(المحاضرة الرمضانية السادسة)

استدراك :
ستظل شخصيات الدكتور أحمد ونجليه صلاح ومُنير تتواجد في جزئية محاضرات القصص القرآنية؛ لاتساقها مع موضوع المحاضرة وعدم تشتيت انتباه القارئ.

"الدكتور أحمد أستاذ الفقه المقارن في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر.
أما نَجَلاه صلاح ومُنير، فيدرسان في كلية الطب بالجامعة ذاتها.

"
استضاف الدكتور احمد ابن شقيقه حازم ليتناول معهم الفطور والعشاء
" حازم من رفاق صلاح ومنير يدرس الهندسة المعمارية والده احد ضحايا العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر بسبب الجماعات المتطرفة "

انتهوا ثلاثتهم من العشاء وبدأو باخذ اماكنهم للاستعداد لمشاهدة محاضرة الليلة ومنير يتحدث مع حازم :
- اليوم سنهديك هدية من نوع خاص ستشاهد محاضرة اليوم للسيد عبدالملك الذي اخبرناك عنه وستخبرنا برأيك.
انطلقت المحاضرة للتو وشد الاربعة حواسهم لمتابعتها بكل اهتمام :-

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، تحدثنا بالأمس بداية الحديث عن هذه الآية المباركة، وعن سنة الله تعالى في إعداد أنبيائه ورسله لمهامهم العظيمة، وعن مستوى الأهمية لمهام الرسل والأنبياء، واختلافها عن الكثير من المهام، باعتبارها ذات خصوصية كبيرة جداً، تحتاج إلى مستوى عالٍ من الإعداد الكبير والتهيئة .

- يتحدث حازم ليتني استمعت لمحاضرة الامس فقد فاتني الحديث عن هذه الآية المباركة وسنة الله تعالى في إعداد أنبيائه ورسله لمهامهم العظيمة.

ولـذلك نلحظ فيما يتعلق بخاتم النبيين، وسيِّد المرسلين محمد "صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، أن الله أخبر أنه منحه من هذه الرعاية، من ضمن ذلك قوله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}[الإسراء:1]، ما هو الهدف من هذه الرحلة العجيبة بما فيها من الآيات العجيبة؟ قال الله جل شأنه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، فلها هذا الهدف: الإعداد النفسي والمعنوي، والإعداد على مستوى اليقين والمعرفة، والعمق، العمق في المعرفة نفسها وترسيخها، وفي نفس الوقت مستوى الثقة واليقين.

- هل سمعتم يا ابنائي الهدف الروحي من هذه الرحلة العجيبة بما فيها من الآيات العجيب كما شرحها السيد عبدالملك .

درجة اليقين عندما تكون درجة عالية ومستواه، لهذا أهمية كبيرة جداً فيما يتعلق بأداء المهام الكبرى، والمسؤوليات الكبرى، تحتاج ليس فقط إلى مستوى الإقرار، أو الإيمان بشكل مبدئي وعادي، تحتاج إلى درجة عالية من اليقين، ومستوى عظيم من اليقين،

مادة اليقين هي المعرفة الراسخة، والقناعة التامة، القناعة التامة بالحق، والإيمان الراسخ، والفهم العميق وبالتالي تكون رؤية الإنسان وقناعته ثابتة وقوية، وموقفه ثابت، ويستند إلى الحقائق التي يتيقنها ويتأكد منها، والحجج الدامغة، فهو على بصيرة، على بينة؛ وبالتالي على قناعة تامة وثقة، ثقة تامة، ليس هناك ولا أي نسبة بسيطة من الشك، أو الاضطراب، أو التردد.

اليقين مسألة مهمة وأساسية في دين الله، يعني: ليس فقط على مستوى الأنبياء، الأنبياء درجتهم في اليقين درجة عالية جداً، رسل الله وأنبياؤه لن يصل أحد إلى مستوى يقينهم، لكن مسألة اليقين هي مسألة أساسية في طريق الإيمان بالله سبحانه وتعالى، لكل المؤمنين،

ولهذا يأتي في مواصفات المتقين في القرآن الكريم يقول الله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4]، يقول الله جل شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15].
{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}،

آثار وتجليات اليقين، فهي:
في بدايتها: حالة الاطمئنان التام، حالة الاطمئنان التام والثقة التامة بما أنت عليه، ما أنت عليه من الحق، من الموقف، من الإيمان، تنطلق بيقينك وأنت مطمئن النفس، واثق، واثقٌ تماماً، ليس عندك أدنى تردد، أو قلق، أو اضطراب.

