، هذا الخطاب الذي لم يكن تقليديا أو متوقعا من أحد أفراد العائلة المالكة أو السياسيين الإنجليز البارزين، تناول فيه الدور الحيوي الذي لعبته الحضارة الإسلامية في تشكيل التاريخ الأوروبي، وأكد حينها أن الإسلام "عنصر أساسي في ماضينا وحاضرنا، وقد أسهم بشكل كبير في بناء أوروبا الحديثة. إنه جزء لا يتجزأ من تراثنا". كما دعا الغربيين إلى إعادة النظر في تصوراتهم المشوهة حول الإسلام، مشيرا إلى أن الشريعة الإسلامية في جوهرها تقوم على "العدالة والرحمة"، وفقا لما جاء في القرآن الكريم.
إعلانكما أكد تشارلز الثالث أن الإسلام منح المرأة حقوق الميراث والملكية، سابقا بذلك غيره منذ 1400 عام، مشيدا بروح التسامح التي ميّزت الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، كما أعرب عن أسفه لافتقار الغرب إلى الوعي بالفضل الكبير الذي تدين به الحضارة الأوروبية للإنجازات الإسلامية. واعتبر تشارلز المجتمعات المسلمة في بريطانيا جزءا أساسيا من النسيج الوطني، حيث وصفها بأنها "مصدر قوة" يسهم في إثراء التنوع الثقافي للبلاد.
وبدلا من الدعوات التي تطالب المسلمين بالتخلي عن هويتهم كشرط للاندماج، طرح تشارلز رؤية للتكامل تقوم على التفاهم المتبادل، حيث دعا المسلمين إلى التوفيق بين هويتهم الثقافية والدينية مع المشاركة الإيجابية في المجتمع البريطاني، وأكد في الوقت ذاته على أهمية احترام الممارسات الدينية الإسلامية والابتعاد عن السلوكيات التي قد تسبب إساءة.
هذا الخطاب كان بمثابة رسالة قوية من وريث العرش آنذاك إلى مسلمي بريطانيا، ومعظمهم من أصول مهاجرة، مفادها أن وجودهم في البلاد ليس مجرد أمر واقع مفروض، بل هو إضافة قيمة.
وبسبب هذه المواقف التي تحترم الإسلام وحضارته وتراثه، تعرض تشارلز لسخرية من معلقين مناهضين للإسلام بسبب اهتمامه بالحضارة الإسلامية، وكان من بين هؤلاء المعلق الأميركي المحافظ دانيال بايبس، الذي كتب مقالة بعنوان "هل اعتنق الأمير تشارلز الإسلام؟"، مستندًا إلى ما اعتبره "أدلة"، مثل مشاركة الأمير في إفطار رمضاني، وانتقاده لسلمان رشدي بسبب إهانة معتقدات المسلمين العميقة.
ولعل ذلك ما دفع مفتي قبرص من قبل، ناظم الحقاني في عام 1996 ليدلي بتصريح مثير للجدل ادّعى فيه أن تشارلز الثالث، ملك بريطانيا، وولي العهد وقتئذ قد اعتنق الإسلام سرا.
وقال الحقاني: "هل تعلم أن الأمير تشارلز أصبح مسلمًا؟ نعم، لقد حدث ذلك في تركيا. تحقّق من عدد زياراته إلى تركيا وسترى أن ملككم المستقبلي مسلم"، ولكن سرعان ما جاء رد قصر باكنغهام مختصرا وواضحا بأن هذا الكلام محض هراء، وذلك وفقا لتقرير نشرته "ميدل إيست آي" عشية تقلد تشارلز الثالث لعرش الملكية في بريطانيا، كاشفة فيه أبرز مواقفه تجاه الإسلام وحضارته.
