سيرة نضال تأسيس مكتبة قرّاء المعرفة
تاريخ النشر: 6th, March 2025 GMT
في زقاقٍ ضيّقٍ من أزقة العاصمة مسقط، وبعد منعطفات عدة في منطقة غلا، إحدى قرى ولاية بوشر، وُلدت الفكرة. كانت بذرة صغيرة في ذهن رجلٍ جرّدته الحياة من أمانها الوظيفي، وتركته في مهبّ الريح بلا مصدر رزق. لكنه كان يدرك أن الأمان لا يُشترى بالرواتب، بل يُكتسب بالإيمان بالفكرة وبالقدرة على تحويل الخيال إلى حقيقة.
عن رجل آمنت به عائلته، بدءا من والدته وزوجته رفيقة دربه، وانتهاءا بابنيه علي وعمر. فخلق من السقوط انطلاقه. ففي لحظة فارقة، حين أُغلق باب الوظيفة خلفه، لم يكن ذلك فقدان عمل فحسب، بل كان سقوطًا في هوّة مظلمة. ومواجهة منهكة أمام سؤال يتناوله كسكين بربرية حادة: «من أنا دون وظيفة وراتب؟! أين مكاني إن لم يكن بين جدران الوظيفة التي اعتدتُ عليها؟! كيف لي أن أواصل هذه الحياة دون شريان الراتب؟!»..
كانت أيامه الأولى في هذا التيه أشبه بملاحقة الظلّ؛ سبعة أشهر من الضياع واللهاث بحثًا عن استقرار وظيفي. ثم عمل مؤقتًا في شركة للدعاية والإعلان، استمر لبضع يوم! حتى اكتشفَ بأنها لم تكن أكثر من جسر مهترئ لا يوصل إلى شيء. وعاد من جديد لتبتلعه دائرة الإحباط الكبير.
لم يكن إبراهيم الصلتي مؤسس «مكتبة قرّاء المعرفة» رجلًا عاديًا. كان كيانًا مشبعًا بالكتب، يتنفس الورق، وينبض بالحبر. صنع من عثرته نجاحًا، حتى أصبحت اليوم الغرفة الصغيرة المتوارية خلف أزقة طويلة في قرية نائية هي مكتبة رائدة متخصصة في الإصدارات العمانية بمختلف مجالاتها العلمية والأدبية. يصل إلى المكتبة زوار كثر، من داخل عُمان وخارجها.
ومن هنا بدأت القصة. حين باع إبراهيم الصلتي أول كتاب، كانت لحظة اكتشافه لنفسه وشغفه الذي لم يجده قبل هذه اللحظة. ففي وسط الكتب، وبين عناوينها التي نزفت بحبر قلوب كتّابها، وجد ضالته. كان بوسعه أن يختار طريقًا آخر، أن ينحني للواقع ويشكو ويطالب كغيره أو ينتظر مترقبا تقطير يد سخيّة له بعطاء، لكنه اختار المقاومة الصامدة؛ بعناد مُبصر غير أعمى، وبيقين العارف أن الأشياء العظيمة تولد من الرهان على المستحيل.
إبراهيم الصلتي، رجل ذو رسالة سامية. يؤمن أن وطنه لا يكتمل إلا بمفرداته، وأن حضارته لا تزدهر إلا بسطورها. سار في الطرقات، جمع ما استطاع، حمل صناديق الكتب على كتفه كما يحمل المحارب درعه في الميدان، وتفاوض مع المؤلفين والناشرين كأنما يفاوض القدر نفسه. بدأ البيع بلا مقر، متنقلًا بين أصدقائه من القرّاء، يحمل المعرفة في يديه كما يحمل المتصوّف يقينه.
لم تكن الأيام رحيمة، لكنه كان أقسى منها. كان ينام محاطا بالكتب بعد أن ينهكه إحصاء الديون وغلبتها على الأرباح، ورغم ذلك لم يتراجع. فقد كان يؤمن بأن كل كتاب يُباع بمثابة خطوة إضافية نحو الضوء وتحقيق الحلم المنشود.
وحين اشتد عوده، ولدت «مكتبة قرّاء المعرفة»، كيانًا يترجم نضاله. حتى أصبحت المكتبة اليوم له ولمرتاديها ولعًا خاصًا، ومساحة لاكتشاف الجمال الجدلي في الفكر. حيث اتسعت الرؤية لدى الصلتي. وأصبح ينظّم الأمسيات في صالون ثقافي بسيط. يجمع المثقفين من كل حدب وصوب.