كذلك أن تكون عظيم الثقة بالله سبحانه وتعالى؛ وبالتالي أنت من يتفاعل من موقع الثقة التامة مع وعوده سبحانه وتعالى، ما وعد به، ومع وعيده

- تحدث حازم بكل حماس واعجاب :
- لم استمع يوما عن اليقين بهذه الطريقة الروحية المتكاملة التي طرحها السيد اليمني.
أومأ ثلاثتهم برؤوسهم موافقين و مبتسمين له .
تشاهد الأمة في قضية واضحة، من أوضح القضايا، مظلومية الشعب الفلسطيني، تشاهد الأمة ما يجري هناك من طغيان، وعدوان، وإجرام أمريكي وإسرائيلي، وهي قضية ليس فيها أي التباس أبداً، في كونها قضية حق واضح للشعب الفلسطيني، ومظلومية واضحة، مع ذلك الغالب على موقف الكثير من أبناء الأمة، وفي المقدم الحكومات والأنظمة والزعماء، هو عدم القيام بمسؤوليتهم، التي هي مسؤولية دينية يحاسبون عنها يوم القيامة، بل لتفريطهم فيها تبعات وعقوبات، منها ما يأتي في عاجل الدنيا، ومنها ما يأتي في الآخرة، هو انعدام اليقين

- هل استمعتم كيف ربط السيد عبدالملك قضية فلسطين وموقف القادة وروساء الانظمة والبلدان من ابناء الامة الاسلامية بقضية عدم اليقين . . هكذا تحدث الدكتور احمد .

في المقابل، نرى- مثلاً- البعض من أبناء أُمَّتنا ينطلقون من ظروف في نقطة الصفر، على حسب الإمكانات المادية، ولكنهم ينطلقون ويستجيبون لله تعالى بثقة، لماذا؟ ما الذي ميَّز موقف هؤلاء عن أولئك؟ هو اليقين، الثقة بوعد الله سبحانه وتعالى، كانوا متأكدين، ومتيقنين، وواثقين بأنهم حينما يستجيبون لله تعالى فهو سيفي بوعده لهم، فلليقين أهميته الكبيرة جداً في قوة الموقف، في الثبات على الموقف، في الاندفاعة اللازمة، التي هي تعبِّر عن تفاعل حقيقي.

- هل استمعتم كيف قدم السيد عبدالملك الموقف المقابل الموقف الاخر وهم موقف الاسناد لغزة رغم ضعف امكاناتهم وربطه بقوة اليقين لديهم .

في الوعيد الإلهي، عندما نرى وعيد الله في القرآن الكريم، في تقصير الإنسان بتقوى الله سبحانه وتعالى، وتفريطه في واجباته ومسؤولياته، وعصيانه لله تعالى في أوامره ونواهيه، أن العاقبة هي جهنم، بكل ما وصفها الله به من شدة العذاب:

الاحتراق بين جحيمها، ونيرانها المتسعرة، ولهبها الشديد.

وفي نفس الوقت شرب حميمها الساخن، وصديدها.

الحميم الذي يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء.

الصديد الذي يتجرعه من يتورط- والعياذ بالله- في ذلك العذاب ولا يكاد يسيغه.

الملابس التي هي ملابس نارية: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج:19]، ومن القطران أيضاً، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}[إبراهيم:50].

كل ذلك الهم، والغم، والحزن، والأسى، والكرب، والشدَّة، والضيق، وهم مقيدون بسلاسل جهنم، يتعذبون للأبد بين أطباق نيرانها، ويسحبون بين حميمها، أمر رهيب جداً

- ارتعدت اجسادهم وهم يستمعون لعقوبات وعيد الله في القرآن الكريم، في عصيان الإنسان لله تعالى وانواع العذاب التي سردها السيد عبدالملك

ولذلك برز نبي الله إبراهيم عليه السلام فتىً قوياً، مستبصراً، ثابتاً، وفي نفس الوقت حكيماً، قدَّم احتجاجاً قوياً، عرض براهين مقنعة لقومه، كان له فيهم مقامات متعددة، لكن الخطوة الأولى تتعلق بكيف يستخدم معهم طريقةً حكيمةً مناسبة، يتمكن من خلالها إلى إفهامهم بالحقيقة الكبرى، التي يريد أن يستوعبوها، وهي: أن تلك الأصنام غير جديرة بالألوهية، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

هو بحاجة إلى أن تكون الخطوة التي يبدأ بها معهم بالشكل الذي تلفت نظرهم، بالتدرج؛ حتى يوصلهم إلى استيعاب هذه الحقيقة؛ لأن الهدف هو هدايتهم، كيف يفهمون، هذه المسألة المهمة، يعني: ليس المطلوب أن يذهب من اليوم الأول، من اللحظة الأولى، ليستفزهم، وليفتعل معهم ضجة ومشكلة، وانتهى الأمر؛ هو رسولٌ إليهم ليهديهم؛ وبالتـالي مطلوبٌ أن يسعى لإيصال الحقيقة إليهم،

- هل ادركتم كيف بدأ نبي الله ابراهيم عليه السلام رحلة هداية قومه كما شرحها السيد عبدالملك .

