بين حمدوك وسر الختم الخليفة: سنعبر
تاريخ النشر: 7th, March 2025 GMT
3 نوفمبر 2021
(توقف عند ملاحظة دولة 56 بعد ثورة أكتوبر مزنوقة من جماهير الهامش زنقة الكلب اللحس الخمارة. وتقول لي ترباس مشلخ"
قلت للدكتور حمدوك، رئيس الوزراء، في لقاء بالزوم إنك عقدت مقارنة بين ثورة أكتوبر وثورة ديسمبر من جهة عاصمية الأولى وإقليمية الثانية لم اتفق معك فيها. ولكن المقارنة التي صحت عندي وهي أنك ما تزال رئيس وزراء الثورة لم تستقل كما فعل سر الختم الخليفة، رئيس مجلس وزراء ثورة أكتوبر.
بدا لي أن العسكريين، بعد أن خاب فألهم في انقلابهم، يريدون إعادة إنتاج سر الختم الخليفة الذي كان على رأس تشكيلين وزاريين مختلفتين في أكتوبر ١٩٦٤. فأجمع الناس عليه في الوزارة التي تشكلت بعد الثورة مباشرة في أول نوفمبر ١٩٦٥ ثم استقال بضغط من الثورة المضادة كما سنرى ليشكل حكومة مختلفة جداً في فبراير ١٩٦٥. فبدا لعسكري اليوم، واسطة عقد الثورة المضادة في منصة القصر، أنه ربما أن دولتهم باطلة بغير حمدوك. فأرادوا منه بالمفاوضات الجارية أن يشكل حكومة ثانية بشروطهم كما فعل الخليفة في حكومته الثانية.
كانت ثورة أكتوبر قد انقسمت في الرأي والفعل إلى منصتين. استعصمت جبهة الهيئات، رأس قائدة الثورة، في نادي أساتذة جامعة الخرطوم بينما اجتمعت قوى الثورة المضادة، التي ضمت حزب الأمة والوطني الاتحادي والإخوان المسلمين، في قبة الإمام المهدي. وحملت منصة القبة على جبهة الهيئات، التي نسبوها للشيوعيين مرة واحدة، بهمة، بل بكفاءة عالية. وكان أكثر ما أرقهم قيام وزارة غلب فيها المهنيون والعمال والمزارعون بينما لم ينل أي حزب كبر أم صَغُر، سوى مقعد وزاري. وانزعج النادي السياسي التقليدي لتلك "البدعة" التي خشي أن تكون سنة فينا.
وحملت منصة القبة على الحكومة والجبهة والشيوعيين حملة بلغت من التصنع الشرس حداً أضطر معه الخليفة للاستقالة في ١٥ فبراير ١٩٦٥. وجاء في استقالته رضاؤه بما قامت به حكومته، ولم ينقض على قيامها ثلاثة أشهر ونصف الشهر، في تنفيذ برنامجها الانتقالي. وأشار إلى دبيب الشقاق بين الأطراف التي وقّعت على ميثاق الثورة. فهناك من رأى الحكومة حادت عن الطريق المرسوم ومن يراها التزمت به. وخلص إلى أن هذا الخلاف أفسد الجو السياسي. وعليه رأى الخليفة أن يستقيل "حرصاً على مصلحة البلاد وسلامتها وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد". ورأى في ذلك حلاً يتيح للأطراف المتنازعة أن تعيد النظر في ميثاق الثورة، وسبل تنفيذه فيما تبقى من فترة الحكومة الانتقالية. وقبل مجلس السيادة الاستقالة وكلفه بالبقاء رئيساً للوزراء وتشكيل حكومة جديدة.
