مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (5) للسيد القائد 1446
تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT
(المحاضرة الرمضانية الخامسة)
استدراك :
ستظل شخصيات الدكتور أحمد ونجليه صلاح ومُنير تتواجد في جزئية محاضرات القصص القرآنية؛ لاتساقها مع موضوع المحاضرة وعدم تشتيت انتباه القارئ.
"الدكتور أحمد أستاذ الفقه المقارن في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر.
أما نَجَلاه صلاح ومُنير، فيدرسان في كلية الطب بالجامعة ذاتها.
"
ظهر اليوم تنتهي محاضرة منير وصلاح في الكلية ليقفلا عائدان للمنزل وفي الطريق يتحدث منير لصلاح :
- اريد ان احدثك عن محاضرة اليوم يا صلاح
يقاطعه صلاح مبتسماً :
- لا تستعجل يا منير ودعنا نشاهد المحاضرة اولاً
مساء اليوم يجلس ثلاثتهم بغرفة المعيشة متسمران على شاشة المسيرة بانتظار المحاضرة الرمضانية التي بدأت للتو .
في سياق الحديث عن قصة نبي الله وخليله ورسوله إبراهيم عليه السلام، تحدثنا عن بداية مشواره في تبليغ الرسالة الإلهية، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان به وتوحيده، بدءً من محيطه الأسري مع أبيه آزر، كما قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74]، وَتَحَدَّثْنَا عَنْ هذين العنوانَيْنِ، الإِشكالية الخطيرة الكبيرة في واقع المجتمع البشري
هناك الكثير من المجتمعات، بالرغم مما فيها من قادة، ومفكرين، وفلاسفة... وغير ذلك، وأمم لها حضارات كبرى على المستوى العمراني في الحياة، ولكن حضارةٌ جوفاء، قامت على أساس الظلم والطغيان، وعلى أساس الكفر والشرك، لم تستفد لا من ما تمتلكه من مقومات مادية؛ لأنها ليست كافية في أن تكون مهتدية، وقد انحرفت عن خط الرسالة الإلهية.
- يعقب الدكتور احمد . . هل علمتم يا ابنائي سبب انحراف تلك المجتمعات المتقدمة الاجابة كما قدمها السيد عبدالملك وهي لان تلك المجتمعات انحرفت عن الرسالة الآلهية .
نبي الله إبراهيم تحرك في محيطه الأسري، ليحارب هذه الظاهرة، وللدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولإنقاذ أبيه آزر مما هو فيه؛ لأن الشركة ظلمٌ عظيم، وخطرٌ كبير، وهناك مقامات أخرى له مع أبيه، وعادةً ما يقدمه القرآن الكريم نماذج، يعني: بالتأكيد له الكثير من المقامات والحوارات والكلام مع أبيه آزر، ولكن القرآن الكريم هو كتاب هداية، ليس كتاباً للاستقصاء التاريخي، وبالتالي هو يختار لنا نماذج مهمة جداً فيها هداية، وتُلَخِّص لنا الموقف بكله، وله أيضاً مقامات مع أبيه وقومه، يعني: مع بعض مقامات منفردة مع أبيه آزر، ومقامات مع معه أيضاً مع قومه.
- الله ما اعظم هذه الجملة التي ذكرها السيد عبدالملك القرآن الكريم هو كتاب هداية، ليس كتاباً للاستقصاء التاريخي . . هكذا تحدث صلاح .
المسلمون هم الأمة الوحيدة بين كل أمم الأرض، وهم أمة محدودة في عددها، يعني: ليسوا هم الأغلبية في المجتمع البشري، هم الأمة الوحيدة على أساس الانتماء للإسلام، يدينون بالتوحيد لله سبحانه وتعالى، والإسلام يقدِّم لنا الدين الخالص والحق في التوحيد لله سبحانه وتعالى، والإيمان برسالته.
- الحمد لله على نعمة الاسلام هكذا تحدث منير
أمَّا بقية المجتمعات، ومنها المجتمعات التي تقدِّم نفسها أنَّها داعيةٌ للحُرِّيَّة، مثلما هو حال الغرب الكافر في أمريكا وأوروبا، هي مجتمعات تعتقد بالشرك، وتُعبِّد نفسها لغير الله سبحانه وتعالى، النصارى- مثلاً- يعتبرون نبي الله عيسى عليه السلام، الذي هو نبي الله ورسوله، يعتبرونه رباً وإلهاً في إذاعاتهم، في كتاباتهم، في طقوسهم في الكنائس، يقولون: [الربّ يسوع] يعني: عيسى، (يسوع يعني عسى)، في الوقت الذي يقدِّمون فيه أنفسهم أنهم دعاة الحُرِّيَّة، أي حُرِّيَّة لمن يعتبر نفسه عبداً لإنسان، لنبي الله عيسى عليه السلام، الذي هو إنسان من البشر، عبد لله سبحانه وتعالى، أول كلمة أنطقه الله بها: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم:30]
- هل لاحظتم يا ولديّ كيف طرح السيد عبدالملك حال المجتمعات المتقدمة وعبادتهم لعبد من عباد الله .. هكذا تحدث الدكتور احمد
الآن، في عصرنا هذا، في زماننا هذا، في عصر التقدم العلمي والنهضة الحضارية، النسبة الغالبة بين المجتمعات البشرية تعتقد بالشرك، بالألوهية لكائنات مخلوقة، ويشركونها مع الله في الألوهية.
