بقلم : تاج السر عثمان
١
مع استمرار الحلقة الشريرة في البلاد وهيمنة الحكم العسكري، أصبحت الدساتير والمواثيق حبرا على ورق، ولم تصمد أمام نقض العهود والمواثيق، ومع استمرار الحكم العسكري سواء كان اسلامويا أو من الدعم السريع، فلن يصمد الدستور الجديد التأسيسي ، ويزيد الطين بلة محاولة تكوين حكومة موازية غير شرعية في مناطق سيطرة الدعم السريع، مع إتجاه حكومة الأمر الواقع غير الشرعية لتكوين حكومة عسكرية اسلاموية بعد التعديلات الدستورية غير الشرعية التي أدخلها البرهان عليها، فهي حكومة غير شرعية وخرجت من رحمها حكومة غير شرعية، مما يقود للمزيد من الدمار والخراب في البلاد.


فقد وقعت الأطراف المكونة لتحالف السودان التأسيسي يوم الثلاثاء ٤ مارس على الدستور الانتقالي لجمهورية السودان لسنة 2025 م.، أهم النقاط الموجهة التي نص عليها الدستور هي :
الغي الوثيقة الدستورية الانتقالية لسنة 2019 والمراسيم السابقة.
نص على أن السودان دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية، ذات هوية سودانوية، تقوم على فصل الدين عن الدولة ، وكذلك فصل الهويات الثقافية والعرقية والجهوية عن الدولة والتأكيد على أن المواطنة المتساوية هي الأساس للحقوق والواجبات.
يقوم نظام الحكم في السودان على اللامركزية السياسية، والإدارية، والقانونية، والمالية.
الدولة السودانية تؤسس على الوحدة الطوعية والإرادة الحرة لشعوبها واحترام التنوع والتعدد العرقي والديني والثقافي والمساواة بين جميع الأفراد والشعوب في الحقوق والواجبات .
تتكون الفترة الانتقالية من مرحلتين وهما الفترة ما قبل الانتقالية التأسيسية، وتبدأ من تاريخ سريان هذا الدستور وتستمر حتى الإعلان الرسمي عن إنهاء الحروب، الفترة الانتقالية التأسيسية، وتبدأ فور الإعلان الرسمي عن إنهاء الحروب وتمتد لمدة عشر سنوات وحدد الدستور عدد من المهام لحكومة السلام الانتقالية المرتقبة من بينها إيقاف وإنهاء الحروب وإحلال السلام العادل المستدام وتهيئة المناخ لإطلاق عملية سياسية شاملة لتحقيق الأمن والاستقرار والعدالة والتنمية.تعزيز دعائم الوحدة الوطنية الطوعية وإحلال التعايش السلمي ومحاربة خطاب الكراهية، مجابهة الكارثة الانسانية،حماية المدنيين، تأسيس وبناء مؤسسات الدولة، استكمال مهام ثورة ديسمبر، حماية الحقوق الدستورية لجميع المواطنين بدون تمييز، تهيئة الظروف المناسبة لعودة النازحين واللاجئين ، العمل على بناء وإعمار ما دمرته الحرب وحشد الجهود الوطنية والاقليمية والدولية لتوفير الموارد اللازمة .
وغير ذلك من المواد والبنود التي أشار لها الدستور