وكانت جريدة "الميدان"، الناطقة باسم الحزب الشيوعي، قد تساءلت عن ذلك التهديد لسلامة المواطنين الذي اضطر رئيس الوزراء للاستقالة. وهو سؤال معروف ب"البلاغي" لأن الميدان كانت تعرف الإجابة. فما حمل رئيس الوزراء على الاستقالة كان تحشيد حزب الأمة لقوى الأنصار من الأرياف لتعرض بقوة، وبالقوة، مطلبها أن تستقيل حكومة الثورة الأولى لانحرافها عن مسارها في زعمهم. وقد شهدت بنفسي رتلاً من السيارات عليها أنصار غلاظ شداد تطوف شوارع الخرطوم. وقيل إنها كانت بقيادتها السيد الأصم. ولن يكون استعراض الأنصار لعضلهم السياسي في فبراير ١٩٦٥ الأخير في بابه. فقد عادوا في نوفمبر من نفس السنة ليفرضوا بالقوة حل الحزب الشيوعي. وسمى أستاذنا عبد الخالق محجوب إحداق الأنصار بدار حزبه، وتعديهم على أعضائه، ب"عنف البادية".
ووجدت عند المؤرخة الذربة الدكتورة فدوى عبد الرحم على طه أفضل تصوير لاستعراض العضل الأنصاري في فبراير ١٩٦٥ الذي آثر بعده رئيس الوزراء السلامة للوطن بالاستقالة. فحل حكومة الثورة الأولى. قالت:
تفاقم الأمر بالتهديد بقدوم حشود من الأنصار إلى الخرطوم من النيل الأبيض وكردفان والنيل الأزرق. ففي اليوم الرابع من فبراير ١٩٦٥ امتلأت العاصمة بآلاف من الأنصار الذين وفدوا من الأقاليم وهددوا الحكومة وطالبوا باستقالتها. وطافت الحشود شوارع الخرطوم مطالبة بإنقاذ البلاد من سيطرة جبهة الهيئات والشيوعيين وتكوين حكومة جديدة تعبر عن المصلحة الوطنية العليا. وأصدر أحمد المهدي في يوم ١٦-٢-١٩٦٥ بياناً قال فيه بأن لحزب الأمة "القدرة على تغيير الحكومة، إلا أنهم يفضلون حلاً مدنياً لحل الأزمة السياسية بالبلاد. وإن لم ينجح ذلك الحل السياسي فسيجد حزب الأمه نفسه مجبراً على استخدام القوة". وكرر عبد الله عبد الرحمن نقد الله سكرتير عام الحزب ذات التهديد بجلب الأنصار من مناطق نفوذ الحزب بالأقاليم.
واختلف أمران هذه المرة. لقد زين الأنصار منصة ثورة اليوم بوجودهم الغزير من فوق نضال مستميت بقيادة الإمام الصادق المهدي لديكتاتوريات تعاقبت، وضرجت الوطن. أما الأمر الثاني ففينا حمدوك الذي عززته الجماهير الحدادي مدادي يوم ٣٠ أكتوبر لحماية الانتقال الديمقراطي. لسنا أقلية نحن هذه المرة.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: رئیس الوزراء ثورة أکتوبر
إقرأ أيضاً:
السادس من أبريل..من سرق الوعد النبيل؟
يصادف اليوم مرور الذكرى الأربعين لقيام ثورة أبريل 1985 فيما صارت أوضاع بلادنا أسوأ من أوضاع ذات الأيام التي اندلعت فيها. العنوان الأبرز بعد هذه السنوات من العراك السياسي، والعسكري، هو فشل السودانيين في استثمار الوقت، والإمكانية، والعقل.
ورثت أبريل الحرب الأهلية في جنوب البلاد، وما تزال الحرب بعد أربعة عقود تغطي الآن كامل البلد. بل لم يبق مواطن بعيداً عن التأثر المؤلم بها. وحتى الذين أوقدوها ثم هربوا إلى الخارج لحقت بهم بأشكال متفاوتة، وأقلها دفع أهاليهم، ومناطقهم، ثمناً باهظاً للخراب. خلافاً لحرب الجنوب التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحل أثناء ديمقراطية أبريل، فإن الحرب الراهنة ضربت قلب البلاد لتنتشر في كل نجوعها، بينما كانت الحرب الأهلية في الجنوب تحاول شل أطرافها للوصول إلى العاصمة.