ولذلك هم يحاولون أن يستهدفوا المسلمين، الذين هم الأُمَّة الوحيدة، والدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي يُقدِّم التوحيد لله خالصاً نقياً، فتلك الفئات الأخرى هم يحاولون أن الاستهداف للمسلمين، الذين يعيشون هذه النعمة: نعمة التوحيد، وشرف التوحيد لله سبحانه وتعالى،
المفترض أن يعملوا، أن يبذلوا جهدكم لنشر الإسلام، والدين الحق، والتوحيد لله في كافَّة أرجاء المعمورة، لكن الآخرين يستهدفونهم هم، بدلاً من أن يكونوا هم من يتحركون لهداية بقية المجتمعات البشرية بما يمتلكونه من هدى،
- هذا هو الدور المفترض بنا كما اوضحه السيد عبدالملك كأمة مسلمة هكذا تحدث الدكتور احمد
اليهـ.ـود لهم دورٌ أساسي؛ لأنهم كانوا هم من عملوا على الزيغ بالنصارى والانحراف بهم إلى درجة الشرك، اخترقوهم، ويعملون أيضاً في الوسط الإسلامي في أسلوبهم الخطير جداً للإضلال، وللتحريف والانحراف بالمسلمين، الله قال عنهم: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}[النساء:44]، قال عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100]، وهم يحرِّكون من يواليهم من النصارى في هذا السياق، في حربهم ضد الإسلام والمسلمين، وفي الاستهداف بالحرب الناعمة: الفكرية، الثقافية، والخطر الكبير في هذا الجانب هو في عصر الإنترنت، في عصر القنوات الفضائية: التلقي الفوضوي، التلقي الفوضوي؛ لأن ما يصل بالناس إلى مستوى الانحراف الكبير في عقائدهم الدينية، وفي معتقداتهم ومفاهيمهم التي يحسبونها على أنها من الدين الإلهي، هو الضلال،
- علينا ان نكون على ادراك كامل لدور اليهـ.ـود في اظلال الامة الاسلامية كما عملوه بالنصارى .
فالمشكلة الخطيرة جداً على الكثير من المسلمين هي: التلقي الفوضوي والعشوائي من القنوات الفضائية، من الإنترنت.
ولذلك تصل الحال بالبعض من المسلمين في كثير من المجتمعات، وفي بعضها أكثر، يعني حسب الإحصائيات: أن أكثر دولة من بلدان المسلمين فيها حالة ارتداد عن الإسلام هي السعودية، هذا حسب الإحصائيات التي تُقدَّم، فيها ارتداد صريح يعني عن الإسلام، يعني: ناس يخرجون من الإسلام بالكامل، ويعلنون ردتهم عن الدين الإسلامي، إمَّا بعضهم إلى الإلحاد، وبعضهم إلى النصرانية، وبعضهم إلى ملل أخرى، لكن لماذا؟ هناك أيضاً في اليمن، في مختلف البلدان، من يحصل لهم مثل هذه الحالة، مما يتحول إلى البهائية، أو الأحمدية، أو غيرها من الملل الأخرى.
الكثير منهم يتأثر بماذا؟ لأنه يقوم بمتابعة قنوات فضائية تدعو لذلك الضلال والباطل، وهو ليس محصناً بالهدى، ليس لديه لا اليقين، ولا المعرفة الكافية، فيتأثر بشبهاتهم، وهم يفلسفون للضلال والباطل بزخارف القول، التي يتأثر بها من لا يمتلك الوعي، ولا المعرفة، ولا الفهم، ولا اليقين، ينخدع.
- هل لاحظتم كيف قدم السيد عبدالملك مآلات التلقي الفوضوي وهو الشرك بالله وهذه حالة خطيرة للغاية وعدد بعض النماذج في بعض الدول .
والبعض من خلال الإنترنت، كثيرٌ ممن ظلوا وارتدوا وانحرفوا عن طريق الإنترنت، والبعض عن طريق دعاة، دعاة للضلال؛ لأن للضلال دعاةٌ ورعاة:
دعــاة: يدعون إليه، يُقدِّمون للناس الشُّبة، يتفلسفون له، لإقناع الناس ولخداعهم، وينفق عملهم في الخداع بزخارف القول والشبه، على من لا يمتلك لا وعياً، ولا معرفةً، ولا يقيناً، ولا بصيرةً في دينه، وهو مضطرب ومرتبك.
وهناك رعاة: وهم المستفيدون من مثل سلطات ظالمة، قوى نافذة، ترى أنها مستفيدةً بنفوذ سياسي، أو مستفيدةً مادياً، أو بنفوذ اجتماعي، أو مقامات معنوية... أو غير ذلك.
