أول سؤال تبادر إلى ذهني بعد قراءة رواية (ميثاق النساء) للشاعرة اللبنانية حنين الصايغ، كيف كان شعور حنين وهي تكتب هذا النص المشبع بالحزن والمرارة والألم؟ ميثاق النساء رواية نسوية تحكي عن حال المرأة فـي المجتمع الدرزي، هذا ما ستفهمه فـي صفحات الرواية الأولى، ولكنك كلما توغلت فـيها أدركت أنها رواية عن المرأة فـي العالم كله، حيث تصرخ المرأة ولا يسمعها أحد، وتبكي بحثا عن مواساة إلا أنها تُرمى بتهمة الحساسية المفرطة، مما يحرم الإنسان فـيها من عيش حياة كاملة يتمناها ويستحقها.
تحكي لنا الرواية قصة أمل بو نمر، الفتاة المتفوقة دراسيًّا، تلك التي لم تحلم بشيء سوى إكمال دراستها الثانوية ثم الجامعية فـي مجتمع تقليدي مُنغلق، تُربَّى فـيه المرأة لتصبح الزوجة والأم فقط مما يتطلب قمع ذاتها، وإطفاء شعلة أحلامها، وتقبُّل ما يمليه عليها مشايخ الطائفة الدرزية دون تحليل أو نقد. أمل التي تعرف جيدا رفض والدها لفكرة استكمال تعليمها، ترى فـي الزواج بـ«سالم» الشاب الدرزي فرصة لتحقيق حلمها، لذا تضع إكمال تعليمها شرطا لقبول الزواج به، وهو ما سيقبله سالم فـي بداية الأمر؛ رغبة فـي نيل الفتاة الذكية، دون إدراك كلاهما أن الحياة لن تسير كما خططا لها.
تنقلنا حنين الصايغ فـي هذه الرواية بين واقع أمل وعالمها الداخلي حيث تبدأ فـي فهم ذاتها، وإدراك أن الخروج من بيت والدها الشيخ الملتزم بتعاليم الطائفة وقواعدها لم يكن بداية حريتها كما كانت تتوقع؛ لأن الدنيا خبأت لها فـي المنعطف غير المرئي أحداثا جديدة ستكسرها وتُعيد تشكيلها. ففـي الوقت الذي كانت تنتظر فـيه أمل التزام زوجها بالشرط الذي وضعته، صدمها بعد الزواج بشرط إنجاب طفل قبل بدء الدراسة الجامعية، وهكذا أُجبرت أمل على التنقل بين عيادة لأخرى بحثًا عن حل لمشكلة الطفل الذي يرفض التشكل فـي رحمها، مما أشعرها بالانفصال عن جسدها الذي حاولت حمايته من التغيرات الهرمونية والإبر التي تُغرز فـيه غصبًا عنها والفحوصات المستمرة. الأمر الذي أضعف أمل وألقاها فـي بئر الكآبة المظلم، وهو ما سيحدِث شرخًا فـي علاقتها بزوجها، واتخاذها قرار الانفصال مستقبلا، وذلك بعد رحلة طويلة من التأرجح المزاجي، وصراع داخلي مع الذات والزوج والأسرة والمجتمع. حيث صَعُب على أمل التي انطلقت مستندة إلى تعليمها الجامعي ووظيفتها المهنية، العودة إلى القرية الريفـية والقالب الاجتماعي الضيق.
تدخلنا الكاتبة عالم النساء الدروز من خلال حكايات نساء عائلة «بو نمر»، وتكشف لنا مدى ضعف المرأة وغياب صوتها فـي قضايا تخصها. فنرى الجدة التي تُرمى بالطلاق فـي لحظة غضب الجد، مما يحرمها من حياة عرفتها منذ سنوات المراهقة بسبب لحظة غضب ذكورية، فـيجبر الجد على بناء جدار فاصل بينه وبين زوجته نظرا لحرمتها عليه، حيث لا مجال فـي العقيدة الدرزية لعودة بعد طلاق. ذاك الجدار الذي سيتحول بعد أعوام إلى كابوس عالق فـي رأس العمة، فـينتشر صراخها ليلا بين غرف المنزل وتكبُر أمل على سماعه، العمة التي تواجه وجهيّ الجدار كل يوم بحثًا عن إجابات لأسئلة تنهشها داخليا ولا يحق لها مواجهة المشايخ الدرزيين بها. ثم ننتقل إلى نرمين الأخت التي نجحت فـي الابتعاد عن ذاك المجتمع المغلق والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد زواجها بشاب درزي، تكتشف بعد أعوام أن والده يزور الكنيسة مما يدخلها فـي متاهة الخوف من عقاب الآخرة؛ كونها ارتبطت برجل غير مؤمن.
تستعرض الرواية طائفة الدروز، وترينا شكل حياتهم اليومية، وتفاصيلها، ومعتقداتهم، وأعرافهم بأسلوب أدبي جميل، ولغة شعرية آسرة. إنها رواية عن الريف القروي، والحياة الاجتماعية فـي القرية المتوارية فـي الجبل الصعب، المقيدة بالأفكار الدينية المنغلقة، حيث تتداخل الشعائر الدينية بالعادات فتتحول إلى عقبات فـي حياة أبناء الطائفة الدرزية.