ولأن الكثير من الناس أيضاً يحتاجون إلى الأساليب العملية، لا ينفع معهم الكلام، يحتاجون إلى أسلوب عملي ووقائع، حتى تتزحزح قناعتهم بالباطل، ويتقبَّلون الحق؛ لكثرة ما أدمنوا على الباطل، فاتَّجه في الأسلوب العملي، وفق ما ورد في القرآن الكريم، بصورة باحث عن الحقيقة، وذهب إليهم، واستعرض معهم هذا الاستعراض التأملي، الذي ورد في الآيات القرآنية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:76-79].
نتحدث على ضوء هذه الآيات المباركة في المحاضرة القادمة إن شاء الله.

- انتهت المحاضرة وجميعهم في حالة رضى واعجاب بطرح السيد عبدالملك ليقاطعهم حازم بسؤاله :
- متى موعد المحاضرة القادمة ؟ . .

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الله سبحانه وتعالى فی القرآن الکریم السید عبدالملک لله تعالى تعالى فی

إقرأ أيضاً:

(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد 1446هـ

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، تحدثنا بالأمس بداية الحديث عن هذه الآية المباركة، وعن سنة الله تعالى في إعداد أنبيائه ورسله لمهامهم العظيمة، وعن مستوى الأهمية لمهام الرسل والأنبياء، واختلافها عن الكثير من المهام؛ باعتبارها ذات خصوصية كبيرة جدًّا، تحتاج إلى مستوى عالٍ من الإعداد الكبير والتهيئة؛ ليكون الرسل والأنبياء- أنفسهم- النماذج للرسالة الإلهية، في هديها، وروحيتها، ونورها، وما تمنحه من رشد وحكمة، وكذلك على مستوى زكاء النفوس، والقيم، والأخلاق... وغير ذلك، وليتحملوا الأعباء الكبيرة في النهوض بتلك المسؤولية، مع ما يمنحهم الله أيضاً من عونٍ ورعايةٍ واسعة، لها أشكال وجوانب متنوعة ومتعددة.

من ضمن ما يمنحهم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو: ما يجعلهم على مستوى عالٍ جدًّا جدًّا من اليقين، يعني: درجة عالية بشكلٍ كبير، بمستوى مهامهم الكبيرة، العظيمة، المقدَّسة، وهذه الرعاية تأتي لهم في مراحل متعددة، من ضمنها:

المرحلة التي يبدأون فيها تحركهم، يبدأون وهم منطلقون من خلال دفعة معنوية عالية جدًّا، حظوا بها من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى". ثم في أثناء أداء مهامهم، بحسب ما يواجهونه من ظروف، وتعقيدات... وغير ذلك.

ولـذلك نلحظ فيما يتعلق بخاتم النبيين، وسيِّد المرسلين، محمد "صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، أن الله أخبر أنه منحه من هذه الرعاية، من ضمن ذلك: قوله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}[الإسراء:1]، ما هو الهدف من هذه الرحلة العجيبة بما فيها من الآيات العجيبة؟ قال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء:1]، فلها هذا الهدف: في الإعداد النفسي والمعنوي، والإعداد على مستوى اليقين، والمعرفة، والعمق، العمق في المعرفة نفسها وترسيخها، وفي نفس الوقت مستوى الثقة واليقين.

فالله يرعاهم بهذه الرعاية: يريهم من الآيات ما يجعلهم على درجةٍ عاليةٍ جدًّا من اليقين، والثقة بما هم عليه من المبادئ الإلهية، وفي معرفتهم الواسعة بالله تعالى، وملكه، وهيمنته على عباده، وبالطريق الحق الذي هم فيه، وبالمنهجية التي يتحركون على ضوئها، كل هذا يحتاج إلى يقين، في مجال معرفة الله وعده ووعيده جوانب كثيرة جدًّا تحتاج إلى درجة عالية من اليقين، كذلك المنهجية نفسها، التي يتحركون على ضوئها في أدائهم لمهامهم ومسؤولياتهم، تحتاج إلى درجة عالية من اليقين.

درجة اليقين، عندما تكون درجة عالية، ومستواه، لهذا أهمية كبيرة جدًّا فيما يتعلق بأداء المهام الكبرى، والمسؤوليات الكبرى، تحتاج- ليس فقط إلى مستوى الإقرار، أو الإيمان بشكل مبدئي وعادي- تحتاج إلى درجة عالية من اليقين، ومستوىً عظيم من اليقين.

كذلك فيما يتعلق بمواجهة الضغوط والتحديات، عندما يأتي رسولٌ من رسل الله إلى مجتمع بكله، وبيئة بكلها، اتِّجاهها في معتقداتها، في عاداتها، في تقاليدها، في تصوراتها، في أفكارها، في اتِّجاهاتها، مختلفة تماماً، قائمة على أساس الباطل، ومتشبثة بذلك بكل شدة، وقوية في تشبثها، وكذلك ما هي عليه من معتقدات، وتصورات، ومفاهيم، وخرافات، وأباطيل، محاطة بحساسية شديدة جدًّا، بحيث تكون ردة الفعل من الجميع ردة فعل قاسية وشديدة، تجاه من يأتي ليعمل على إخراجهم مما هم فيه.

