“يا عارك يابو سعود”!
رواية سمعها:د. #ماجد_توهان_الزبيدي
كنّا أمس بعد إفطار اليوم الأول من صيام #رمضان في خيمة عزاء جارتنا بالحارة “أُم شادي”،وتوافد جمع غفير من المعزين من الجيران وأنحاء مختلفة من بلدتنا وخارج بلدتنا ،ربما لمعرفة كثير من المعزين بزوجها وعائلته.
وكعادة من يتوافد للعزاء بالراحلين من الناس بمجتمعنا ،أخذ كل بضعة رجال يتحلقون في حلقة شبه مغلقة عن جاراتها من حلقات مماثلة،كل حلقة حسب حمولتها أو مهنتها أو علاقاتها المجتمعية، ويعلو كل حلقة سحابة متصاعدة متحركة كعاصفة مصغرة من سحب دخان كثيفة لا تتوقف عن تغطية كل فضاءات خيمة العزاء شبه المغلقة بسبب بقايا التيارات الهوائية الباردة التي حملها لنا شهر شباط الماضي وماتزال تثقل غُرة آذار الحالي ،ثم تتغلغل في صدور ورئات الناس من كبار السن والشباب والصغار دون تمييز بينهم ،فلا تسمع سوى العطاس يتلوه عطاس ،وقحة تتبعها قحة،دون إكتراث من أولئك الذين ينتقمون من الحياة بإشعال صدورهم ورئاتهم وجيوبهم وصحة أفراد عائلاتهم بالهروب بنفث التبغ،فترى الواحد منهم يفد لديوان العزاء حاملاً باليسرى هاتفه وباليمنى علبتتي دخان،أقسم مُسبقاً لينتقم منهما إلى الآذن الثاني والأخير قبيل الإمساك عن الطعام والشراب في حركة مصمصة مستمرة للتبغ ولطع فناجين القهوة بُعيد لحظات من آذان الإفطار،وكأن الرجل منهم في سباق مع الزمن في مسابقة الجري لحفرة الموت!إلى درجة أن بعض أولئك القوم يتراهن مع شلته على الخلاص من علبة الدخان الثالثة،في الوقت الذي يُعرف عنه كثرة إستدانته من دكانة جاره لزيت الطبيخ والخضروات وأحيانا للخبز من المخبز المجاور في وقت أن كل إحتياجات منزله اليومية ،لو هو أراد،ربما لا تصل قيمتها المالية ،إلى ثمن علب التبغ الثلاثة التي يحرقها في مسامات رئتيه،!
إلّا أن كل تلك العادات السيئة القاتلة للنفس وللأسرة وللمحيط المجاور ،ربما ليست هي جوهر موضوعنا اليوم ،مقارنة مع الموضوعات الرئيسة لفحوى أحاديث المُتحلقين التي قد تتمركز كلها او جًلّها،في أكل لحوم بعضهم البعض فيما بينهم، ومن وراء بعضهم البعض!
لم يشفع لكثير من غير المدخنين الذين راحوا في مشوار مستمر من العطس والقح والسعال ،تلك اليافطات الكبيرة المنصوبة في زوايا خيمة العزاء والتي تناشد المدخنين عدم التدخين أثناء وجودهم للعزاء رحمة بالعباد وبأنفسهم،وكأنها غير موجودة أصلاً،وان تأثير مفعولها كتأثير الأسفار فوق الدواب التي تحملها على عقولها،!
بعد ساعة ،تزيد أو تقلُّ قليلاً،دخل المختار “ابو سعود” مُعزّياً،فتوقفت أحاديث النميمة وسواليف غلاء أسعار الكوسا المحشي(“قرّع بو طزّينة “بلهجة عرب المغرب العربي)و”الخيار” في رمضان الحالي، و”جرة الغاز البلاستيكية” وافضل محلّات القطايف هذا العام،وغير ذلك من سواليف “الوحام” التي يشترك فيه في كل شهور رمضان، ملايين الرجال الذكور العرب مع النساء الحوامل!