- هل سمعتم يا ولديّ كيف قسم السيد عبدالملك الظلال لنوعين اوضحهما وهما الدعاة والرعاة
ولهذا من أهم الأشياء التي تقي من التأثر بذلك الضلال هو: المقاطعة، المقاطعة للقنوات الفضائية، للمواقع المضلة، القنوات الفضائية المُضِلَّة التي تنشر الضلال، لا تتابع أي قناة تنشر الضلال، قاطعها، لا تتابع أي مواقع على الإنترنت تروِّج للباطل وتُقدِّم الشُّبه، اعمل على مقاطعتها، هذه مسألة مهمة، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[الأنعام:68]، المقاطعة، المقاطعة هي حل لأكثر الناس؛ لأن أكثر الناس لا يمتلكون من الوعي والمعرفة والفهم ما يتحصنون به من الشبه، وبالتالي يتأثرون بالشبه، كذلك من دعاة الضلال، دعاة الضلال أينما كانوا، فالمهم هو مقاطعتهم، عدم الإصغاء لهم، عدم التقبل منهم، وهذه مسألة مهمة جداً.
- هل ادركتم اهمية المقاطعة كما شرحها السيد عبدالملك باعتبارها الحل الاسهل لاكثر الناس
ثانياً: الارتباط بالهدى، الإنسان بحاجة إلى أن يرتبط بالهدى، وبالهداة، وطريق الهداية، وأن يحاول أن يستبصر، أن يكون واعياً، أن يكون فاهماً، أن يكون على معرفة بدينه، بالأسس المهمة لدينه، بالمبادئ الأساسية، هذه مسألة مهمة جداً، وأن يعرف أين هي قنوات الهداية ومصدر الهداية، وطريق الهداية؛ ليرتبط بها، وأن يدرك الإنسان بشأن هذين العنوانين: (الهدى، والضلال) أن هما الأساس، يعني: مسيرة الإنسان في حياته: إما أن تكون على هدى، وهذا فيه النجاة، وإلا فلن تكون إلا على ضلال، وفي هذا الهلاك والخسران والعياذ بالله، والله علَّمنا حتى في الصلاة، كيف نعي أهمية هذه المسألة، في قوله تعالى يعلمنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّ}[الفاتحة: 6-7].
- وثاني هذه الاشياء التي تقي من التأثر بذلك الضلال هو الارتباط بالهدى وكيف شرح السيد عبدالملك اهميته .
التعقيدات التي كان يعاني نبي الله إبراهيم عليه السلام منها في واقع مجتمعه شرحناها، يعني:
سلطة طاغية، ظالمة، متكبرة، مجرمة جداً، على رأسها رجلٌ متكبرٌ، وصل به الغرور والكبر والطغيان إلى أن يدَّعي الربوية.
مجتمعٌ شديدٌ في تشبثه بالباطل، متشدد، يعني: متدين بالباطل بشدة، ونبهنا عن خطورة الضلال عندما يتحول إلى معتقدات دينية، الباطل عندما يتحول إلى معتقدات دينية؛ لأن البعض أيضاً يكونون عندما تكون المسألة تديناً، متشددين عليها، متمسكين بها بشدة جداً، بتقديس كبير، وتشدد كبير.
هناك أيضاً جهات نافذة، نافذة كمستفيدة مادياً، كمستفيدة معنوياً.
ويعاني حتى في محيطه الأسري.
إضافة إلى أن الموضوع بنفسه، موضوع التوحيد، ومحاربة الشركة، الذي يلامس أكبر معتقداتهم أهميةً وقدسيةً لديهم، يعني: الموضوع محاط بحساسية شديدة
مهام الرسل والأنبياء أكبر مهمة، هي أكبر المهام، وأقدس المهام، فيها تعقيدات كثيرة في واقع الحياة؛ لأنهم يأتون إلى الناس لهداية الناس،
- لقد اوضح السيد عبدالملك الوضعية التي كانت تحيط بالسيد عبدالملك وعرفنا بمهام الرسل كونها من اقدس المهام .
ولأهمية المقارنة بين المسألتين، نجد- مثلاً- في حركة رسول الله محمد "صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ"، عرضوا عليه، عرض عليه المشركون في مكة، قالو: [إن كنت تريد مُلكاً مَلَّكنَاك علينا]، يعني: المسألة عندهم مقبولة، لو كانت المسألة مسألة مُلك وديولة، ما عندهم مشكلة أنه يتوِّجوه ملكاً عليهم؛ أو يريد مالاً، أن يجعلوه أثرى وأغنى رجلٍ فيهم؛ أو يريد امرأةً أجمل امرأة، ليس عندهم مشكلة... أو أي عرض مادي، لكن الاصطدام بهم في جوهر ما يتشبثون به: معتقدات، عادات، تقاليد خاطئة، أفكار خاطئة، ضالة... غير ذلك، يعني: تغيير الواقع بكله، هي المسألة الحساسة والبالغة التعقيد.
فلذلك ندرك أهمية ما تتطلبه هذه المهمة، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75]، هذا في الإعداد لهذه المهمة، في مقابل ما يواجهه من صعوبات، وتعقيدات، وحساسية، وإشكالات في الواقع، يهيئه الله ويعده ليؤدي هذه المهمة بهذه الطريقة، ليريه (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): الآيات العجيبة، التي تجعله على أعلى درجات اليقين، اليقين العالي، و يتَّجه من خلالها وهو في أعلى درجات اليقين، بعزمٍ، وقوةٍ، واطمئنانٍ تام، وهذه المسألة سنتحدث عنها في المحاضرة القادمة إن شاء الله.