فهذه التعقيدات الكبيرة التي يواجهها الأنبياء مع الناس فيما هو في أنفسهم، ما قد رسخ في النفوس على مدى أحيانا أجيال، وما يحاط بحساسية واعتبارات، وأحياناً اعتبارات سياسية، واعتبارات اجتماعية، واعتبارات متنوعة، واقتصادية... وغير ذلك، يعني: مجتمع قد ارتبط بكل أشكال الارتباط بما هو عليه من باطل، ويريدون أن يخرجوه من تلك الحالة، ومهمتهم المقدَّسة خلاصتها، كما في العنوان في القرآن الكريم، العنوان الجامع: الإخراج للناس من الظلمات إلى النور. فهذه التعقيدات، بما فيها من تحديات، وصعوبات، وردود أفعال شديدة، بالتكذيب، بالإساءة، بالتهديد، والبعض من رسل الله وأنبيائه يصل الحال في مهمتهم مع قومهم، أن تكون ردة فعل قومهم هي القتل لهم، هناك شهداء من الأنبياء، وشهداء من الرسل، البعض يُعَذَّبون ثم يُقْتَلون، وغير ذلك، فهذه المهمة، بهذا الحجم الكبير، بتعقيداتها الكبيرة، تحتاج إلى قوة يقين، قوة يقين، في مقابل الغربة، ويأتي كشخص واحد في مقابل واقع يختلف معه كلياً، ويسعى إلى تغيير ذلك الواقع بكله، يحتاج هذا إلى قوة اليقين، درجة عالية من اليقين، والأوضاع المعاكسة التي يواجهونها كذلك، كل هذا- بدءاً في كثيرٍ من الحالات من محيطهم الأسري- فكل هذا يحتاج إلى يقين بشكل كبير، مستوىً عظيم من اليقين ودرجة عالية.

مـــادة اليقـــين، عندما نلحظ ما يرعاهم الله به من أن يريهم آيات؛ ليزداد يقينهم، ليزداد يقينهم، لماذا؟ لأن مادة اليقين هي: المعرفة الراسخة، والقناعة التامة، القناعة التامة بالحق، والإيمان الراسخ، والفهم العميق، والثقة القوية التي لا يبقى معها مجالٌ للشك بأي نسبة، بأي مستوى، ولا للاضطراب، ولا للتردد؛ وبالتالي تكون رؤية الإنسان وقناعته ثابتة وقوية، وموقفه ثابت، ويستند إلى الحقائق، التي يتيقنها ويتأكد منها، والحجج الدامغة، فهو على بصيرة، على بينة؛ وبالتالي على قناعة تامة، وثقة تامة، ليس هناك ولا أي نسبة بسيطة من الشك، أو الاضطراب، أو التردد.

اليقين مسألة مهمة وأساسية في دين الله، يعني: ليس فقط على مستوى الأنبياء، الأنبياء درجتهم في اليقين درجة عالية جدًّا، والرسل، رسل الله وأنبياؤه لن يصل أحد إلى مستوى يقينهم، لكن مسألة اليقين هي مسألة أساسية في طريق الإيمان بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لكل المؤمنين، في المقدمة الرسل والأنبياء- كما قلنا- على درجة عالية جدًّا، ولكن ولكل المؤمنين لابدَّ من اليقين.

ولهذا يأتي في مواصفات المتقين في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4]، يقول الله "جَلَّ شَأنُهُ": {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات:15].

{ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، ماذا يعني هذا؟ اليقين، اليقين. يعني: هم على درجة عالية من اليقين؛ فلـذلك لم يخالطهم أي ريبٍ: اضطراب، قلق، شك، عدم تصديق لبعض الأمور، فهم على يقين تام:

تجاه وعد الله، هم على يقين بأن الله يفي بوعده. تجاه الوعيد الإلهي، هم يؤمنون بذلك إلى درجة اليقين. الحقائق التي عرضها الله لهم في القرآن الكريم، ما يتعلق أيضاً بالغيب وعالم الغيب، كل ما هو مطلوب من الإنسان أن يؤمن به، يؤمنون به إيماناً قائماً على أساس اليقين، في مستوى اليقين، فليس عندهم أي نسبة من الشك، أو مستوى من القلق والاضطراب والتردد.

ولليقين أهميته الكبيرة جدًّا- كما قلنا- في مستوى الموقف، قوة الموقف هي من قوة اليقين، قوة الثبات ومستوى الثبات على الموقف يعود إلى مستوى اليقين.