وبحسب ما يرى هشام هيلير الباحث بمؤسسة كارنيغي للسلام في واشنطن، والزميل المشارك بالمعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن وبالمركز الإسلامي بجامعة كامبردج، فإن اهتمام تشارلز بالحضارة والفكر الإسلامي، مرجعه أعمال المفكر الفرنسي رينيه جينو، الذي وُلد كاثوليكيا وتلقى تعليمه في جامعة السوربون أوائل القرن 20، والذي رأى أن الحداثة الغربية المبنية على أسس مادية، تمثل انحرافا عن المسار الطبيعي لتاريخ البشرية، الأمر الذي دفعه فيما بعد إلى اعتناق الإسلام وسمى نفسه عبد الواحد يحيى، ليطلِّق المقام في الغرب، ويقرر المكوث والزواج في القاهرة التي قضى نحبه فيها بعد حياة فكرية حافلة لصالح الإسلام وحضارته.
إعلانومما يؤكد وجود هذا التأثر الواضح من المفكر الفرنسي المسلم عبد الواحد يحيى، ما جاء في خطاب ألقاه تشارلز عام 2006، الذي قال فيه: "إذا دافع التقليديون عن الماضي، فذلك لأن الحضارات ما قبل الحداثة كانت تقوم على وجود المقدس"، واعتبر أن عصرنا الحديث يتسم "بالتفكك والانفصال والتفكيك".
وفي خطاب سابق أمام الجمعية العامة لكنيسة أسكتلندا عام 2000، حذر من أن عصرنا يواجه خطر فقدان المعرفة بالقيم الروحية والمقدسة، ومن ثم رأى تشارلز أن العالم الحديث، خاصة في الغرب، أصبح "استحواذيا واستغلاليا"، وأشار إلى إمكانية تعلم مفهوم "الوصاية على الطبيعة الروحية والسرية للعالم" من الإسلام.
لقد نظر رينيه جينو -أو عبد الواحد يحيى الذي تأثر به تشارلز- إلى الشرق كمصدر للإلهام الفكري، وكتب عدة مؤلفات عن الهندوسية والطاوية قبل أن يغادر باريس إلى القاهرة، حيث انضم إلى الطريقة الأحمدية الشاذلية الصوفية ودرس في الأزهر الشريف، وتوفي مسلمًا في القاهرة عام 1951.
في كتابه "الشرق والغرب" يفكك رينيه جينو أسس الحياة والتقدم المادي عند الغرب، ويعيب عليهم نقمتهم على الشرق وأفكاره وشرائعه لأنها في زعمهم ثابتة راكدة وهذا عكس مفهوم التقدم الذي يرونه، يقول ناقدا هذه الرؤية: "في رأينا، هذا الطابع يعني أن هذه الحضارات الشرقية تشترك في ثبات المبادئ التي تستند إليها، وهذا أحد الجوانب الأساسية في مفهوم العلم الرباني، وما كانت الحضارة الحديثة دائمة التغير إلا لأنها لا مبدأ لها تستند إليه".
دور رينيه جينو في تشكيل رؤية الملك تشارلز للعالم والحضارتين الغربية والإسلامية أثار دهشة العديد من المعلقين، وكان من بينهم المؤرخ العسكري ماكس هاستينغز، الذي عبّر عن انتقاده في مراجعة لكتاب تشارلز "الانسجام.. طريقة جديدة للنظر إلى عالمنا"، حيث كتب في صحيفة "ديلي ميل" يقول: "الخطر الأكبر الذي يواجه مؤسستنا الملكية في العقود المقبلة يكمن في رؤية تشارلز الصوفية ذات النوايا الحسنة والمضطربة"!
إعلان تشارلز وتقديره للعمران والبيئة والفنون الإسلاميةومهما يكن من أمر، فقد استغل تشارلز أثناء ولايته للعهد ترجمة أفكاره هذه إلى ممارسات واقعية، ففي عام 1993، أطلقت مؤسسته برنامجًا للفنون البصرية الإسلامية والفنون التقليدية، حيث تعلم الطلاب فنون المنمنمات المغولية والبلاط العثماني والخط العربي، وكان البرنامج يستضيف شخصيات بارزة مثل الفيلسوف سيد حسين نصر، والباحث مارتن لينغز، الذي ألف سيرة ذاتية مشهورة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأكد أنه تأثر بعمق عندما قرأ أعمال المفكر المسلم رينيه جينو للمرة الأولى، وفي عام 2004، تطور البرنامج ليصبح مدرسة الأمير التأسيسية للفنون التقليدية.