- انتهت المحاضرة وثلاثتهم يشاهدون بعضهم بارتياح وبانتظار محاضرة غداً بإذن الله
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: الله سبحانه وتعالى لله سبحانه وتعالى السید عبدالملک القرآن الکریم علیه السلام هکذا تحدث الکثیر من نبی الله مع أبیه مسألة م ة التی التی ت
إقرأ أيضاً:
(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد 1446هـ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في قصص القرآن عن أنبياء الله ورسله، يأتي الحديث عنهم:
في إطار مهامهم الرسالية، وسعيهم لهداية المجتمع البشري، وشدِّه إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والعودة به إلى الصراط المستقيم. ويأتي الحديث عنهم أيضاً في مقام الاهتداء بهم، والتأسي، والاقتداء، بما هم عليه من كمالٍ إيمانيٍ عظيم. وكذلك ما يتعلق بالهداية في الواقع العملي، سواءً بأسلوب الدعوة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أو في التصدي لمشاكل الحياة، والتعامل مع ظروفها وأوضاعها المختلفة.فلهم هذا المقام العظيم في الواقع البشري: هم القدوة، هم الأسوة، هم القادة، هم الهداة، هم الرموز الذين يجب أن يلتف حولهم المجتمع البشري.
ولذلك فالقصص المرتبط بهم، وهو نموذجٌ من القصص القرآني كما ذكرنا بالأمس، له أهميته الكبيرة جدًّا في مقام الهداية، في مقام التأسي، في مقام استلهام ما يرتقي بالإنسان في وعيه، في إيمانه، في رشده، ما نحتاج إليه في علاقتنا بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، في مسيرة حياتنا، في ما يواجهه الإنسان أيضاً من تحديات، ومخاطر، ومشاكل، في ظروف الحياة، فهم في المستوى الأول فيما يتعلق بالاهتداء، واستلهام الدروس والعبر من سيرتهم.
ويأتي الحديث عن الأنبياء، في النماذج التي قدمها القرآن الكريم، بمستوى أيضاً ما هم عليه هم من مقامات قد تكون متفاوتة في مستوى الفضل والأهمية، كما ذكرنا قول الله تعالى بالأمس: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة:253]، وهذا يعود أيضاً إلى مستوى مهامهم، وما واجهوه في هذه الحياة من ظروف ومشاكل.
قصة الهداية الإلهية للمجتمع البشري، هي متزامنةٌ منذ الوجود البشري على الأرض، الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" جعل أول إنسانٍ يخلقه جعله نبياً، نبياً أوحى اليه، هداه، علَّمه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" ما يحتاج إلى علمه في مسيرة حياته، قدَّم له الهداية؛ ليسير في مسيرة هذه الحياة على الصراط المستقيم، يتحرك في حياته وفق تعليمات الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، علَّمه الالتزامات الأساسية في هذه الحياة، في ما على الإنسان أن يعمله، وما عليه أن يحذره، في إطار الأوامر والنواهي الإلهية، والتي هي هدايةٌ لنا إلى ما فيه الخير لنا، فالله يأمرنا بما هو خير لنا، وينهانا عمَّا هو خطرٌ علينا، له تأثيراته السيئة علينا، والمجتمع الإنساني موجودٌ في اطار نعمة من الله عليه، ورعايةٍ من الله عليه؛ وإنما كيف يتعامل مع الله، ومع نعم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، من واقع أنه عبدٌ لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومن واقع أنه في إطار ملك الله وملكوته وتدبيره، في هذا العالم الذي هو في إطار التدبير الإلهي، تدبير الله الحي القيوم "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلذلك كانت مسيرة الأنبياء في هداية الناس مسيرةً مستمرةً.
لكن في الواقع البشري نشأت حالة الانحراف، وحالة المعاصي، وحالة الخلل الكبير في مستوى الالتزام بتعليمات الله وهديه، وفي مستوى الاتِّباع للهداة الأنبياء، الذين جعلهم الله هداةً للناس، فتعاظمت حالة الانحراف في الواقع البشري، على المستوى العملي، على مستوى الأخلاق والقيم، على مستوى المحرمات، فيما هو حلال، وفيما هو حرام، ووصلت- في نهاية المطاف- إلى انحرافٍ خطيرٍ جدًّا في مستوى التوحيد لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الإيمان بأنه هو وحده "جَلَّ شَأنُهُ" الإله، الذي نعبده، ونتَّجه إليه بالعبادة، والاعتراف بأننا عبيدٌ له، وأنه وحده المدبر لشؤون السماوات والأرض؛ وبالتالي علينا أن نتوجه إليه وحده بالعبادة، هو الخالق، هو الرازق، هو المدبر لشؤون السماوات والأرض، لا يملك أحدٌ غيره أي تدخلٍ، أو شيءٍ من التدخل في تدبير شؤون السماوات والأرض، بشأن الخلائق أجمعين، ولا يملك مثقال ذرةٍ في السماوات والأرض أحدٌ سواه "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى".