ولهـذا عندما نأتي إلى آثار وتجليات اليقين، فهي:

في بدايتها: حالة الاطمئنان التام، حالة الاطمئنان التام والثقة التامة بما أنت عليه، ما أنت عليه من الحق، من الموقف، من الإيمان، تنطلق بيقينك وأنت مطمئن النفس، واثق، واثقٌ تماماً، ليس عندك أدنى تردد، أو قلق، أو اضطراب. كذلك أن تكون عظيم الثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ وبالتالي أنت من يتفاعل من موقع الثقة التامة مع وعوده "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ما وعد به، ومع وعيده، ومع الحقائق التي يقدمها لك.

وهذه مسألة مهمة جدًّا؛ لأنه عندما نتأمل في واقع الأمة الإسلامية بشكلٍ عام، نجد تجليات الضعف في مستوى اليقين هي التجليات البارزة في واقع الأمة، يتجلى ذلك في ضعف المواقف، وأحياناً في انعدام المواقف، يعني: قد تصل الحالة لدى الكثير من أبناء أمتنا إلى مستوى انعدام اليقين، لا يقين لديهم أصلاً، يقول الله لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]، أليس هذا وعداً من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؟

ما الذي ينقص الكثير من أبناء الأمة في التعامل مع هذا الوعد الإلهي، الذي هو: الانطلاقة للقيام بهذه المسؤولية، في النصرة لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" بنصرة دينه، بنصرة الحق، بالموقف من الطغيان والظلم، تشاهد الأمة في قضية واضحة، من أوضح القضايا، مظلومية الشعب الفلسطيني، تشاهد الأمة ما يجري هناك من طغيان، وعدوان، وإجرام أمريكي وإسرائيلي، وهي قضية ليس فيها أي التباس أبداً، في كونها قضية حق واضح للشعب الفلسطيني، ومظلومية واضحة للشعب الفلسطيني، مع ذلك الغالب على موقف الكثير من أبناء الأمة، وفي المقدِّمة: الحكومات، والأنظمة، والزعماء، هو: عدم القيام بمسؤوليتهم، التي هي مسؤولية دينية يحاسبون عنها يوم القيامة، بل لتفريطهم فيها تبعات وعقوبات، منها: ما يأتي في عاجل الدنيا، ومنها: ما يأتي في الآخرة؟ هو: انعدام اليقين، يعني: الكثير ليسوا متأكدين من أنهم- فعلاً- لو انطلقوا مع الله، وصدقوا مع الله، واستجابوا لله، وقاموا بأداء هذه المهمة، أنه سيفي لهم بوعده: {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، أنه سيفي بذلك، ليس عندهم يقين بذلك.

في المقابل، نرى- مثلاً- البعض من أبناء أُمَّتنا ينطلقون من ظروف في نقطة الصفر، على حسب الإمكانات المادية، ولكنهم ينطلقون ويستجيبون لله تعالى بثقة، لماذا؟ ما الذي ميَّز موقف هؤلاء عن أولئك؟ هو اليقين، الثقة بوعد الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، كانوا متأكدين، ومتيقنين، وواثقين، بأنهم حينما يستجيبون لله تعالى فهو سيفي بوعده لهم.

فلليقين أهميته الكبيرة جدًّا في قوة الموقف، في الثبات على الموقف، في الاندفاعة اللازمة، التي هي تعبِّر عن تفاعل حقيقي.

الأمور التي ترتبط بالجانب الإيماني، هي أمور ذات اهمية كبيرة، وتأثير كبير، لمن يؤمن بها إلى درجة اليقين، يعني: ليست أموراً عادية، يمكن حتى لو تيقن الإنسان بها، وآمن بها، أنها ليست ذات تأثير، إلَّا إذا كان الإنسان- مثلاً- قد خُذِل والعياذ بالله، يرى آيات ودلائل مُعَيَّنة، ثم يجحد مع ذلك، هي حالة أخرى، حالة خذلان رهيب جدًّا، مثل ما هو حال قوم فرعون مع الآيات التي كانوا يشاهدونها، التي أيَّد الله بها نبيه موسى "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، قال الله عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}[النمل : 14]، لكن كيف كانت عاقبتهم؟ الخسران والهلاك.