تحوّل حديث حلقات المتحلقين النافثين لدخان التبغ على مدار اللحظة،في كل أرجاء الخيمة،صوب المختار “ابو سعود”،وأجمع جميع ماضغي لحم الرجل على أنه يرفل حاليا من شهرين بنعمة واضحة نزلت عليه مرة واحدة من دون أي سبب مقتع،بعد أن بات واضحا لجميع أهل البلدة أنه خسر في موسمين زراعيين متتاليين من تجارة حمضيات الليمون(“قارص” بلهة اهلنا المغاربة) التي بات سعر الكيلو غرام الواحد منها بالجملة أقل من سبعين فلساّ في السوق المركزي ،وهو مادفعه مع معظم مُزارعي الحمضيات لقطع أشجار معظمها وإستبدالها بزراعة جديدة لأشجار مثمرة ك”الأوفكادو” وأخرى جديدة على بيئتنا من أشجار فاكهة صينبة ك”التنين” وأخرى ذكرها المتحلقون لم يستطع الكاتب تذكرها الآن!
ذهب الخائضون بإستغابة المختار مذاهب شتّى في بيان سر النعمة الجديدة عليه ، كسيارته الجديدة “تسلا” بعد عقد كامل كان خلاله ، يحرث على سيارة “كيا تو””مهررة” على وصف أحدهم ، وشقته الجديدة .
وبينما القوم يتسابقون في تشكيل سحب الدخان الكثيف في كل أرجاء خيمة العزاء ،ويتقاسمون لحم المختار وعظامه فيما بينهم ، وقف وسطهم رجل وقور بقي صامتاًّ طيلة فترة العزاء،ثم نظر في وجوههم بكل ثقة،مما الزمهم الصمت فجأة ومرة واحدة،كما يُلجم الرئيس “ترامب”اعضاء حكومته حال وجوده! ثم قال:”أنتم من ساعة ونيّف تسترجعون إتهامات سابقة للمختار تخلّى عنها الرجل لعدم جدواها المالي،ولإفتضاح أمره،لكنكم لا تعلمون تجارة الرجل الجديدة والخطيرة والعميلة والمتصهينة….
وهنا قاطعه أكثر من رجل من اصحاب التجارب التنظيمية سابقاً في أحزااب وحركات سياسية كانت محظورة زمن السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي،وأبدوا إستهزاءهم بالرجل المتحدث من حيث أن المختار لم يكن يوميا من أهل الحراك أو السياسة أو الوعي كي يُغامر في تجارة سياسية او غير سياسية!
تنحنح الرجل وأطلق ضحكة بان منها تكرار إستهزاءه بمن عارضه قبل لحظات من جلسائه بخصوص أسباب النعمة المُستحدثة الظاهرة على المختار،ثم قال بثقة وبنبرة جدّية أظهرت ثقة الرجل بقوله :”أيها القوم الذين لا همّ لكم سوى طق الحنك ونفث التبغ وأحاديث الطعام والشراب والقطايف ،كعادتكم على مدار العمر ،هل فكرّتم للحظة أن كل المزارع الجماعية للصهاينة في شمال فلسطين وجنوبها طيلة شهور “طوفان الأقصى” من خمسة عشر شهرا وللآن،باتت خاوية على عروشها وماتت ثمارها على أشجارها،بعد هروب أصحابها من يوم السابع والثامن من أكتوبر من العام 2023،وبات سعر الخضروات والفاكهة في الكيان الجبان يقترب من أسعار اللحوم….
وهنا أطلق أحد السامعين ضحكة مسموعة إستهزاءاً من قول الرجل ليرد عليه بالقول:أنت تسكت خالص يابو القطايف وجوزها معها! يا أللي لا لون لك ولا طعم في الحياة!قاطعني عندما اكمل حديثي!