حالة الانحراف وصلت إلى مستوى الشرك (ظاهرة الشرك)، فكان البشر، مع اعترافهم بالله أنه الخالق، الذي خلق السماوات والأرض، وفطر السماوات والأرض، وأنه الذي يحيي ويميت، وأنه الذي يرزق، ولكن وصلوا في مستوى انحرافهم إلى الاعتقاد بشركاء معه في الألوهية، وبتعدُّد الآلِهة، وأضافوا أدواراً ومستويات معينة، يعني: هم يعتبرون الآلهة- التي اعتقدوها آلهة- أنها بمستوى دون الله، دون الله، وتحت ربوبية الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفي مستوى معيَّن، ودور معيَّن، لكنهم يعتبرونه في إطار الألوهية، يعني: يعتقدونها آلهةً مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، شريكةً مع الله في الألوهية، وفي أدوار معيَّنة، ومهام معيَّنة.
تنوعت هذه المعتقدات في مسألة الشرك بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى":
البعض من البشر في نظرتهم إلى بعض الظواهر الكونية، وتأثرهم بها، اعتقدوها آلهة، مثلما هو حال من عبدوا الشمس، من عبدوا القمر، من عبدوا النجوم... اختلفت أحوال البشر في ذلك. البعض اتَّجهوا إلى جمادات، إلى الأصنام التي ينحتونها، إمَّا من الصخر، أو يصنعونها من الخشب، أو من معادن أخرى، وجعلوا منها تماثيل بأشكال معينة، ونصبوها في المعابد، واعتقدوها آلهة. البعض من البشر ألَّهوا الملائكة، اعتقدوا الملائكة كذلك مشاركين في مسألة الألوهية. والبعض منهم ألَّهوا البعض من البشر، البعض من الناس ألَّهوا أُناساً: إمَّا من الطغاة المجرمين الظالمين، الذين يصل بهم طغيانهم إلى ادِّعاء الربوبية والألوهية، مثلما هو حال فرعون، الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24]، ومثلما هو حال أيضاً بعض الملوك والطغاة الآخرين. والبعض اتخذوا آلهة بغير رضاً منها، يعني: مثل من ألَّهوا عيسى "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، عيسى المسيح رسول الله، عبد الله ورسوله، ألَّهوه، هو لا يرضى بذلك، وحدث هذا من بعد زمان، من بعد سنوات طويلة من توفي الله له، لكن اتَّجهوا بانحرافهم هذا الاتِّجاه الخاطئ، الذي يتناقض تماماً مع رسالة الله، مع دعوة رسوله إلى عبادة الله، وهو الذي أنطقه الله، فكان أول ما نطق: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}[مريم:30]، الإقرار بعبوديته لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهو الذي كان العنوان الأبرز لدعوته في رسالته: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:36].فالحالة بالنسبة للبشر في مستوى الانحراف، والانحراف حالة خطيرة في واقع الناس؛ لأن الباطل يزداد، إذا اتَّجه الناس اتِّجاهاً في خط الباطل، وفي طريق الضلال، يزداد ضلالهم، يكبر انحرافهم مع الزمن، مع الوقت، وانفصالهم عن مصدر الهداية وعن خط الهداية، تكثر حالة الخرافات والأساطير والضلال، ويصلون إلى مستويات خطيرة جدًّا.
مع أن كل تلك الأشياء التي اتَّخذوها شركاء مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في معتقدهم الباطل والخاطئ، وبعضها- كما قلنا- مما ينحتونه هم من الصخور، أو مما يصنعونه هم من الأخشاب، أو بعض المعادن، أو غير ذلك، أو من بعض الظواهر الكونية، مثل: حالة العبادة للشمس، والقمر... ونحو ذلك، هذه الحالة مع أنها حالة سخيفة، وينبغي ألَّا يقع فيها البشر، ألَّا يصلوا إليها؛ لكن تُحاط بأساطير، وهالة، ومعتقدات معيَّنة، ويرتبط بها الناس في أحوالهم هم، وظروف حياتهم، في حالة الرجاء، عندما يكون لهم- مثلاً- مرضى، ويقولون له: إذا تقربت إلى هذا الصنم بقربان معيَّن، إمَّا بنذور معيَّنة، أو كبش... أو ما شاكل، أي قرابين يقدمها، البعض كانوا يُقدِّمون حتى الكلاب قرابين لأصنامهم، يتصورون أن ذلك سيكون له تأثير في أحوالهم، إمَّا في شفاء مريض، في تلبية حاجةٍ أو طلب، في دفع شرٍ، في تحقيق نفعٍ... أو غير ذلك، فارتبطوا بها من واقع ظروف حياتهم، وأحيطت بأساطير وهالة تجعل الناس يتقبلون الارتباط بها، والاعتقاد بها، والاتِّجاه نحوها بالرجاء بالنفع، أو دفع الضر... أو غير ذلك.
فهذا التمادي في الباطل، وهذه الحالة من الوصول إلى مستويات فظيعة جدًّا في المعتقدات الباطلة والزائفة، والتنكر للحقائق الكبرى، ومنها: حقيقة التوحيد لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أساسه الابتعاد عن هدى الله، إذا ابتعد الناس عن هدى الله؛ يكبر باطلهم، يزداد ضلالهم، يتمادون في الضلال والباطل حتى يصل إلى مستويات فظيعة.
