الظلم الذكوري باسم الطاعة وبلبوس الشريعة
تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT
لا ينكر عاقلٌ أن المجتمعات التي تعاني من الاستبداد السياسي لا يبقى الاستبداد فيها في إطاره السياسي وممارسة الحكم وإنما يتسرب إلى مفاصل المجتمع ومؤسساته المختلفة السياسية والاجتماعية والتربوية والأهلية، فالاستبداد السياسي إذا ما هيمن على مجتمع من المجتمعات أفرز استبدادًا فكريًّا واستبدادًا اجتماعيًّا.
ومن الطبيعي أن تتم ممارسة الاستبداد من القوي على الضعيف؛ فكما يمارس الحاكم المستبد سلطته على الجماهير التي أقنعها بضعفها وقلة حيلتها، فإن الرجل الذي تعشّش الاستبداد في رأسه يمارس قهره على المرأة والطفل اليتيم الذي فقد سنده البشري بوصفهما الحلقة الأضعف في المجتمع، ولذا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شدد على حق المرأة واليتيم في أي مجتمع لأنهما الحلقة الأضعف فيه لا سيما عند اختلال الموازين الأخلاقية والقيمية للمجتمع وفقدان انتمائه الحقيقي لتعاليم الشريعة الغراء، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجه والنسائي والحاكم بسند صحيح: "إني أحرّجُ عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، جاء في حاشية السندي على ابن ماجه: "أي: أضيّق على الناس في تضييع حقهما، وأشدد عليهم في ذلك، والمقصود إشهاده تعالى في تبليغ ذلك الحكم إليهم، وفي الزوائد: المعنى أحرج عن هذا الإثم بمعنى أن يضيع حقهما، وأحذر من ذلك تحذيرًا بليغًا وأزجرُ عنه زجرًا أكيدًا؛ قاله النووي، قال: وإسناده صحيحٌ رجالُه ثقات".
إعلانوهذا الظلم المجتمعي يلقي بظلاله على مؤسسة الأسرة فيمارسُ شريحةٌ من الآباء والأمهات تعزيز ثقافة الخضوع من خلال الفهم المشوّه لمعنى المرأة في الأسرة ومكانها ومكانتها، فعندما يأتيهم الشاب خاطبًا يأتيه الرد بالموافقة بعبارة "جارية في مطبخكم" أو "خادمة في عائلتكم"، ولئن كانت هذه العبارات يراد بها إيصال رسالة القبول بثوب فيه تحبب وتودّد للخاطب وأهله، غير أنها تستبطن ثقافة مجتمعية ترى المرأة عندما تتزوج تكون جاريةً في المطبخ أو خادمةً في أسرتها الجديدة، وإن الثقافة العامة التي ترى في المرأة ابتداءً جارية في المطبخ أو خادمةً ستفرز بلا شك فهمًا شائهًا لمعنى الطاعة داخل الأسرة يقوم على خضوع الجارية لمالكها والخادمة لسيدها.
ويقع الإشكال الأكبر حين يتم إلباس هذا الفهم المجتمعي المغلوط ثوب الشريعة الإسلامية زورًا، ويتم التأصيل الشرعي له من بعض من عشش في رؤوسهم هذا الظلم المجتمعي وحسبوا أن الشريعة مهمتها تسويغ وتبرير السلوكيات المجتمعية السائدة والأفكار التي تدغدغ نزعة الاستبداد الاجتماعي في نفوس الرجال، فعندها يمارس الأزواج سلطتهم بطريقة مغرقة في الظلم الذكوري متذرعين بوجوب طاعة المرأة زوجها، ملبسين تذرعهم لبوس الشريعة والأحكام الفقهية؛ مما يدفع شريحة من المعانيات من هذا الظلم إلى الربط بين فكرة طاعة الزوج وبين ما تعانيه من قهر وإخضاع فيتصاعد رفضها الداخلي الذي يمكن أن يتحول إلى ثورة سلوكية متجهًا إلى رفض الفكرة من أساسها والتمرد الفكري على أصل المسألة وصولًا إلى التمرد السلوكي على الظلم المُمارس بحقهن، ويستصحبن في هذه المحاولات للتحرر من ظلمٍ حقيقي واقع عليهن قناعاتهن بالتحرر من الحكم الشرعي لأنه استقر في أذهانهن أن هذا الحكم هو سبب ما هن فيه من بلاء وظلم.