يقول الصلتي: «إن النجاح ليس حتميًا للشغوف، بل لمن يقاتل». حيث كانت هناك لحظات فكر فيها بالاستسلام، لكنه لم يفعل؛ ليس لأنه لم يعرف الخوف، بل لأنه لم يسمح له بأن يكون سيد قراره. وتحوّلت المعاناة من عتبة للعقبات إلى أدوات صقل جعلته اليوم صاحب واحدة من أنجح المكتبات في سلطنة عمان ونقطة وصل بين الكاتب العماني والقارئ والناشر في الوطن العربي.
عن تجربة الصلتي في القراءة الأولى يقول: «إن الكتب لا تُختار، بل تقتنص قُرّاءها». تمامًا كما اختارته رواية «الخيميائي» لباولو كويلو، ليبدأ بحثه عن أسطورته الشخصية. وكما اختاره كتاب «الجمال الصوتي» للكاتب بدر العبري، ليكون أول كتاب يبيعه. لكنه يدرك اليوم تماما أن المكتبة وسيلة للخلود. ويريد لها بإصرار أن تبقى ما أراد الله لها أن تبقى من بعده، وأن تمتد لأبنائه وأحفاده، لتكون شاهدة على أن النضال من أجل المعرفة لا يموت. وعلى أن الفكرة تتحول إلى إرث سامق.
واليوم، بعد أن مضى على رحلته خمس سنوات، لم يعد يخشى السقوط. فقد تحصّن وصار يفهمه. وتيقن بأن هاجس القلق من الفشل الذي رافقه حتى كانت نبوّته عندما بلغ سن الأربعين، وأدرك أن ذاك القلق نفسه ما كان إلا محركًا يدفعه للأمام. فحين تعبر الزقاق المؤدي إلى «مكتبة قرّاء المعرفة»، لا تدخل مجرد متجرٍ لامع يبيع الكتب، بل تدخل سردابًا مقدّسًا لنضالٍ طويل، تدخل ملحمة مكتوبة على الرفوف، في كل صفحة بيعت، في كل قارئ وجد ضالته بين الأغلفة. مكتبة قراء المعرفة اليوم من أكثر المكتبات رواجًا في سلطنة عمان. فهي قصة إنسان رفض أن يكون رقمًا في جداول الباحثين عن عمل والمسرحين.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«الهوية وشؤون الأجانب» و«العليا للتشريعات» بدبي تعزّزان التعاون المؤسسي
دبي: «الخليج»
وقعت الإدارة العامة للهوية وشؤون الأجانب بدبي، مذكرة تفاهم مع اللجنة العليا للتشريعات في إمارة دبي، بهدف تعزيز التعاون المؤسسي وتبادل المعرفة القانونية، بما يتماشى مع رؤية الإمارة المستقبلية وإستراتيجيات الحوكمة الرشيدة.
وقّعت المذكرة، بحضور الفريق محمد أحمد المري، المدير العام للإدارة، وأحمد سعيد بن مسحار المهيري، الأمين العام للجنة، حيث تمثل مذكرة التفاهم خطوة إستراتيجية نحو تكامل الجهود في المجالات القانونية والتشريعية، وتطوير السياسات والإجراءات المؤسسية، وتنظيم مبادرات مشتركة لتعزيز الوعي التشريعي وترسيخ مبادئ الحوكمة.
وتركز المذكرة على تقديم الدعم الفني والاستشاري في التميز الحكومي، وتنفيذ برامج تدريبية متخصصة، والاستفادة من الحلول الرقمية والذكاء الاصطناعي، لرفع كفاءة الأداء المؤسسي وتحسين الخدمات الحكومية.
وأكد الفريق المري، أن توقيع المذكرة يعكس التزام الإدارة بتعزيز بيئة العمل الحكومي وترسيخ ثقافة الامتثال القانوني. والتعاون مع اللجنة يدعم جهود دبي في تطوير السياسات التنظيمية وتعزيز جودة الأداء الحكومي، بما يعزز ريادتها العالمية في الحوكمة والابتكار المؤسسي.
وأوضح المهيري، أن الشراكة بين الجهتين ستسهم في إثراء المعرفة التشريعية وتعزيز الكفاءة المؤسسية. مؤكداً التزام اللجنة بمواصلة إرساء دعائم منظومة تشريعية مرنة وشاملة تدعم مسيرة التنمية المستدامة في دبي.
وتهدف المذكرة إلى تعزيز آليات تبادل المعرفة، وتطبيق أفضل الممارسات، وإرساء نموذج عمل حكومي أكثر تكاملاً ومرونة، بما يحقق الأهداف الاستراتيجية للإمارة في التشريع والحوكمة المؤسسية.