كما تتجلى علاقة تشارلز بالفن الإسلامي في تفاصيل حياته الشخصية أيضا، مثلما يظهر في حديقة "السجاد" المستوحاة من التصاميم الإسلامية في منزله، وقد شرح تشارلز فكرته قائلا: "زرعتُ أشجار التين والرمان والزيتون في الحديقة، وهي أشجار ورد ذكرها في القرآن الكريم".
وفي خطابه الذي ألقاه عام 1996 تحت عنوان "إحساس بالقداسة.. بناء جسور بين الإسلام والغرب"، أشار تشارلز إلى أن تبني وجهات النظر الإسلامية حول النظام الطبيعي والبيئي يمكن أن "يساعد الغرب على إعادة التفكير في كيفية تحسين الرعاية العملية للإنسان وبيئته".
وفي عام 2010، تناول تشارلز هذه الأفكار بتفصيل أكبر في خطاب ألقاه بمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، الذي كان راعيه منذ عام 1993، حيث قال في خطابه: "من خلال ما أعرفه من التعاليم الأساسية للإسلام، فإن مبدأ أساسيا يجب أن نأخذه بعين الاعتبار هو أن وفرة الطبيعة لها حدود، وهذه ليست حدودا اعتباطية، بل هي حدود يفرضها الله، وإذا كان فهمي للقرآن صحيحا، فإن المسلمين مأمورون بعدم تجاوز هذه الحدود".
وفي ذات الخطاب وصف تشارلز الإسلام بأنه يحمل "أحد أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية المتاحة للبشرية"، مشيرا إلى أن هذا التراث العظيم غالبًا ما طُمس بسبب هيمنة "المادية الغربية".
إعلانوأكد قائلا: "الحقيقة المؤلمة هي أننا نتشارك هذا الكوكب مع بقية المخلوقات لسبب بالغ الأهمية: لا يمكننا العيش بمعزل عن شبكة الحياة المتوازنة بشكل دقيق من حولنا. لقد أدرك الإسلام هذا الأمر دائمًا، وتجاهلُ هذا الدرس يعني التقصير في علاقتنا مع الخالق".
كما أشار إلى أمثلة من التخطيط الحضري الإسلامي عبر التاريخ، مثل أنظمة الري في الأندلس قبل 1200 عام، كنماذج على كيفية تطبيق "التعاليم النبوية" في إدارة الموارد طويلة الأمد، بدلا من التركيز على "مصالح اقتصادات المدى القصير".
تأثير الإسلام في الغربلم يقف تشارلز عند تقديره البالغ للجانبين الروحي والمادي في الإسلام وحضارته، بل تعداه إلى بعض شرائعه وقوانينه التي يمكن الاستفادة منها في عالمنا المعاصر، ففي خطاب ألقاه عام 2013 أمام المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي في لندن، أظهر إلماما كبيرا بالتمويل الإسلامي وفوائده المحتملة للأسواق المالية العالمية.
وقال: "من المؤكد أنه من المفيد استكشاف كيفية استفادة الأسواق من الروح المتأصلة في الاقتصاد الأخلاقي للإسلام، التي يمكن أن تساهم في تبني نهج عادل وأخلاقي لإدارة المخاطر النظامية في الاقتصاد والأعمال والتمويل. فعلى سبيل المثال، تعمل مشاركة المخاطر، التي تتضمن التعاون بين المقرضين والمقترضين، بشكل مختلف عن التمويل التقليدي، الذي ينقل المخاطر بسرعة وبشكل متكرر إلى طرف آخر، مما يحقق ربحًا أحادي الاتجاه".