لكن في الاتِّجاه الإيماني، مثلاً: يقين الإنسان بالآخرة، يقينك بأنك ستنتقل من هذه الحياة التي هي حياة مؤقتة محدودة، بعدها عالم الآخرة، وفي عالم الآخرة هناك الجنة بما وصفها الله به، هي الجزاء الذي جعله الله للمتقين، ما وصف الله به الجنة في القرآن الكريم من أوصاف عظيمة جدًّا، ومغرية للغاية، لا يمكن لأي إنسان يتيقن، ويثق، ويتأكد، أن يقرأ تلك الأوصاف ولا يتفاعل، يعني: جنة عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فيها أرقى نعيم مادي، فيها التكريم المعنوي على أرقى مستوى، يكرمك الله، وتكرمك ملائكته، حياة هنيئة في أرقى نعيم، يتوفر فيها كل ما يريده الإنسان، وما تشتهيه نفسه، ومع ذلك يعيش للأبد، من دون موت، ولا هرم، ولا مرض، ولاغم ولا حزن، ولا أي منغصات، ولا أي كدر، الإنسان بفطرته يتفاعل مع أشياء بسيطة في هذه الحياة، مما تُلبي رغباته، واحتياجاته، ومتطلبات حياته، يعني: نرى البعض من الناس يبيع دينه ويبيع كل شيء؛ من أجل مبلغ مالي بسيط، ليوفر به متطلبات بسيطة من هذه الدنيا، كيف لا يتفاعل الانسان مع ذلك الوعد الإلهي؟! ما الذي حدث؟ ما الذي نقص؟ هو مستوى اليقين؛ ولهـذا قال الله عن المتقين: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4].

في الوعيد الإلهي، عندما نرى وعيد الله في القرآن الكريم، في تقصير الإنسان بتقوى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتفريطه في واجباته ومسؤولياته، وعصيانه لله تعالى في أوامره ونواهيه، أن العاقبة هي جهنم، بكل ما وصفها الله به من شدة العذاب:

الاحتراق بين جحيمها، ونيرانها المتسعرة، ولهبها الشديد. وفي نفس الوقت شُرب حميمها الساخن وصديدها، الحميم الذي يشوي الوجوه، وَيُقَطِّع الأمعاء، الصديد الذي يتجرعه من يتورط- والعياذ بالله- في ذلك العذاب ولا يكاد يسيغه. الملابس التي هي ملابس نارية: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ}[الحج:19]، ومن القطران أيضاً، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}[إبراهيم:50].

كل ذلك الهم، والغم، والحزن، والأسى، والكرب، والشدَّة، والضيق، وهم مقيدون بسلاسل جهنم، يتعذبون للأبد بين أطباق نيرانها، ويسحبون بين حميمها، أمر رهيب جدًّا، يعني: أكثر الناس يخيفهم أشياء لا تساوي شيئاً على الإطلاق في مقابل ذلك، إلى درجة أن يتنصلوا عن مهامهم.

ما الذي يجعل أكثر أبناء أُمَّتنا على درجة عالية من الخوف من أمريكا، إلى درجة الإذعان والاستسلام لها؟ أشياء لا تساوي شيئاً مما في نار جهنم.

ما الذي جعل أكثر الأنظمة والحكومات تتجمد أمام العدو الإسرائيلي، بالرغم مما يفعله من إجرام؟ مخاوف من أشياء لا تساوي شيئاً على الإطلاق مما في نار جهنم، ولا تساوي لحظة واحدة في نار جهنم بما فيها من العذاب.

إذاً لماذا لا يمثِّل الإيمان بذلك حافزاً إلى أداء المسؤوليات، والقيام بما علينا أن نقوم به، في تنفيذ أوامر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" لنا بالجهاد في سبيله، بالموقف من أعدائه الظالمين، المجرمين، الطغاة المستكبرين؟ هناك نقص في اليقين، وهناك غفلة، وهناك ضعف إيمان.

فاليقين له أهميته الكبيرة جدًّا في:

مستوى الاندفاع للقيام بالمسؤوليات. وحجم التفاعل. ومستوى الثبات. وفي قوة الموقف.

نجد أيضاً أنه من المؤهلات التي تؤهِّل أي أمة- مع الصبر- تؤهلها لأن تحظى بالتوفيق الإلهي، والهداية الإلهية، أن تكون هي الرائدة للمجتمع الإنساني، في حمل رسالة الله ودينه، وأن يكون منها القادة والهداة لعباده؛ ولهـذا يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة:24]، لمَّا صبروا وكانوا يوقنون بآيات الله؛ جعل الله منهم هداةً، {أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

ولـذلك أي أُمَّة- يعني: لو لم تكن هي كل الناس، أو كل المسلمين- أي أمة تتحرك على هذا الأساس: اليقين بآيات الله، فيما فيها من وعد، ووعيد، وحقائق، ومبادئ، اليقين بذلك، واليقين بالوعود الإلهية، والصبر؛ لأن هذا يتطلب أيضاً الصبر في الواقع العملي، الواقع العملي في كل شؤون الحياة يحتاج إلى صبر، هذا يؤهل الأمَّة لدور عظيم، ويجعل الله لها ومنها قادةً هداه، هداه يهدون بأمر الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ وبالتالي يكون لها هي الدور العالمي في حمل راية الحق، في التحرك برسالة الله، بدينه، بالمهام المقدَّسة والعظيمة والمشرِّفة، وهذا ما يريده الله للمسلمين: أن يتحركوا على هذا الأساس، وأن يرثوا هذا الدور؛ لأنه كان سابقاً في زمن النبوة في بني إسرائيل، في مراحل مُعَيَّنة كان في أوساطهم ذلك، وكان لهم هذا الشرف؛ لكنهم لمَّا نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وفقدوا يقينهم بآيات الله، والتزامهم بدين الله وتعاليم الله؛ خسروا كل شيء، فاليقين مسألة مهمة جدًّا.