ولذلك ما بين نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، والذي كانت البشرية، وكان الناس قد استأنفوا حياةً جديدةً معه بعد الطوفان العظيم، قائمةً على التوحيد الكامل لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والاتِّجاه في مسيرة الحياة على أساس رسالته، وتعليماته ودينه، وما أحل، وما حرَّم، وفق توجيهاته وتعليماته، لكن عادت البشرية من جديد إلى الانحراف على مدى أجيال، وأتت قصة نبي الله هود "عَلَيْهِ السَّلَامُ" مع قومه عاد، ثم نبي الله صالح مع قومه ثمود... وهكذا.
إلى عهد نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، كانت المجتمعات البشرية قد انتشرت على نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، وكانت أيضاً في واقعها السياسي قد نشأت بحالة جديدة في الواقع السياسي في المجتمعات البشرية، وهي الممالك، يعني: من الوضع العشائري، الذي كانت عليه المجتمعات البشرية في عصر نبي الله نوح "عَلَيْهِ السَّلَامُ" وما قبله، وكذلك إلى عهد نبي الله هود "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، إلى عهد نبي الله صالح، لكن مع الكثافة السكانية، وانتشار الناس في نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، بدأت المجتمعات تتشكل بشكل ممالك (مملكة)، يعني: تشبه حالة دولة في هذا العصر، ممالك معينة؛ لأن الواقع البشري اتَّسع، في البداية كانوا في المستوى العشائري يُنَظِّمُون أمورهم، ويعيشون كمجتمعات في هذا الإطار، لكن كثرت العشائر بنفسها، عشيرة، وعشيرة، وعشيرة، وأصبح المجتمع مجتمعاً واسعاً؛ حينها تشكلوا بشكل ممالك، وأصبحت لهم أشبه ما يكون بالدولة في هذا العصر، يعني: هناك نطاق جغرافي معيَّن، فيه أُمَّة من الناس، لديهم حاكم يحكمهم.
واتَّجهت الحالة في السيطرة على الناس، في إطار تلك الممالك في بعضها، إلى حالة طغيانٍ كبير، يعني: يتَّجه الزعماء والقادة من واقع سيطرتهم ونفوذهم، إلى أن يصلوا في مستوى طغيانهم إلى أن يقدِّم نفسه إلهاً، وهذا حصل في عصر نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، في إطار المنطقة التي وُلِدَ فيها، ونشأ فيها، وبعثه الله بالرسالة فيها، وكان ذلك في جنوب العراق، بالامتداد إلى تركيا، أو أجزاء من تركيا، والمملكة البابلية، وما جاورها وامتداداتها، هي من أقدم الممالك في المجتمعات البشرية.
ففي ذلك العصر وُلِدَ نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في تلك المنطقة، فيما يحسب الآن من جنوب العراق، بالامتداد إلى أطراف تركيا، أو أجزاء من تركيا، وفي تلك المرحلة كان هناك مملكة كبيرة، عليها حاكمٌ ظالمٌ، متكبرٌ، ضالٌّ، وصل به الطغيان إلى أن يدَّعي الألوهية، أن يدَّعي نفسه إلهاً، وكذلك كانت حالة الشرك قد شملت، وعمَّت، وانتشرت إلى حدٍ كبير في ذلك المجتمع، وتوارثها لأجيال، توارث حالة الشرك لأجيال؛ فاستحكمت في أوساط الناس، والمجتمع بنفسه في موروثه من الشرك، ذلك الانحراف الكبير جدًّا، وتلاه انحراف عن بقية الأمور؛ لأنه مع الشرك هناك انحراف عن بقية الشرع الإلهي، عن معظمه، عن الأخلاق والقيم في أكثرها؛ إنما يكون هو رأس الانحراف، ومن ورائه وتتبعه حالاتٌ كثيرة من الانحراف: على مستوى الشريعة، على مستوى الالتزامات الأخلاقية والدينية... وغير ذلك.
ففي ذلك المجتمع كان هناك تثبيت لدعائم ذلك الباطل، يعني: باطلٌ محميٌ رسمياً من خلال السلطة الحاكمة، وعلى رأسها طاغية وصل به الحال أن يدَّعي لنفسه الربوبية، وكذلك استحكام حالة الشرك، التي يَتَشَبَّثُ بها المجتمع كموروثٍ اعتاد عليه، اعتقده بناءً على هالةٍ من الأساطير والخرافات، والتأثيرات التي تأتي- كما قلنا- إلى واقع الحياة، وارتباط من ظروف الحياة المختلفة، وكان مجتمعًا شديداً.
ومع أن الطاغية بنفسه، الذي يقال أنه: (النمرود)، وفي بعضها يقال: (النمروذ)، وفي بعضها... تختلف الأسماء باختلاف اللغات، هو بنفسه يدعم تلك الحالة من الشرك، ويتبناها، وهي- في نفس الوقت- مرتبطةٌ به، يعني: كما في عصر (فرعون)، يعتبرون الآلهة متعددة، ويعتبرون ذلك الطاغية كبير الآلهة، مع اعترافهم في الأساس بالله.