٢

كما اشرنا سابقا كان من نتائج الأزمة الوطنية العامة التي نشأت بعد الاستقلال الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية ونقض العهود والمواثيق كما في الآتي:
أ- بعد الاستقلال في عدم الوفاء بتحقيق الحكم الفدرالي للجنوب، مما أدى لانفجار التمرد عام 1955 وتعميق المشكلة.
ب- في اتفاقية أديس أبابا 1972، فقد كفل دستور 1973م الذي جاء بعد اتفاقية أديس أبابا الحقوق والحريات الأساسية فيما يختص بالمسألة الإثنية والدينية في المواد 38، 47، 52، 56 والتي أشارت إلى الآتي:ـ
– المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات دون تمييز بسبب اللغة أو الدين أو العرق أو المركز الاقتصادي أو الاجتماعي.
– حرية العقيدة والضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية.
– حظر السخرة والعمل الإجباري.
– حق الأجر المتساوي للعمل المتساوي.
– حق استعمال الأقليات لغاتها وتطوير ثقافاتها.
لكن نظام مايو الديكتاتوري الشمولي أو حكم الفرد الذي كان سائداً في الفترة (1969- 1985م) أجهض اتفاقية أديس أبابا، واندلعت نيران التمرد والحرب من جديد بشكل أكبر، وازداد الأمر تعقيداً بعد صدور قوانين سبتمبر 1983م.
ج - بعد انتفاضة مارس - أبريل ١٩٨٥، جاءت مبادرة السلام السودانية (الميرغني- قرنق) في 16/ نوفمبر 1988م والتي تم فيها الاتفاق على تهيئة المناخ الملائم لقيام المؤتمر الدستوري، والذي يتلخص في الآتي: ـ
– تجميد مواد الحدود وكافة المواد ذات الصلة المضمنة في قوانين سبتمبر 1983م، وأن لا تصدر أي قوانين تحتوي على مثل تلك المواد وذلك إلى حين انعقاد المؤتمر الدستوري والفصل نهائياً في مسألة القوانين.
– كما اتفق الطرفان على ضرورة عقد المؤتمر الدستوري.
ولكن انقلاب 30/ يونيو/ 1989م الإسلاموي قطع مسار ذلك الحل، وتم الرجوع للمربع الأول، وتصاعدت الحرب الأهلية بشكل أوسع بعد أن اتخذت طابعاً دينياً..أدت لانفصال الجنوب.
د - تواصلت الجهود بعد انقلاب الإسلامويين للحل السلمي الديمقراطي لقضايا التعدد الإثني والديني في السودان، فنجد إعلان نيروبي 1993م الذي أشار إلى أن تضمن القوانين المساواة الكاملة للمواطنين على أساس المواطنة واحترام المعتقدات الدينية والتقاليد ودون تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو الثقافة، وإعلان المبادئ لمجموعة الإيقاد يوليو 1994م، ومؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا 1995، وفي ابريل 1997م تمت اتفاقية السلام بين حكومة السودان وبعض الفصائل المقاتلة في جنوب السودان، أشارت الاتفاقية إلى: حرية الاعتقاد، والمواطنة على أساس الحقوق والواجبات. إلخ، لكن لم يتم التنفيذ، وتحولت الاتفاقية لمحاصصات ومناصب، وكانت النتيجة عودة للحرب، وفي 25/ نوفمبر/ 1999م، ثم توقيع نداء الوطن بين السيد الصادق المهدي والرئيس عمر البشير، الذي أشار إلى أن: تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية، ولا تنال أي مجموعة وطنية امتيازاً بسبب انتمائها الديني والثقافي أو الإثنى، وتراعي المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وتكون ملزمة، والاعتراف بالتعددية الدينية والثقافية والإثنية في السودان. إلخ، ولكن النداء ظل حبراً على ورق، لم يجد طريقة إلى الواقع.
ه - بعد ذلك تم توقيع اتفاقية نيفاشا التي كان جوهرها:
– تغليب خيار الوحدة على أساس العدالة ورد مظالم شعب جنوب السودان، وتخطيط وتنفيذ الاتفاقية بجعل وحدة السودان خياراً جاذباً وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلاً (بروتكول مشاكوس).
– التحول الديمقراطي وقيام نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين الجنسين لدى شعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية الحقوق والحريات الأساسية، وأكدت على أن يكون جهاز الأمن القومي جهازاً مهنياً ويكون التفويض المخول له هو تقديم النصح والتركيز على جمع المعلومات وتحليلها (المادة: 2-7-2-4)، وتم تضمين ذلك في وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، على أن يتوج ذلك بانتخابات حرة نزيهة تحت إشراف مفوضية للانتخابات مستقلة ومحايدة (المادة:2-1-1-1)، واستفتاء على تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية يدعم ويعزز خيار الوحدة.
– إيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام، بل أيضاً بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الإنسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني.
لكن لم يتم تنفيذ الاتفاقية وتحولت لمحاصصات ووظائف، وكانت النتيجة فصل الجنوب
كما وقع النظام أيضاً اتفاقيات مع حركات دارفور مثل: اتفاقية أبوجا مع حركة مناوي، وتحولت لمحاصصات ولم يتم تنفيذ الاتفاقية، وكذلك اتفاقية الدوحة التي لم يتم تنفيذها.
و - بعد ثورة ديسمبر 2018 كما فصلنا سابقاً، تم الانقلاب على الثورة، وتمت مجزرة فض الاعتصام في القيادة العامة والولايات رغم تصريح العسكر بعدم فضه، وتم التوقيع على اتفاق جوبا (3 أكتوبر 2020) مع الجبهة الثورية الذي تحول لمحاصصات ومناصب ولم يتم التنفيذ فضلاً عن الفشل في وقف الحرب، كما تم الانقلاب على الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر 2021 بعد قرب استحقاق تسليم المدنيين قيادة الفترة الثانية من المرحلة الانتقالية، إضافة للتوقيع على الاتفاق الإطارى، لكن لم يلتزم العسكر به، وكانت الحرب الدائرة الآن حول السلطة والثروة.