يضاف إلى ذلك الضخ الذي تتعرض له المرأة بأن ما تعيشه من ظلم أو معاناة سببه "المجتمع الذكوري" أو "الذكورية" و"النظام الأبوي" أو "البطريركية" مما يقودها إلى التمرد على الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة التي تنتمي لها لأنها تريد أن تخلع ثوب الطاعة الذي ترى فيه سبب البلاء المصبوب عليها صبًّا.
إعلانوهنا يتعاضد الخطاب النسوي الذي يدعو إلى تمرد المرأة على الطاعة مع الخطاب الشرعي المشوّه الذي يسوّغ الظلم الذكوري والذي يمارسه شريحة من الدعاة فيكونان معًا السبب في نفور المرأة من مفهوم طاعة المرأة لزوجها، فيتفقان في النتيجة وإن اختلفا في المدخل إليها وكانا في الظاهر متصارعين لأجل المرأة وصراعهما في الحقيقة عليها لا لها، وللأسف أن هذا الخطاب الذكوري الذي يلبس ثوب الشريعة أدى في ردة فعل غير عقلانية إلى إنتاج خطاب جندري ونسوي يتم إلباسه ثوب الشريعة زورًا وبهتانًا، وكلا الخطابين يسيء إلى الشريعة الغراء قبل أن يسيء للمرأة ويظلمها بصورتين متقابلتين؛ ظلم الإخضاع وظلم التفلّت.
ومما تجب ملاحظته أيضًا أن الخطاب النسوي الذي تحول إلى صورة استبدادية في الغرب كما هو الخطاب الذكوري في بعض المجتمعات الإسلامية بدأ يجعل شرائح من المجتمع تشعر أن غياب قدرة الرجال على تحمل المسؤوليات داخل الأسرة وغياب مفهوم الطاعة بوصفه جزءًا من تحمل المسؤولية ينذر بخطر كبير بحق المجتمعات، ومن ذلك ما ذكرته عالمة النفس هيلين سميث في كتابها "الرجال في إضراب"، إذ ترى سميث أن النسوية تؤدي بشكل عام إلى ترسيخ قناعات عند شرائح واسعة من الرجال بأن العالم مناهض لفكرة الذكورة من الأساس، مما يُحدث ردة فعلٍ عند هؤلاء الرجال يدفع أغلبهم إلى العزوف عن الدراسة الجامعية وعن العمل، كما يدفعهم إلى تجنب الزواج بمعدلات عالية تنذر بالخطر، وسبب قيامهم بذلك لأنهم يرون أن المجتمع لا يقدم لهم الفرص حتى يكونوا أزواجًا وآباءً لهم قيمتهم داخل الأسرة ومتحملين للمسؤولية، وهذه القناعات تجعلهم يخوضون إضرابًا إما بوعي أو بغير وعي، لأنهم لا يريدون أن يصابوا بأذى أو تهميش أو تمييز بسبب عدد لا يحصى من القوانين والمواقف التي باتت تدعم النساء أكثر من الرجال.
إعلانوكذلك ذهبت الكاتبة الأميركية كريستينا هوف سومرز في كتابها "الحرب ضد الأولاد" إلى أن النظام التعليمي في الولايات المتحدة الأميركية يقوم أساسًا على التمييز بين الإناث والذكور لمصلحة الإناث، فالنظام التعليمي المدرسي يدعم الفتيات أكثر من الأولاد وينتصر لهن عليهم، وهذا الأمر الذي ينذر بالتأثير السلبي على مستقبلهم كما ترى الكاتبة.