لكن مثلاً في عصر ذلك الطاغية المجرم، الحاكم والمسيطر في زمن نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في جنوب العراق (النمرود)، وفي زمن (فرعون)، وصل بهما الطغيان، هذان الاثنان وصل بهما الطغيان إلى درجة أن يَحْظُرا ويمنعا منعاً باتاً الذكر لله، العبادة لله، الإقرار بالله، الحديث عن الله، بحيث سعى كلٌ منهما أن يكون هو يقدِّم نفسه أن يكون كبير الآلهة، وقدَّم حظراً على الذكر لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، أو الحديث عنه "جَلَّ شَأنُهُ"، مع أن ذلك لا يعني عدم معرفة المجتمع، أو حتى إقرار المجتمع، بأن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه فاطر السماوات والأرض، وأنه هو الذي خلقهم؛ لأن ذلك الطاغية بنفسه، الذي يقدِّم نفسه بأنه هو كبير الآلهة، ويحمي تلك الأصنام معه، هو بنفسه مخلوق، يعني: ليس هو الذي خلق نفسه، هم يعرفون أن الذي خلقه هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وأنه كان معدوماً، وأنه وُلِد في مرحلة معينة، وزمن معين، وكان معدوماً قبل ذلك، فهو مخلوق، مخلوقٌ وهم يعرفون أنه مخلوق؛ وبالتالي هم يعرفون أن الله هو الذي خلقه.
لكن الطغاة أولئك، مثلما هو حال (النمرود)، أو حال (فرعون)، هو قَبِل بتلك الآلهة من المجسمات والتماثيل والأصنام معه؛ لأنه يعتبرها لا تنافسه في الواقع، يعني: الناس يرتبطون بها كطقوس، يجعلون لها المعابد، يبنون لها مبانٍ ضخمة، ولا تزال هناك آثار في كثير من بلدان العالم، تدل على اعتنائهم الشديد، بأن تكون المباني التي يبنونها لتكون معابد لأصنامهم مبانٍ ضخمة جدًّا، يبذلون فيها جهداً كبيراً، يُقدِّمون الكثير من المال والجهد، ويعتنون بها؛ لتكون من أضخم ما بنته البشرية، يعني: عبادة باهتمام، اهتمام كبير، وفي نفس الوقت هذه الطقوس التي تمارس في تلك المعابد، سواءً قرابين معينة، أذكار معينة، حالات توجه بالعبادة، لها أشكال مختلفة في واقعهم، تبقى في ذلك المستوى، يبقى بقية الدور بكله للملك، الذي وصل به الحال أن يقدِّم نفسه باعتباره كبير الآلهة، فهو راضٍ عن تلك الحالة؛ لأنه مسيطر، مهيمن، متحكم، وتلك المجسمات الحجرية، أو من أشكال أخرى، لا تمثل أي إشكال عليه هو في الواقع، فهو من هذه الناحية لا مشكلة عنده.
لكن المشكلة عنده في أن يبقى هناك ارتباط بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، توجُّه إلى الله بالعبادة، ذكر لله، ولاسم الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، هذا يقلقه؛ لأنه يدرك ضعف موقفه، ضعف موقفه، هو إنسان مخلوق، ضعيف، عاجز، وُلِد وسيموت ويرحل من هذه الحياة، فإذا ادَّعى لنفسه أنه كبير الآلهة، هي دعوى لا تهددها أو تمثل قلقاً عليها تلك المجسمات والأصنام؛ لكن مبدأ التوحيد لله، الذكر لله، هو الذي يهدد طغيانه ذلك، ويضربه في الصميم؛ فيحظرون الحديث عن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، يعتبرون ذلك يشكِّل خطراً على مواقعهم التي قد رسَّخوها في أوساط المجتمع، تحت هذا العنوان: عنوان كبير الآلهة.
على كُلٍّ، نشأ نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ" في جنوب العراق، وسط ذلك المجتمع الذي قد وصل به الانحراف إلى ذلك المستوى، فهو مجتمع مُتَشَبِّث بذلك الباطل، وباطلٌ وضلالٌ كبيرٌ قد أصبح مرتكزاً على حماية رسمية من السلطة، وحماية اجتماعية من نفوذ الأشخاص الذين ارتبطوا بمصالح في ذلك الوضع، وأيضاً بالخرافات والأساطير التي قد أثّرت على الكثير من الناس، فارتبطوا بالأصنام من ظروف حياتهم: في طلب النفع، في طلب دفع الضر، في طلب الشفاء، في طلب الرزق، في طلب البركات، من خلال تلك الطقوس التي يقدِّمونها.
عندما نشأ نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، نشأته كنشأة بقية الأنبياء والرسل، ينشأون موحِّدين لله تعالى، هذه قضية أساسية، هذا مبدأٌ أساسيٌ، لم يكن هناك أبداً أي رسولٍ، أو نبيٍ من أنبياء الله، كان قبل رسالته قد اتَّجه في حالة شرك، أو انحرف هذا الانحراف، بل إنَّ الأنبياء والرسل منزَّهون عن غير ذلك أيضاً: عن الجرائم، عن المفاسد، عن... ما قبل رسالتهم، ما قبل بعثتهم، هم ينشأون في إطار عناية ورعاية إلهية، كما قال الله عن نبيه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه:41]، ينشأون بسجلٍ نظيف على المستوى الأخلاقي والسلوكي، ينشأون بقيم راقية، بمكارم الأخلاق، وينشأون موحِّدين لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، ومتميِّزين بما هم عليه من توحيدٍ، ومن مكارم الأخلاق، ومن اتِّجاهٍ صحيح، وانشدادٍ إلى الله تعالى، ليسوا متلوثين بما تلوث به المجتمع، لا من الناحية العقائدية بما فيه من باطل وضلال رهيب، ولا من الناحية السلوكية والعملية، فهذه نقطة مهمة جدًّا، هي أساسٌ في فهمنا لما سيأتي من هذه الدروس عن نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ".