ولأهمية المسألة في علاقة الناس بآيات الله، أتى في القرآن الكريم مما هو من أخبار مستقبل الزمان، قول الله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}[النمل:82]؛ لأن منشأ الإعراض عن آيات الله يعود لدى الكثير من الناس إلى ضعف يقينهم، إلى ضعف يقينهم، فلم يتفاعلوا معها، ولم يلتزموا، ولم يستجيبوا، ولم يتحركوا، بناءً على ما فيها من الهدى، ما فيها من الحقائق، ما فيها من الوعد والوعيد؛ ولـذلك قد يصل الكثير من الناس إلى مستوى الخذلان التام، ويقع القول عليهم، ما معنى ذلك؟ يعني: يحق عليهم وعيد الله، يصبحون جهنميين، يفقدون قابليتهم للهدى، لم يعد عندهم أي قابلية للهدى، هذه حالة خطيرة على الإنسان، إذا تعامل مع هدى الله بشكلٍ مبتذل، بغير جِدِّيَّة، إذا لم يصل إلى درجة اليقين، ثم تكون النتيجة في المرحلة التي قد وصلوا إليها من الخذلان الرهيب جدًّا: أن يخرج الله لهم دابةً من الأرض، وهذا توبيخٌ لهم، توبيخٌ كبيرٌ جدًّا، وهي مرحلة خطيرة للغاية يكونون قد وصلوا إليها، {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}، فهي توبخهم على عدم يقينهم بآيات الله؛ ولذلك فالمسألة مهمة جدًّا.

والاستحضار لهذا اليقين مطلوب في كل المراحل، أن يسعى الإنسان باستمرار إلى قوة يقينه، وأن يطلب من الله أن يجعل يقينه أفضل اليقين، كما في دعاء مكارم الأخلاق: ((وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ))، اليقين مهمٌ جدًّا.

ولـذلك في علاقتنا بهدى الله، انطلاقتنا الإيمانية، يجب أن نسعى لأن نصل إلى درجة اليقين، اليقين العالي، اليقين الراسخ، الثقة التامة، ألَّا يبقى لدى الإنسان أي نسبة من الشك، ولا أن يبقى في حالة اضطراب وتردد تجاه حقائق هدى الله، تجاه وعد الله ووعيده، تجاه مبادئ هذا الدين العظيم؛ وبالتالي نتحرك وصلتنا بهدى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هي قائمة على أساس اليقين، هذه مسألة مهمة جدًّا.

ولـذلك كان من اهتمام نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فيما ذكره الله عنه في مقام آخر، وسنأتي إليه- إن شاء الله- في محاضرة من المحاضرات، قال عنه في قصة إحياء الموتى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]؛ لأنه كان في ظروف الكل في العالم يكفرون بهذه الحقيقة، يجادلونه عليها، يجحدونها، يرى نفسه وحيداً بين كل البشر، وهو يؤمن بهذه الحقيقة، هو مؤمنٌ بها؛ لكنَّه أراد أن يصل إلى درجة عالية جدًّا جدًّا من اليقين، لا يزحزحه عنها شيء، وبيقينه العالي كيف وصل نبي الله إبراهيم، كيف كان ثباته، كيف كانت قوته، حتى عندما عمل قومه على إحراقه بالنار حياً؟ لم تتزحزح ثقته بالله، لم يضطرب في موقفه، لم يتراجع عن موقفه، كان على درجة عالية جدًّا من الثبات والموقف.

ولـذلك برز نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" فتىً قوياً، مستبصراً، ثابتاً، وفي نفس الوقت حكيماً، قدَّم احتجاجاً قوياً، عَرَض براهين مقنعة لقومه، كان له فيهم مقامات متعددة، لكنَّ الخطوة الأولى تتعلق بكيف يستخدم معهم طريقةً حكيمةً مناسبة، يتمكن من خلالها إلى إفهامهم بالحقيقة الكبرى، التي يريد أن يستوعبوها، وهي: أن تلك الأصنام غير جديرةٍ بالألوهية، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وليس هناك أحد جديرٌ بالعبادة من كل المخلوقات، وحده الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" الذي تحق لهُ العبَادة، هو وحده الإله الحق، وربُّ العالمين، وربُّ الخلائِقِ أجمعين، هو بحاجة إلى أن تكون الخطوة التي يبدأ بها معهم بالشكل الذي تلفت نظرهم بتدرج؛ حتى يوصلهم إلى استيعاب هذه الحقيقة؛ لأن الهدف هو: هدايتهم، كيف يفهمون، هذه المسألة المهمة، يعني: ليس المطلوب أن يذهب من اليوم الأول، من اللحظة الأولى، ليستفزهم، وليفتعل معهم ضجة ومشكلة، وانتهى الأمر؛ هو رسولٌ إليهم ليهديهم؛ وبالتـالي مطلوبٌ أن يسعى لإيصال الحقيقة إليهم.