وقد أشار تشارلز الثالث في عدة مناسبات إلى إسهامات المسلمين في مجالات العلوم والفنون والدراسات الأكاديمية المختلفة، ففي خطاب ألقاه بجامعة الأزهر عام 2006، قال: "يجب أن نتذكر في الغرب أننا مدينون لعلماء الإسلام، فقد حافظوا على كنوز المعرفة الكلاسيكية خلال العصور المظلمة في أوروبا".
كما أضاف في معهد ماركفيلد للتعليم العالي في ليسترشاير قبل عدة سنوات، معلقا على دور الإسلام في تطور الرياضيات: "على أي شخص يشك في مساهمة الإسلام والمسلمين في النهضة الأوروبية أن يجرب إجراء بعض العمليات الحسابية البسيطة باستخدام الأرقام الرومانية، يجب أن نقول الحمد لله على الأرقام العربية ومفهوم الصفر الذي قدمه علماء الرياضيات المسلمون إلى الفكر الأوروبي".
إعلانلعل وجود ملك يؤمن بالحوار بين الأديان، ويبحث عن الحكمة في القرآن وثقافة المسلمين خارج أوروبا التقليدية، يمثل نقطة ضوء وسط عالم تتصاعد فيه النعرات اليمينية، التي طالت تشارلز نفسه في بعض الأحيان. ولعل تأثر تشارلز بالإسلام يعكس رؤية أوسع وأكثر توافقًا، عبّر عنها حين قال إن "العالم الإسلامي ليس آخَرَ يمكن مقارنته بالغرب؛ إنه جزء من تراثنا المشترك ومستقبلنا المشترك".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد الحضارة الإسلامیة القرآن الکریم تشارلز الثالث ملوک الطوائف الملک تشارلز الإسلامیة فی قصر الحمراء رینیه جینو فی القرآن فی الغرب کان من من بین فی عام إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا الإسلام في علو وانتشار والمسلمون في دنو وانكسار؟
في هذا المقال الحصري لـ"عربي21"، يتناول الدكتور أحمد بن نعمان، الباحث في شؤون الفكر العربي والإسلامي، واحدة من أكثر المفارقات إيلامًا وإثارة للتأمل: لماذا يواصل الإسلام صعوده وانتشاره عالميًا، في حين يرزح المسلمون تحت أعباء الانكسار والضعف والانقسام؟ سؤال محوري يفتح بابًا عريضًا للتفكر في فجوة الواقع بين قوة الرسالة وضَعف حَمَلتها، بين نور العقيدة وظلام الممارسة، بين ما يُتلى في المصاحف وما يُرتكب في الميادين.
ويعالج الكاتب هذا الإشكال بتشخيص دقيق ومؤلم لحال الأمة، متتبعًا أسباب التراجع الذاتي للمسلمين على مختلف الأصعدة، مقابل صعود لافت للإسلام في قلوب وعقول الشعوب الأخرى، حتى داخل "معاقل الخصوم". ومن خلال تحليل معمّق ومواقف واقعية، يكشف الدكتور نعمان كيف يتحقق وعد الله بإتمام نوره رغم كيد الأعداء وتقصير الأبناء، مشيرًا إلى دور النخبة المهاجرة، والدعاة الصادقين، والمهتدين الجدد، في إحياء الإسلام عالميًا في وقت تخلى فيه كثير من المسلمين عن حمله محليًا.
انتشار سريع للإسلام
لا ينكر عاقل من أبناء الأمة ومن الأعداء على حد سواء، أن المسلمين في الوقت الحاضر متفرقون في المذاهب، ومختلفون في المشارب، ومتناقضون في المواقف، ومتباينون في السياسات والانتماءات إلى تكتلات جهوية ودولية متصارعة على المصالح المتعارضة مع قيم الأمة الإسلامية وقواعد دينها التي تقضي بتطابق أقوال المسلم مع أفعاله والتي جعلتها على عرش أطول وأرقى الحضارات البشرية لقرابة قشرة قرون.