لقد عُرف المجتمع الدرزي المنتشر فـي عدد من دول بلاد الشام منذ تأسسه بالتماسك الاجتماعي والثقافـي والسياسي بين أبناء الطائفة. وقد أحاط الدروز أنفسهم منذ تأسس الطائفة بجدار من السرية والغموض. وقرر مؤسسوها التكتم على معتقداتهم، وعدم البوح بأسرارها إلا لقلة من المشايخ بعد بلوغهم الأربعين عاما. ويؤمن الدروز بتناسخ الأرواح، ويحرم لديهم تعدد الزوجات، كما تمنع عودة المرأة لزوجها بعد الطلاق، كما يُعرف عن الدروز تدارسهم للعقيدة الدرزية فـي الخلوات المغلقة حيث لا يدخلها إلا فئة قليلة جدا من مشايخ الطائفة، ولا يسمح بحضور أبناء الطائفة تلك الجلسات أو سماع محتوى الكتب المقدسة لديهم إلا فـي عيد التوحيد الذي يحتفلون به مرة فـي العام.
لقد أجبر التعدد الديني فـي لبنان بالإضافة إلى الظروف السياسية التي مرت به، الدروز على التمسك بعقيدتهم وتشديد السلطة الدينية على أتباعهم؛ نظرا لعدم سماح الطائفة بدخول أفراد جدد إليها، حيث تنتقل العقيدة الدرزية من جيل لآخر فـي العائلات ذاتها المكونة للمجتمع الدرزي منذ نشأته.
وقد أخذت الكاتبة عنوان الرواية من فصل فـي كتاب «رسائل الحكمة» الذي يؤمن به الدروز، بعنوان «ميثاق النساء» يختص بتعاليم لنساء الطائفة.
لقد كان لأسلوب الكاتبة القائم على الاستعارة والمجاز، بالإضافة إلى لغتها الشعرية الجميلة السلسة، وتقنياتها السردية دور فـي إدخال القارئ إلى نفوس شخصيات روايتها. حيث استطاعت حنين الصايغ بأسلوبها المتميز أن تجعلني أعيش حياة شخصياتها الحيّة والحقيقة، وأن أتخبط مثلهم بين الشك واليقين، والهشاشة والقوة، واليأس والأمل. إن تطور شخصيات الرواية وتغيرهم المتزامن مع أحداث الرواية كان أحد عناصر قوة هذا العمل الروائي. ولم يقتصر ذلك على نساء الرواية وإنما شهدته فـي رجالها كذلك. ورغم نهاية الرواية المشرقة، إلا أني وجدت ذاتي منهكة ومتألمة بعد قراءة هذا الكتاب، وكأن كل ما عاشته أمل مَرَّ على قلبي.
صدرت الرواية عن دار الآداب ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2025م.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الطائفة الإنجيلية تناقش تحديات الكنيسة ودورها في المجتمع
افتتح الدكتور القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر، فعاليات لقاء "القيادة" لقسوس الطائفة الإنجيلية، والذي عُقد بالكنيسة الإنجيلية في الأزبكية، بالشراكة مع خدمة tc مصر، وبحضور قيادات الطائفة الإنجيلية وسنودس النيل الإنجيلي، ومشاركة نخبة من القادة والقسوس والخدام، وذلك لمناقشة دور القيادة في ظل التحديات التي تواجه الكنيسة والمجتمع في ظل التحولات العالمية المتسارعة.
تحقيق التنمية الشاملةشهد اللقاء حضور عدد من قيادات الطائفة الإنجيلية، من بينهم الدكتور القس عزت شاكر، رئيس سنودس النيل الإنجيلي، والدكتور القس اسطفانوس زكي، رئيس مجلس المؤسسات التعليمية بسنودس النيل الإنجيلي، والدكتور القس ماجد كرم، الأمين العام لمجلس المؤسسات التعليمية بسنودس النيل الإنجيلي، والقس هاني موسى، راعي الكنيسة الإنجيلية بالأزبكية، والقس طوني رزق، مدير خدمة tc مصر، والقس ايهاب ماهر مسؤل خدمات الكنيسة المحلية في tc مصر، إلى جانب عدد من أعضاء المجلس الإنجيلي العام ورؤساء المذاهب الإنجيلية.
أكد الدكتور القس أندريه زكي، في كلمته، أن القيادة الروحية ليست مجرد منصب إداري، بل هي مسؤولية ورسالة تتطلب وعيًا عميقًا وفهمًا متجددًا لاحتياجات المجتمع. وأشار إلى أن التغيرات السريعة على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، والتكنولوجية تستوجب من القادة الروحيين تطوير مهاراتهم والاستفادة من الوسائل الحديثة لمواكبة هذه التحولات والتأثير الإيجابي في مجتمعاتهم.
وأضاف رئيس الطائفة الإنجيلية أن الكنيسة المحلية، بتاريخها العريق، تتحمل مسؤولية كبيرة في تعزيز قيم المواطنة والتفاعل الإيجابي مع المجتمع، مشددًا على أن الكنيسة بجانب دورها الروحي تلعب دورًا محوريًا في تحقيق التنمية الشاملة ودعم استقرار المجتمع.
كما شدد على أهمية دور وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أن الكنيسة يجب أن تستثمر هذه الأدوات بطرق إبداعية لنقل رسالتها بفاعلية، مع ضرورة التصدي للأفكار المغلوطة التي تستهدف تفكيك المجتمعات.
وتضمن اللقاء عددًا من الجلسات التدريبية والحوارية التي قدمها نخبة من القادة الروحيين والخدام، حيث قدم الدكتور القس عزت شاكر محاضرة حول القيادة الروحية وأثرها في بناء الكنيسة وتعزيز الروابط المجتمعية.
كما يتناول اللقاء أيضًا تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على القيادة الكنسية، حيث يقدم القس بيشوي فيليب، محاضرة عن أهمية توظيف التكنولوجيا لخدمة رسالة الكنيسة.
ويقدم القس أليكس حماية من الولايات المتحدة الأمريكية جلسة حول القيادة المؤثرة ومهارات الإدارة الكنسية، بالإضافة إلى محاضرة يقدمها القس أشرف لطفي عن بناء القائد الروحي وتنمية مهارات القيادة في الخدمة.