٣
بالتالي في ظل استمرار الحرب وتجربة الحكم العسكري في بورتسودان، محاولة قيام الحكومة الموازية في مناطق الدعم السريع، يصبح الدستور التأسيسي العلماني الذي تم التوقيع عليه حبرا على ورق.
مما يتطلب وقف الحرب واستعادة مسار الثورة، وخروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد ووقف التدخل الخارجي والدعم العسكري لطرفي الحرب، وعدم الإفلات من العقاب بمحاسبة كل الذين ارتكبوا جرائم الحرب وضد الانسانية، وقيام الحكم المدني الديمقراطي، الذي يضمن الالتزام بالعهود والمواثيق كشرط لاستدامة الديمقراطية والسلام، وحتى لا يتم المزيد من تمزيق وحدة البلاد.

alsirbabo@yahoo.co.uk

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحقوق والواجبات جنوب السودان فی السودان على أن لم یتم

إقرأ أيضاً:

جنوب السودان على شفا الحرب الأهلية

ينسب للدكتور فرنسيس دينق، المثقف والدبلوماسي السوداني - الجنوب سوداني المعروف، أنه مَن اقترح فكرة «دولة واحدة بنظامين»... حلاً لإنهاء النزاع في السودان قبل انفصال جنوب السودان. ينتمي فرنسيس دينق إلى منطقة آبيي الحدودية المتنازع عليها بين الدولتين؛ ولأن أبناء هذه المنطقة نشأوا في أجواء التداخل بين البلدين، فقد كان حريصاً على بقاء السودان موحداً؛ لهذا طرح صيغة دولة واحدة كونفدرالية تُحكَم بنظامين لكل جزء من البلاد. وعندما انفصل جنوب السودان وصار دولة مستقلة تحمل كل أدواء الدولة السودانية القديمة من فساد ونزاعات وحرب أهلية، صار الشعار الجديد الذي يصف الأوضاع في البلدين... «دولتان بنظام واحد».

الآن، وبينما تمزّق الحرب الدولة السودانية، فإن دولة جنوب السودان تسير في الطريق نفسها، وتقف على شفا الحرب الأهلية بعد اعتقال الرئيس سلفا كير ميارديت نائبه الدكتور رياك مشار ومعه عدد من قادة حركته، بعد تجدد النزاع المسلح في منطقة الناصر.

الحقيقة أنه ومنذ استقلال دولة جنوب السودان في عام 2011، لم تتوقف النزاعات بين الرجلين، فقد بدأت مبكراً في عام 2013 باتهام الرئيس سلفا كير نائبه مشار بتدبير محاولة انقلاب ضده، وخرج مشار ليكوّن انشقاقاً من التنظيم الذي كان يجمعهما، الحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLM)، وكوّن مشار تنظيم الحركة الشعبية في المعارضة (SPLM-IO).

وتكررت النزاعات أكثر من ثلاث مرات خلال الفترة من 2013 وحتى 2025، ودائماً ما تمر بمرحلة خروج رياك مشار أو عزله من جانب الرئيس، ثم تتوسط دول الجوار والمنظمات الإقليمية والدولية ليوقّع الرجلان على اتفاقية سلام، سرعان ما يتم خرقها. تكرر هذا أكثر من مرة، وتم التوقيع على اتفاق سلام في 2018، وتم تفعيله في عام 2020 وتشكيل الحكومة.

ولأن العامل القبلي هو الأكثر تأثيراً؛ فإن سلفا كير يعتمد على تأييد ودعم الدينكا، أكبر المجموعات القبلية في جنوب السودان، بينما ينتمي مشار إلى قبيلة النوير، ثاني أكبر القبائل التي تملك مقاتلين أشداء.