وفي الوقت ذاته لا يجادل عاقل أو ينازع إلا جاهل حاقد أو مكابر معاند بأن الإسلام في انتشار سريع في معظم بلاد العالم ورقعته في اتساع ظاهر لكل ناظر نتيجة عوامل وأحداث كثيرة وقعت في العقود الأخيرة من حروب وانتكاسات وخيانات ومؤامرات وانقلابات (بيضاء وحمراء وسوداء) في قلب البلاد الإسلامية وخاصة العربية منها التي انجر عنها تشتت خيرة أبنائها كالعملة الجيدة المتمثلة هنا في النخبة أو الصفوة الممثلة للإسلام في دولها ذات الأنظمة الاستبدادية الطاردة لها من مواطنها الأصلية مشرقًا ومغربًا كالعملة الرديئة التي تطرد العملة الجيدة من السوق، مما أجبرها على الهجرة في أرض الله الواسعة، نافذة بجلدها، ساعية لرزقها، محافظة على دينها، باحثة عن الأمن والاستقرار ولو في بلاد الكفار، الذين ثبت أنهم أفضل من بعض الأشقاء الظلمة المستبدين بالصالحين المصلحين من أهل الديار.
وهو ما يثبت مصداقية كلام الله في محكم تنزيله وإنفاذ أمره في إتمام نوره ولو كره الكافرون، وهي من الآيات المبهرة لهذا الدين الذي ينتشر ويقوى في العالم رغم وضع المسلمين الضعيف والمقلوب رأسًا على عقب في جميع المجالات، ورغم نعمة الله على المسلمين بكل الإمكانات المادية والبشرية في أهم ومعظم قارات الكرة الأرضية!
من تلك المفارقات العجيبة والغريبة الصارخة (بين حقيقة الإسلام في القرآن وواقع المسلمين في الميدان) أنه على الرغم من كل هذه العوامل المتكاملة لتشويه صورة الإسلام لدى المسلمين أنفسهم وبأفعال بعضهم فضلًا عن أعدائهم، نلاحظ أن الإسلام ينتشر وينتصر في اكتساب عقول وقلوب الملايين، في بلاد الخصوم (الحضاريين والدينيين) أنفسهم، الذين أتى منهم كل البلاء الذي يعم بلاد المسلمين في معظم أنحاء العالم..ومع ذلك، فترتيب معظم تلك الدول يأتي في آخر وأدنى الأرقام القياسية في التقدم والتنمية، بعد أن كانت قبل بضعة قرون في مقدمة الدول التي تفرض نفسها بالحق على أعدائها أيام حكم أمثال "المعتصم بالله"، الذي أصبح نظيره اليوم في الأمة ذاتها يستحق اسم (الخائن لدين الله، الخادم لأعدائه، والظالم لعباده في دنياه)!! وهو ما أحدث في عصرنا هذه الظاهرة غير العادية في الفصل الصارخ بين الإسلام في الأذهان وواقع المسلمين في الميدان، نتيجة فساد معظم أولئك الحكام في تلك الدول المنضوية اسميًا تحت عنوان الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وهي تتعاون فعليًا مع أعداء شعوبها ضد مصالح أوطانها. مما جعلها من ناحية القيمة الفعلية بين الأمم عبارة عن أصفار على اليسار!
ورغم أن أسباب تلك الأوضاع المؤسفة غالبًا ما تخرج عن إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها، إلا أنها مع ذلك لا تدور إلا بهم وعلى حسابهم وبأيدي بعضهم، (قاتلين ومقتولين) وكل واحد منهم يعتقد أنه من الفرقة الناجية.. وهو ما ينم عن وجود خلل في الفهم وخطأ في الاجتهاد أو خدعة وتضليلا من أولئك الحكام الفاسدين والمفسدين.