فالتلاعب بالمفاهيم الأسرية ومن أهمها مفهوم طاعة المرأة لزوجها لا ينذر بخطر على المجتمعات الإسلامية فحسب بل إن الأصوات بدأت تتعالى في الغرب اليوم للتحذير من فقدان الرجال مسؤولياتهم داخل بيوتهم وأسرهم.
وهنا لا بد من بيان أن مجابهة الظلم الذكوري للمرأة لا سيما إن كان بلبوس الخطاب الشرعي يبدأ من تحرير المجتمعات من الاستبداد السياسي الذي هو رأس الشرور كلها، ومن ثم تحرير الخطاب الشرعي من النزعات الذكورية الطاغية في بعض المجتمعات، وتحرير الخطاب الشرعي من هذه الذكورية لا يكون على الإطلاق بإلباسه ثوب النسوية والجندرية لأننا بهذا ننزع عنه ثوب ظلمٍ قاتم للمرأة لنلبسه ثوب ظلم آخر لها لا يختلف عن الثوب الأول إلا في أنه مزركش وألوانه تسرّ بعض الناظرين.
إنما المراد إعادة الخطاب الشرعي إلى أصالته الأولى التي ترى المرأة والرجل متساويين في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف في إعمار الكون والاستخلاف في الأرض، ثم تأتي الاختلافات بينهما في توزيع الأدوار التنفيذية والتخصصات العملية التطبيقية، وطاعة المرأة زوجها داخل الأسرة هي عملية ضبط إداري داخل مؤسسة تعد الأخطر في تأسيس المجتمع البشري ولا يمكن أن تقوم أي مؤسسة بدورها فضلًا عن أن تنجح في أداء مهمتها دون الضبط الإداري داخلها، فهي ليست ميزة بنيوية للرجل على المرأة ولا تفضيلًا له بوصفه ذكرًا، كما أنها ليست تفضيلًا له في المكانة، فقد يكون الوالي أو الحاكم في بيئة ما حاكمًا على من هو أعلى منه قدرًا وأرفع منه مكانة وتلزمهم طاعته، ألم يكن في جيش أسامة الذي كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمارة الجيش كبار الصحابة؟! وكان يلزمهم طاعته وهم أعلى منه قدرًا في الإسلام وأكبر منه مكانة وأسبق منه فضلًا وأقدم منه إسلامًا، ولم يكن يرى أي واحد من هؤلاء في طاعته لأسامة رضي الله عنه منقصة له أو خضوعًا غير عادل.
إعلانوكما أن أي مؤسسة لا يمكن أن يستقيم أمرها من دون ضبط إداري وطاعة المسؤول فيها لتسير نحو النجاح فإن الأسرة التي هي أخطر المؤسسات في البناء الإنساني أولى المؤسسات بسنّ القوانين التي تحقق درجة عالية من الانضباط الذي يتيح لكل أفرادها القيام بمسؤولياتهم بما يحقق للمؤسسة الريادة والنجاح.
المرأة لم تكن يومًا خادمة في مطبخها أو جارية عند زوجها بل هي معه في مسؤوليته عن الرعاية والبناء يدًا بيد كما نصّ الصادق المصدوق عليه والصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري في صحيحه: "والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها"، وطاعة المرأة زوجَها فرع عن هذه المسؤولية المشتركة وسبيل من سبل قيامها بواجباتها في بيتها على أتمّ وجه يحقق مهمتها في هذا الكون التي تشترك فيها مع الرجل إعمارًا واستخلافًا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان الخطاب الشرعی داخل الأسرة طاعة المرأة
إقرأ أيضاً:
بين الدين والرأسمالية: كيف تَصنع الأنظمة القمعية «المَاعِز الأليف»؟
بين الدين والرأسمالية: كيف تَصنع الأنظمة القمعية «المَاعِز الأليف»؟
إبراهيم برسي
في عالم تُمارَس فيه الهيمنة ليس فقط عبر العنف المباشر، بل من خلال تشكيل الوعي ذاته، يصبح السؤال الأساسي: كيف تُنتج الأنظمة القمعية الطاعة، ليس فقط كحالة مفروضة بالقوة، بل كشيء يُستبطن في النفوس؟
إن الطاغية لا يُولد، بل يُصنع، كما أن الجماهير لا تُقمع، بل تُروّض.