وقد تفجَّرت الأزمة الأخيرة بصدام عسكري في منطقة الناصر بين وحدات من قوة دفاع شعب جنوب السودان، الجيش الرسمي، ومجموعات من الجيش الأبيض، وهي ميليشيا من قبيلة النوير التي ينتمي إليها رياك مشار، وليست جزءاً من جيش مشار، لكنها تقاتل إلى جانبه في كل صدام مع الحكومة. وقد تصاعد القتال لدرجة اغتيال قائد حامية الناصر اللواء ماجور داك بإسقاط طائرة تابعة للأمم المتحدة كانت تحاول نقله خارج المنطقة المحاصرة.

رأى سلفا كير أن نائبه الأول مشار مسؤول عن هذه الحادثة، وأخضعه لاعتقال منزلي بحراسة مشددة، وقرر تقديمه للمحاكمة. وقد تقاطر الوسطاء من «الإيغاد» والاتحاد الأفريقي على العاصمة جوبا للتوسط لحل النزاع، لكن لم يُسمح لهم بمقابلة نائب الرئيس المعتقل مشار.

تزامن ذلك مع تغييرات أجراها الرئيس سلفا كير في طاقم نوابه الخمسة، المعينين طبقاً لاتفاق تقاسم السلطة في عام 2020؛ إذ أقال النائب الممثل لحزبه الحركة الشعبية، جيمس واني أيقا، وعيَّن مكانه الرجل الغامض والقادم بقوة بنيامين بول ميل، كما أقال حسين عبد الباقي، ممثل أحد فصائل المعارضة وعيَّن مكانه جوزفين لاقو.

ومن الواضح أن هناك ارتباطاً كبيراً بين هذه التعيينات والأوضاع السياسية في البلاد. فالسيد بول ميل الذي تقدم ليشغل منصب نائب الرئيس ليس من القيادات التاريخية المعروفة للحركة الشعبية، ومعظم نشاطه لم يكن سياسياً، وإنما في مجال الاقتصاد والاستثمار، وهو من المقربين للرئيس سلفا كير وموضع ثقته. وهناك اعتقاد شائع في جنوب السودان أن سلفا كير يؤهّله ليخلفه في منصب الرئيس؛ ولهذا فإن قرار إقالة ومحاكمة رياك مشار الغرض منه إزاحته من أي سباق محتمل على الرئاسة. ومشار، رغم أنه يقف في المعارضة، ولا ينتمي إلى قبيلة الدينكا التي غالباً سيأتي الرئيس من صفوفها، فإنه في حال ترشحه للرئاسة قد يضعف حظوظ بول ميل بحكم أنه من القيادات التاريخية للحركة الشعبية وله خبرات طويلة في العمل السياسي والتنفيذي.

يقف الجنوب الآن على شفا حرب أهلية، يبدو ظاهرها الصراع السياسي على السلطة، لكن بحكم الجذر القبلي القوي للسياسة في جنوب السودان فستتحول صراعاً إثنياً دموياً يهدّد وحدة جنوب السودان. وهو صراع لن تتحمله بنية الدولة الوليدة المثقلة بالصراعات والفقر والفساد والمهدَّدة بالمجاعات، وستتقاطع مع الحرب الدائرة في السودان، فتشتعل كل المنطقة.

فيصل محمد صالح

نقلا عن القدس العربي  

مقالات مشابهة

  • هيئة الدواء تطلق إصدارها الخامس من دستور الأدوية المصري
  • جريمة مطلوقة
  • حرب السودان في عامها الثالث فهل من أفق لحل الأزمة؟
  • السودان: المُسيّرات التي استهدفت عطبرة حديثة وفّرتها للمليشيا راعيتها الإقليمية
  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟
  • إسرائيل مأزومة للغاية من الداخل.. فما الذي يمنعها من الانهيار؟
  • اتفاق المنامة السوداني الذي يتجاهله الجميع
  • جنوب السودان على شفا الحرب الأهلية
  • دراسة جديدة تستكشف آراء المجتمع اليمني حول العدالة الانتقالية
  • ضمانات أمنية.. أمريكا تدعم تحالف غربي لتنفيذ اتفاق سلام في أوكرانيا