وإن واقع المسلمين في أرض الإسراء والمعراج وأولى القبلتين ليغني عن أي بيان أو برهان لكل ذي عقل وبصر وإحساس كإنسان محسوب على خير أمة أخرجت للناس.. ومن تلك المفارقات العجيبة والغريبة الصارخة (بين حقيقة الإسلام في القرآن وواقع المسلمين في الميدان) أنه على الرغم من كل هذه العوامل المتكاملة لتشويه صورة الإسلام لدى المسلمين أنفسهم وبأفعال بعضهم فضلًا عن أعدائهم، نلاحظ أن الإسلام ينتشر وينتصر في اكتساب عقول وقلوب الملايين، في بلاد الخصوم (الحضاريين والدينيين) أنفسهم، الذين أتى منهم كل البلاء الذي يعم بلاد المسلمين في معظم أنحاء العالم..
والدليل على هذا الانتصار للإسلام رغم حالة المسلمين، هو دق ناقوس الخطر من بابا الفاتيكان ودوله في بلاد الشمال ضد "محور الشر" أو بلاد الهلال كما تسمى في إعلام وحيد القرن، المتجبر والمتكبر على ما سواه من الأمم المستضعفة وفي مقدمتها أمة الإسلام المليارية عددياً والصفرية عملياً كما هو حاصل في الواقع.. ومع ذلك، نلاحظ تخوفهم الشديد وتحذيرهم من الإسلام الذي يدعون بأنه سيكتسح كل أوروبا خلال هذا القرن مما دفع إحدى أكبر هذه الدول (ولأول مرة في تاريخها) إلى إنشاء وزارة خاصة بالهوية للدفاع عن هويتها الوطنية مخافة تذويبها في هوية الدين الغالب على أهلها كما يتوقعون ويبررون تحريضهم الشديد عليه وعلى اتباعه عندها على أرضها وخارها عندنا وعند غيرها..
وقد أكد هذا التخوف لديهم خروج الملايين من المسلمين في أهم عواصمهم لصلاة العيد الصغير هذا العام بطريقة غير مسبوقة من حيث العدد والتنظيم والانضباط. ومن وسائل الوقاية للمحافظة على تلك الهوية في نظر حكام هذا البلد الصليبي ورهطه في الاتحاد الأوروبي هو صد هذا الخطر المحدق بهم في أوطانهم، ولذلك يخططون لضربه من الداخل ببعض الدعاة والأئمة "الضرار" المدسوسين في صفوف المسلمين لتزوير حقائق الإسلام وتشويه صورته في الأذهان، بكل الوسائل المرصودة لهم بسخاء من مؤتمر (كولورادو) وغيره كما هو معلوم.
ومع ذلك فإن مخططاتهم لم تستطع تغيير قلوب المهتدين إلى الحق في مجتمعات حرة متطورة فقدت ثقتها في الكنيسة وسلوك الرهبان، وأخذت تولي وجهها شطر الإيمان والاطمئنان، هروبًا من جحيم المادة والآلة إلى واحة الراحة النفسية في حضرة التوحيد بعيدًا عن خرافة التثليث الكنيسة في الدول الغربية. وهو ما أفزع تلك الدول ودفعها إلى التصريحات المذكورة واتخاذ التدابير وإصدار القرارات المنشورة وغير المنشورة. وإن وضع أحد وزراء الدفاع في أقوى تلك الدول علامة الصليب على جبينه منذ أيام ووشم كلمة "كافر" (باللغة العربية) على ذراعه مما يدل في رأينا كما في معتقدهم بالتأكيد على أن هناك علاقة عضوية في الأمة المحمدية بين الإسلام كدين واللغة العربية كحضارة، مثلما نلاحظ أيضًا في كتابة كلمة "حلال" للمسلمين (العرب وغير العرب) في كل العواصم الغربية مما يوحي اليهم بإمكان انبعاث الحضارة الذهبية للمة المحمدية من جديد!؟!