في فضاء الهيمنة، لا تُفرض السيطرة بالحديد والنار فحسب، بل عبر منظومة سرديات تتسلل إلى الوعي، تعيد تشكيل الإدراك، وتحكم تصور الذات في علاقتها بالسلطة. ليست المسألة، إذن، مجرد قمع مباشر، بل هندسة للخضوع، حيث لا يكتفي النظام بفرض الطاعة، بل يعمل على جعلها جزءًا من بنية التفكير، بحيث يبدو التمرد عبثًا، والخضوع ضرورة.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي لا يحتاج إلى سياط الجلاد كي يركع، بل يركع طوعًا، ويدافع عن قيوده باعتبارها أمانًا، ويرى في الطغيان قدرًا لا مفر منه.
هذه الصناعة لا تتم من فراغ، بل عبر منظومة متكاملة من الأدوات التي تعمل على قولبة الإنسان منذ طفولته. ومن بين هذه الأدوات يأتي الدين، حين يتحول من تجربة روحية إلى أداة ضبط تُعيد إنتاج الطاعة، وتقدمها كفضيلة مطلقة.
فالمواطن المُطيع ليس مجرد شخص يخضع لسلطة الأمر الواقع، بل هو كائن تم تشكيله بحيث لا يرى في نفسه سوى انعكاس لما يُملى عليه، عاجز عن التخيّل خارج حدود السرديات المفروضة عليه.
وليست هذه الحالة طبيعية، بل يتم إنتاجها عبر خطاب ديني يُقدّم الطاعة كمبدأ مطلق، حيث يُعاد تفسير النصوص الدينية لتُنتج إنسانًا خاضعًا، يرى في أي محاولة للخروج عن النظام القائم تمردًا على “الإرادة الإلهية”.
وهكذا، لا يعود الدين وسيلة للتحرر الروحي، بل يتحول إلى قيد يُكبّل الفرد، حيث يتم غرس فكرة أن “كل سلطة هي من عند الله”، وأن مواجهة الظلم قد تعني الوقوع في الفتنة، وكأن العبودية أكثر أمانًا من الحرية!
وليس هذا بالأمر الجديد؛ فقد دعمت الكنيسة الكاثوليكية طغيان الملوك بوصفهم “ظل الله على الأرض”، كما استُخدمت فتاوى الطاعة في بعض البلدان الإسلامية لترسيخ مقولة أن الحاكم لا يُسأل عما يفعل، مما جعل التمرد يبدو كفرًا، والخضوع ضربًا من التقوى.
وهكذا، يصبح الظلم مشيئة إلهية، ويُعاد تأويل الاستبداد كاختبار للصبر، لا كحالة يجب تفكيكها. وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في الطغيان مشيئة إلهية، وفي الفقر امتحانًا، وفي الجوع نعمة، وفي الحرية خطرًا على الاستقرار!
لكن الأمر لا يتوقف عند التوظيف الديني فقط، بل يمتد ليشمل بُعدًا نفسيًا أكثر تعقيدًا، حيث يصبح الطغيان ذاته مصدرًا للراحة.
يذكر إريك فروم، في كتابه الخوف من الحرية، أن كثيرين يهربون من الحرية، لا لأنهم يحبون الطغيان، بل لأن الحرية نفسها مخيفة؛ إنها مسؤولية، عبء ثقيل يتطلب قدرة على اتخاذ القرار ومواجهة العواقب.
وهكذا، يُصبح الفرد الذي يخضع باسم الدين ليس مجرد ضحية، بل شريكًا في استدامة النظام الذي يقهره. حينها، لا يحتاج النظام القمعي إلى استخدام العنف المفرط، فالجمهور نفسه يصبح حارسًا للقمع، يراقب نفسه بنفسه، ويفرض على الآخرين ذات القيود التي كُبّل بها.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يخاف من الحرية أكثر مما يخاف من سجّانه!