هم بالنسبة لهم في جاهليةٍ جهلاء، جاهلية مطبقة عليهم، ظلمات مطبقة، أذهانهم مغلقة، وقلوبهم مقفلة، وهذا الموضوع- بالنسبة لهم- محاط بحساسية شديدة، يعني: لا مجال فيه للنقاش، لا مجال فيه للأخذ والرد، فهدفه: أن يكشف لهم أن الأصنام ناقصة، غير جديرة بالألوهية؛ حتى يُقَرِر في نفوسهم أن الألوهية مرتبطة بالكمال المطلق، يعني: ليس هناك جديرٌ بأن يكون إلهاً إلَّا من له الكمال المطلق، ماذا يعني هذا؟ يعني: الذي لا يحتاج إلى غيره أبداً، لا يحتاج إلى غيره أبداً، وكماله ليس محدوداً، وليس بنسبة مُعَيَّنة، يعني:

عندما نقول- مثلاً- عن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": أنه قادرٌ، هو: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، لا يُعْجِزه شيءٌ أبداً، ولا يعجز عن شيء، هذا كمال مطلق، يعني: ليس محدوداً بمستوى مُعَيَّن؛ أمَّا غير الله، فما لديه من قدرة، هي قدرة مكتسبة، أعطاه الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يعني: ليست قدرةً ذاتية؛ إنما وهبه الله نسبة مُعَيَّنة من القدرة، في مستوى مُعَيَّن، يقدر بها على مستويات محدودة، ولا يقدر على ما هو أكبر من ذلك. حينما نقول: الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" عالمٌ، فهو: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، {لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:5]، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}[سبأ:3]، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لا بالنسبة للمستقبل، ولا بالنسبة للحاضر، ولا بالنسبة للماضي؛ أمَّا غير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فما لديه من العلم، هو علمٌ بمقدار ما وهبه الله، وبمستوى محدود، ويجهل الأشياء الكثيرة.

هذا هو الفارق بين أن نقول: الكمال المطلق والذاتي، وبين أن نقول: نسبة مُعَيَّنة من الكمال الموهوب المحدود.

حال كل المخلوقات، وحال كل الكائنات: أنها فيما أعطاها الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" من قدرات، أو طاقات، أو مواهب... أو غير ذلك، هي بمستوى محدود، يعني: هي ليست ذاتية؛ إنما هبة من الله؛ لأن الله وهب ما في هذا الكون من المخلوقات وهبها الوجود، هو الذي خلق، خلق كل شيء، وفي نفس الوقت وهبها ما وهبها من طاقات، أو قدرات، أو إمكانات، أو مواهب... أو غير ذلك، وبمستويات محدودة، بمستوى مُعَيَّن، فهي ليست جديرة بأن تكون في مرتبة الألوهية؛ لأنها بنفسها محتاجة، ضعيفة، مسيَّرة، مُدَبَرة، خاضعة لتدبير الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".

فاتَّجه في نقطة البداية إلى أسلوبٍ عملي، بحيث لا مجال للحديث معهم، يعني: لن تتاح له فرصة أن يتحدث معهم عن الموضوع، المسألة هذه المجال فيها مغلق، لا مجال للنقاش، ولأن الكثير من الناس أيضاً يحتاجون إلى الأساليب العملية، لا ينفع معهم الكلام، يحتاجون إلى أسلوب عملي ووقائع، أحياناًأمور، متغيرات كبيرة حتى تتزحزح قناعتهم بالباطل، ويتقبَّلون الحق؛ لكثرة ما أدمنوا على الباطل، وما رُسِّخ فيهم بشدة، فاتَّجه في الأسلوب العملي، وفق ما ورد في القرآن الكريم، بصورة باحث عن الحقيقة، وذهب إليهم، واستعرض معهم هذا الاستعراض التأملي، الذي ورد في الآيات القرآنية: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:76-79].

نتحدث على ضوء هذه الآيات المباركة في المحاضرة القادمة إن شاء الله.

نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

 

المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 06 رمضان 1446هـ 06 مارس 2025م pic.twitter.com/fZEdOXkE5c

— الإعلام الحربي اليمني (@MMY1444) March 6, 2025

مقالات مشابهة

  • شاهد | المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية السادسة للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي.. المحاضرة الرمضانية (5) للسيد القائد 1446هـ
  • المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي (نص + فيديو)
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (4) للسيد القائد