وأمام إفلاس الخطاب الديني الكنسي والعلماني في الغرب الصليبي، وعدم قدرة الباطل على محاجّة الحق بالعلم والمنطق السليم، عمد الخصوم إلى طريقة الهجوم الدفاعي باللجوء إلى التضليل والكذب السافر والعنف الخفي والظاهر، والكيد الماكر لدعوة الحق، والدعاة الناجحين، والبحث في مخابرهم ودوائر مؤسساتهم العاملة (تحت عدة عناوين إنسانية واجتماعية وسياسية واقتصادية) على بعض الدعاة والأئمة "الضرار" المصطنعين على أعينهم في مخابرهم ومخابراتهم، لتلميع صورهم في أبواق إعلامهم وتقديمهم كدعاة للإسلام المستنير والتقدمي (حسب ادعائهم) لصد خطر الإسلام الظلامي والقدري أو الحجري كما يصفون ظلما وبهتانا..
وبما أنه لا يمكنهم أن يمرروا ذلك الادعاء مباشرة عن طريق الفاتيكان أو الدول الصليبية الغريمة في القارة الجديدة والقديمة فإنهم يوكلون أمر التبليغ والتنفيذ إلى أولئك الخبراء العاملين في حقل الدعوة "الضرار" هاته من أبناء جلدتنا والمتحدثين بلغتنا في كل مكان من بلاد المسلمين، ولا داعي لذكر أسماء تلك الهيئات في الدول والإمارات وأولئك "الدعاة" الموظفين (والمكلفين بمهمة) كموجهين و"مفكرين إسلاميين" في بلادنا، لا فساد عقول أبنائنا بما يقدمونه لهم (من مادة قاتلة للروح قبل الجسد) في تلك المحطات الإعلامية الممنهجة والمروجة بالملايير لتضليل الملايين من أبناء المسلمين!
ومع ذلك لم ينجحوا، والدليل على فشلهم هو فزعهم من الأرقام المتزايدة لعدد المعتنقين الجدد المهتدين إلى الإسلام من أبنائهم في بلداننا وبلدانهم، بسبب الخطاب الإسلامي الحكيم والناجح الذي أدى إلى إفشال كيدهم بواسطة بعض الدعاة من أبنائهم بلسانهم ومنطقهم، وسلاحهم القانوني الذي ينص على حرية التعبير والاعتقاد والفصل بين السياسة والدين. وأمام هذه الحقيقة التي عجزوا عن مجابهتها، فلجأوا إلى محاربتها بالتعتيم والتشويش على الدعاة المؤثرين واتهامهم بالإرهاب والتحريض على الكراهية، مما أدى إلى تشويه سمعتهم وإغلاق أجهزة الإعلام في وجوههم وتهديد الأجانب منهم بسحب الإقامة وتسفيرهم إلى بلدانهم الأصلية لينالوا جزاءهم في مصالح الأجهزة "الأمنية" التي فروا منها بحثًا عن الأمن والأمان والعدل والحرية في تلك البلاد الغربية!
وإن ظاهرة إقبال الناس على الإسلام من كل الأجناس والأقوام بعد التعرف على حقيقته من خلال سلوك وصدق دعوة بعض الدعاة المخلصين الموهوبين من أبنائنا وأبناء الغرب ذاته المؤثرين في واقعه، لدليل قاطع على جوهر الإسلام وقيمته في ذاته كما عبر عنه الكثير ممن اعتنقه بعد فهمه الصحيح، ومنهم ذلك الزعيم الأمريكي الأسود (مالكوم إكس) المهتدي إلى دين الحق الذي صرح بعد عودته من تأدية فريضة الحج سنة 1964 أنه ولأول مرة في حياته يشعر أنه إنسان كامل الحقوق والواجبات، ولا فرق بينه وبين أي إنسان ذي سحنة مغايرة لسحنته إلا في درجة الإيمان بربه في قلبه والصدق والتقوى والإحسان في عمله، ولقد لمس في الواقع قول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وهي التقوى التي قربت ووحدت قلوب كل من بلال الحبشي (الإفريقي) وصهيب الرومي (الإغريقي) وسلمان الفارسي (الآسيوي) ومالكم اكس (الأمريكي) وجعلتهم كلهم من المقربين المؤمنين الصالحين وأبعدت أبا لهب في الغابرين، دون أن يشفع له جاه عشيرته أو قرابته الدموية من ابن أخيه محمد (ص) نبي الإسلام محرر الإنسان من عبادة الأصنام والأوثان!؟! هذا الإسلام المجسد في سلوك المسلمين (في المحتوى الإنساني والمستوى الرباني) الذي لخصه مهتد آخر إلى الإسلام من الفرنسيين المسيحيين أنفسهم أيام احتلال دولته للجزائر في الثلاثينيات من القرن الماضي وهو الفنان والمفكر (نصر الدين ديني) الذي لخص موضوعنا كله بقوله الحكيم الذي بقي مثلاً سائراً بين كافة المسلمين وسيبقى كذلك إلى يوم الدين حيث قال: "الحمد لله الذي عرفني بالإسلام قبل أن أعرف المسلمين".