أكمل الرجل حديثه بالقول:”أيها النافثون للسمّ بصدور المعزين،أيها الثرثارون في عزاء الأموات:هل تعلمون أن المختار هو رئيس عصابة تهريب الرجال البنغاليين لأمتار قبيل الحدود مع فلسطين،كي يعملون في إحياء المزارع الجماعية (الكيبوتسات) في منظقة مستعمرات الحدود مع قطاع غزة ،ومستعمرات الحدود، مع لبنان التي هرب مستوطنوها من صواريخ المقاومة الباسلة،ويبست أغصانها بعد هلاك ثمارها،وان المختار يتقاضى ألفين وخمسمائة دولار أميركي عن كل رأس بنغالي،وأن الطريقة في كل ذلك هي إنبطاح البنغالي الذي يتم تهريبه تحت صناديق الخضروات والفاكهة تارة ،وتحت تراب القلابات بعد ربط بربيش متصل بالهوء من حول فمه وأنفه ثم “كبّه”قرب الحدود مع فلسطين لتلتقطه هناك في المقابل أفراد من عصابة عربية ايضا يتقاضون هم ايضا المبلغ ذاته الذي تتقاضاه عصابة المختار؟!
وهنا فغر المتحلّقون أفواههم ، وشخصت أبصارهم ،وباتوا كالبلهاء ينظرون في وجوه بعضهم،مُصدّقين وغير مُصدّقين قول الرجل الذي يجمعون كلهم على صدقه وجدّيته في أحاديثه معهم من ربع قرن من معرفتهم به،ثم راحوا يضربون كفاً بكف،ويُردد ُ بعضهم:”ياعارك يابو سعود، وعار حمولتك” !(6 آذار 25)
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: رمضان
إقرأ أيضاً:
الرجل السوداني البطل… والمرأة التي تدفع الثمن!
الرجل السوداني البطل… والمرأة التي تدفع الثمن! لحظة صراحة قاسية مع النفس والي البطولة المزعومة
في أرضٍ تُقاس فيها الفحولة بعدد الطلقات، والنضال بعدد اللايكات، يتكرر المشهد نفسه: رجال يتحدثون عن "تحرير الوطن"، بينما النساء يحررن الحياة من ركام الخراب. في السودان، البطولة ليست مجرد شجاعة، بل استعراض ذكوري تتراقص فيه البنادق، بينما تواصل النساء رقصة البقاء على الهامش، حاملاتٍ ما تبقى من البلاد فوق أكتافهن المتعبة.
"الشهيد… صورة فوتوشوب ثورية!"
لا شك أننا جميعًا تأثرنا بصور الشهداء التي تنتشر كالنار في الهشيم: وجوه مضاءة، ابتسامات خجولة، وكأنهم كانوا ينتظرون هذا اليوم ليتحولوا إلى أيقونات رقمية! لكن، هل تساءل أحد عن الأمهات اللواتي حملنَ هؤلاء الأبطال؟ عن النساء اللواتي دفعنَ الثمن قبل الرصاص وبعده؟ لا أحد يكتب عنهن، فالتاريخ – كما العادة – يهوى الأبطال، لكنه يتجاهل من صنعوهم!
"النساء… مقاومة خلف الكواليس"
بينما يعتلي الرجال المنصات الثورية، ويخطبون عن التضحية والنضال، تعمل النساء بصمت يُشبه المعجزة: يطهون طعامًا من لا شيء، يهربن الأطفال من الموت، ويحملن الوطن على ظهورهن دون أن ينتظرن تصفيقًا. لكن لا بأس، فالنضال كما يخبرنا "المنظرون"، هو فقط لمن يحملون السلاح، أما من يحملون الحياة… فهم مجرد تفاصيل!