لكن تلك الحالة حالة وصلت إلى محيطه الأسري، حالة الانحراف والشرك، وصلت إلى محيطه الأسري، يعني: حالة مسيطرة على المجتمع من حوله؛ ولـذلك هو يعاني من الغربة في التصدي لتلك الحالة، ومواجهة تلك الحالة، يعاني من الغربة؛ لأن محيطه حتى على المستوى الأسري متأثِّر بتلك الحالة؛ ولهـذا نجد في القرآن الكريم في عدة مواضع، ما يذكره الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" عن مشكلة إبراهيم مع أبيه، في مثل قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}[الأنعام:74]، نجد ذلك أيضاً في (سورة مريم)، في (سورة الأنبياء) أيضاً، كيف يتحدَّث مع والده، مع أبيه عن هذا الموضوع، يختلف المفسِّرون والمؤرخون: هل هذا يعني والده، عندما يقول الله في القرآن: {لِأَبِيهِ}، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ}، أم أنه يحكي عن عمه؛ لأن العم أيضاً قد يقال له أب، كما في قصة إبراهيم وإسماعيل ويعقوب، عندما حضر يعقوب الموت، {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}[البقرة:133]، فذكروا إسماعيل من آبائه، مع أنه عم يعقوب، عم نبي الله يعقوب، لكن حسبوه تحت هذا الاسم، يعني: هذا واردٌ في الاستعمال العربي عند العرب، أن يقال عن العم أيضاً (أب)، لكن (والد) تختص بالأب الذي ولدك، على كُلٍّ هذا رأي الكثير من المفسرين: أنَّ هذا يعني عمه، والبعض يقولون: [بل أبوه]، والده يعني، فعلى كُلٍّ بغض النظر عن هذا الاختلاف، الخلاصـــــة: أنَّ هذه الإشكالية وصلت إلى محيطه الأسري، إلى داخل الأسرة، وواجه هذه الإشكالية حتى في داخل الأسرة، وسنجد كيف كان حجم هذه الإشكالية، وكيف كان حجم تأثيرها، في قصة نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ".
في دعوته لقومه، وتحركه بالرسالة الإلهية؛ لهداية قومه، ومعالجة هذا الانحراف الكبير في واقعهم، بدءاً بظاهرة الشرك؛ لأنها في المقدِّمة، في مقدِّمة ما يتصدى له الأنبياء والرسل في المجتمعات التي قد تورَّطت فيها؛ لأنها تمثل هي العائق الأكبر عن بقية أمور الدين، ولأنها هي في حالة الانحراف أكبر حالة انحراف، يعني: على مستوى التقييم والتصنيف لها، جريمة كبيرة جدًّا، أكبر جريمة، تنكُّر لأكبر الحقائق، إساءة كبيرة إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ لأن الله منزَّه عن أن يكون له شريك في ملكه أو ألوهيته، في هذا إساءة إليه، في ذلك نسبة الضعف والعجز إليه، وأنه يحتاج إلى أعوان يشاركونه في تدبير أمور الخلق، وفي تدبير أمور الكون، فهو منزَّهٌ عن أن يكون له شركاء في مُلكِه ومِلكِه لعباده، وهو وحده الإله، والبقية كلها مخلوقاتٌ له، فهو الرب لكل شيء "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، فهناك مقامات لنبي الله إبراهيم، مقامات متعددة، وصلت في نهايتها إلى مستوى الاحتكاك الكبير بينه وبين قومه، إلى درجة أنهم عملوا على حرقه بالنار، وستأتي هذه القصة.
إن شاء الله ندخل في هذه المقامات مع قومه، وكيف هي الأساليب الحكيمة التي عمل بها نبي الله إبراهيم "عَلَيْهِ السَّلَامُ"، ليعالج الحالة التي وصلوا إليها، من التَّشَبُّث الشديد بذلك الضلال والباطل، الذي- كما قلنا- محميٌ رسمياً، يعني: من السلطة، محميٌ اجتماعياً من ذوي النفوذ، محميٌ بفعل الارتباط الروحي، والوجداني، والنفسي، الناتج عن أساطير وخرافات ربطت المجتمع عقائدياً ووجدانياً بِشِدَّة، وهو مجتمع شديد فيما هو عليه من تَمَسُّكٍ بالباطل.
نبدأ- إن شاء الله- بالمقام المذكور في القرآن الكريم المقام الأول، ضمن مقامات متعددة، فيما ورد في القرآن الكريم في المحاضرة القادمة.
نَسْألُ اللَّهَ "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 03 رمضان 1446هـ 03 مارس 2025م pic.twitter.com/mKOe6W1COx
— الإعلام الحربي اليمني (@MMY1444) March 3, 2025