إن ظاهرة إقبال الناس على الإسلام من كل الأجناس والأقوام بعد التعرف على حقيقته من خلال سلوك وصدق دعوة بعض الدعاة المخلصين الموهوبين من أبنائنا وأبناء الغرب ذاته المؤثرين في واقعه، لدليل قاطع على جوهر الإسلام وقيمته في ذاته كما عبر عنه الكثير ممن اعتنقه بعد فهمه الصحيحأي قبل أن يعرف سلوك المسلمين (الإسميّين أو الشكليّين والصوريّين) وذلك إقرارًا منه بأنه لو سبق أن عرف السلوك المشين لبعض المسلمين بعد أن احتكّ بهم وتعامل معهم مثلما هو واقع الحال وسبب كتابة هذا المقال... لنفر حتمًا من هذا الدين الذي شوّهه بعض أهله بسلوكهم المشين في كل مصر وحين ولحاربه مثل دولته (الرسمية والاسمية) الحاقدة على الإسلام وأهله في الماضي والحاضر فضلًا عن أن يعتنقه رغماً عنها وعن كل أهله في موطنه الأصلي (فرنسا) ومهجره الطوعي (الجزائر) ويبقى داعيًا لدين الحق بصدق وإخلاص حتى وفاته ليدفن مسلمًا بين أهل ملته الجديدة في وحدة القبلة والعقيدة..
فهذه المفارقة في الخطاب الإسلامي بين ما في الأذهان وما في الأعيان، وبين نص القرآن وما يجسده بعض المسلمين (الجغرافيين) في الميدان من تقصير وإجحاف وغلو وانحراف، واختلال صارخ في الميزان بين ما في القرآن وما في الأعيان من سلوك الإنسان فكانت الهداية للمستنيرين الذين يفرّقون بين الإسلام وسلوك المسلمين وكانت الضلالة لغير المتبصّرين الذين يحكمون على الإسلام من خلال واقع المسلمين المنحرفين!؟! فكان الفتح المبين لعقول وقلوب بعض أبناء الأعداء والغرماء أنفسهم بدعايتهم أحيانًا في أجهزة إعلامنا وعلامهم مجانًا!! على أن هذا المكسب الطيب الذي حققه الخطاب الإسلامي في الغرب بمعدنه الصافي وبمجهود بعض أبنائه الأصلاء على قلتهم، يقتضي من المعنيين بالأمر المزيد من توضيح الصورة في هذا المجال الحيوي الخاص، حسب ما رصدناه بالمعايشة في الميدان لعدد من السنين التي لا حظنا فيها أن الإسلام والخطاب الإسلامي يعيش بين نقيضين، وأسلوبين مختلفين وعدوين متحالفين، أحدهما من خارج الأمة، والآخر من داخلها، ومن بعض أهلها مع الأسف الشديد..
ولكن "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون"، وهذا وعد الله الذي يبدأ ويعيد وينصر دينه الحق رغم كل اعدائه وهو المتحكم في ملكه المطلق بالتأكيد كما يشاء ويريد.