"المجتمع الذي لا يكفّ عن معاقبة النساء"
إن نجت المرأة من الحرب، وجدت نفسها في معركة أخرى، حيث يتحول جسدها إلى محكمة، وشرفها إلى تهمة، وخياراتها إلى خيانة للأعراف. إن قاومت، اتُّهمت بالتمرد. إن سكتت، صارت مجرّد ضحية أخرى في أرشيف الظلم السوداني الممتلئ عن آخره.
"اغتصابٌ على هامش الحرب: سلاح الجبناء!"
عندما يعجز الذكور عن النصر، يقررون أن يجعلوا أجساد النساء ساحة للمعركة. في السودان، كما في كل حرب خاسرة، يُستخدم الاغتصاب كسلاح لإذلال المجتمعات، وكأن المرأة ليست سوى مرآة لشرف الرجل. المضحك المبكي أن ذات المجتمع الذي يبكي على "العار"، لا يبكي على النساء أنفسهن، بل على اسمه الذي تلطخ!
"الحركة النسوية؟ لنترك الرجال يقررون!"
ما إن تجرؤ امرأة على المطالبة بحقها، حتى يتزاحم حولها الرجال، كلٌّ بطريقته: "المناضل التقدمي" يخبرها أنه سيتحدث نيابة عنها، و"التقليدي المحافظ" يأمرها أن تعود للمطبخ. وبين هذا وذاك، تُواصل النساء نضالهن الحقيقي، بينما يمضي الرجال في صراعاتهم حول "من الذي يفهم المرأة أكثر!"
"الكرن: حين ترقص الأرض وترتعد الذكورة!"
في حفلات الكرن، حيث تتحدث الأجساد بلغة الأرض، تبدو النساء أكثر حريةً من أي وقت. لكن، ما إن ينتهي الاحتفال، حتى يعود الرجال إلى لعبتهم الأزلية: "من الأكثر فحولة؟". ربما لو أدركوا أن القوة ليست في البندقية، بل في الأرحام التي تُنجب الأبطال وتدفن الجبناء، لاختلفت معايير البطولة لديهم!
"هل الحرب حكر على من يطلق النار؟"
عندما يُقال إن الرجال "يحاربون"، فهم يفعلون ذلك بحمل البنادق، بينما النساء يحاربن باللحم والدم والدموع. في البيوت، في الأسواق، في المعسكرات، في الطرقات التي صارت أفخاخًا للأجساد الهشة. ومع ذلك، لا تُمنح المرأة صكوك البطولة، فهي مجرد "مرافقة"، مجرد ظلٍّ للحدث، مجرد تفصيلة ثانوية في رواية الرجال.
"أيها الرجال، تخيلوا يومًا بلا امرأة سودانية!"
تخيلوا صباحًا بلا أم تجهّز لكم الطعام رغم أنها لم تتذوق شيئًا.
تخيلوا شارعًا بلا امرأة تبيع الشاي، بلا أرملة تحفر في الأرض لتُخرج لأطفالها وجبة اليوم.
تخيلوا بيتًا بلا جدة تحكي الحكايات، بلا أخت تقف في صفوف الرغيف، بلا فتاةٍ تحمل حقيبة المدرسة رغم القهر.
تخيلوا وطنًا بلا امرأةٍ تشدّ الجراح وتجمع الحطام وتحوّل الخوف إلى أغنية صمود.
"خاتمة: متى تصبح المرأة مواطنة كاملة؟"
ربما عندما يكف الرجال عن اعتبارها مجرّد مرحلة انتقالية في نضالاتهم.
ربما عندما تُذكر النساء في كتب التاريخ كقائدات، وليس كمجرّد شهيدات وأمهات شهداء.
ربما عندما يُنظر إلى وجودها ليس كترف، بل كأساسٍ لوجود الوطن نفسه.
وحتى يحين ذلك اليوم، ستظل المرأة السودانية تحارب بصمت… بينما يستمر الرجال في صناعة الحروب والقصائد عن أنفسهم.
أنها لحظة صراحة قاسية مع النفس والي البطولة المزعمة أيضا.
zuhair.osman@aol.com