استنسخت ثورة أبريل عزم ثورة أكتوبر لمعالجة الخلل البنيوي الذي صاحب نشوء الدولة السودانية ما أدى إلى استشراء رقعة الحرب حتى الشمال. ولكن للأسف تعثرت كل محاولات استمرار الثورة الواعدة لاستدامة الديمقراطية. ذلك بوصفها الخطوة الأولى نحو إقامة الدولة الوطنية التي تحقق الشعارات التي رفعتها هذه الأجيال التي خلقت الثورات الواعدة.
ما ميز ثورة أبريل وسط هذه الثورات السودانية أن قادتها الحزبيين كانوا أكثر تعليماً، وكفاءةً. ولكن ظل العراك الحزبي الذي تمت استعادته من فترة ما بعد أكتوبر هو جوهر هذا الفشل في إدارة الصراع الحزبي في الزمن الديمقراطي. ولاحقاً استعارت النخبة السياسية في ديسمبر ذات الأخطاء التي مهدت للعسكر الحزبيين الانقضاض على السلطة، على ما في طبيعة تفكير النخب العسكرية دائماً من استهانة بقدرة المدنيين أصلا في إدارة الدولة، وصيانة مصالح المواطنين.
برغم كل ما لازمها من مطبات سياسية، فإن أوضاع ما بعد ثورة أبريل خلقت نوعاً من الحراك السياسي لو استمرّ إلى يوم الناس لهذا فربما قلت الحاجة إلى ثورة ديسمبر. ولساهمت الانتفاضة - كما سميت أيضاً - في تطوير الوعي السياسي، وأوجدت من ثم تراكماً في التداول السلمي الذي يخلق تنافسه الحتمي بين الأحزاب روّى بصيرة لدى القيادات السياسية المنتخبة.
لكن أنهت الجبهة الإسلامية التداول السلمي للسلطة التي سطت عليها فاعتمدت الاستبداد كوسيلة أحادية
للتطور السياسي التقدمي، وكأداة للبناء الوطني الموحد، وكرافعة لتحقيق النهضة الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية!. وبعد ثلاثين عاماً من التجريب السياسي القائم على الأدلوجة الدينية للحكم الإسلاموي تضاعفت أزمات السودان التي حاولت النخب السياسية في إبريل حلها، وفي قمتها حسم ملف السلام.
واضح أن العالم الآن بعد إصابته بالفتور من الصراع السوداني - السوداني العقيم تدخل بذيوله الإقليمية والدولية لتبقى البلاد متورطة في حرب الوكالة التي لم تكن ماثلة قبل أربعين عاماً. ولهذا تعقدت الحرب، وجلبت أطرافاً خارجية للاستثمار في موارد البلاد التي عجزنا عن التحكم فيها، وتوظيفها لصالح تقدم، ورفاهية أهلنا في كل مناطقهم.
وبرغم بعد المسافة الزمنية بين ثورة أبريل وبين ثورة ديسمبر مقارنة بين الثورة الأولى والثانية، فإن التركة السياسية الضخمة تضاعفت مرة أخرى بعد سقوط نظام الجبهة الإسلامية القومية. ولعل أخطر ما في هذه التركة التشرذم وسط القوى السياسية بعد انقلاب البرهان - حميدتي، وكذلك انسداد الأفق بعد الحرب التي أشعلها الإسلاميون.
الأمل الوحيد الذي يتزامن مع مرور الذكرى الأربعين لثورة أبريل 1985 هو الرهان على الجبهة الوطنية المدنية الواسعة للضغط على الطرفين لإيقاف الحرب، واستئناف المسار الانتقالي لثورة ديسمبر. صحيح أن التحدي كبير، ولكن لا سياسة بلا تحدٍ، مهما تعاظم حجمه.
suanajok@gmail.com