وبينما تعمل الأنظمة القمعية على تكييف الدين ليناسب أهدافها، فإن الرأسمالية تُكمل هذا الدور من زاوية أخرى، حيث لا تُشكّل فقط نظامًا اقتصاديًا، بل تتحول إلى ماكينة ضخمة لإنتاج الوعي المشوّه، وخلق إنسان يرى نفسه في حدود ما يستهلكه.
مارك فيشر، في كتابه الواقعية الرأسمالية، يشير إلى أن أحد أخطر أشكال الهيمنة هو جعل أي بديل غير قابل للتخيّل؛ حيث يُقدَّم النظام القائم وكأنه “الطبيعة الثانية”، وكأن أي محاولة للخروج منه ليست فقط مستحيلة، بل غير منطقية.
في هذه الحالة، يتحول الإنسان إلى مستهلك سلبي، لا يرى في نفسه سوى رقم في معادلة العرض والطلب، فاقدًا للقدرة على التفكير في ذاته كفاعل سياسي، وكشخص يمكن أن يُعيد تشكيل الواقع.
يُختزل وجوده إلى كونه ترسًا في ماكينة الإنتاج والاستهلاك، يقيس نجاحه بعدد الأشياء التي يمتلكها، لا بقدرته على التأثير في مجتمعه. وهكذا، يصبح التسوق شكلًا من أشكال الحرية الزائفة، ويتحول الدين إلى سلعة، والهوية إلى ماركة، والفكر إلى إعلان تجاري.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الفرد الذي يرى في التسوق حرية، وفي تراكم الديون طموحًا، وفي نجاحه الفردي تعويضًا عن فشل مجتمعه بأكمله!
ولأن هذه السيطرة لا يمكن أن تُترك للصدفة، فإن النظام يحتاج إلى آليات مؤسسية لترسيخها، وأبرزها التعليم والإعلام.
فمنذ الطفولة، يُقال للطفل: “الكبير لا يُناقش”، وحين يكبر، يتعلم أن “الحاكم لا يُسأل عما يفعل”. وهكذا، يتحول الخضوع إلى قيمة متوارثة، يُنقل من جيل إلى جيل، حتى يصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي نفسه.
أما الإعلام، فإنه لا يُعنى بإيصال الحقيقة، بل بإنتاج الحقيقة، أو بالأحرى، إنتاج نسخة واحدة منها، نسخة تخدم القائمين على السلطة.
يصبح الإعلام سلاحًا، لا لقمع المعارضين فحسب، بل لمنع إمكانية تخيّل عالم مختلف. يتحول إلى آلة دعائية تعمل على تطبيع الظلم، وإعادة إنتاجه في صورة قدر لا يُرد، أو “واقع لا يمكن تغييره”.
وهكذا تتم صناعة “الماعز الأليف”، الكائن الذي يستهلك الأخبار كما يستهلك البضائع، يصدق كل ما يُقال له، ويردد الخطاب الرسمي وكأنه وحي!
إن إدراك العطب هو الخطوة الأولى في مقاومته، إذ أن النظام لا يسقط عندما يشتد قمعه، بل عندما يُسائل الناس شرعيته.
وكما قال فرانز فانون: “كل جيل يجب أن يكتشف مهمته، إما أن ينجزها أو يخونها”.
غير أن المقاومة لا تبدأ فقط من التمرد المسلح أو المواجهة المباشرة، بل من تفكيك منظومة الهيمنة في الفكر والسلوك، من مساءلة الخطابات التي تجعل الطاعة تبدو طبيعية، من إعادة تعريف الممكن، من فهم أن ما يبدو ثابتًا ليس إلا توافقًا مؤقتًا بين القوة والخضوع.
إن أخطر ما في الهيمنة ليس فقط أنها تقمع، بل أنها تجعلنا نحب قيودنا، نخاف من فقدانها، نرى في الطاعة خلاصًا من قلق الحرية.
لكن “الماعز الأليف” ليس قدرًا محتومًا، بل خيار يمكن كسره، شرط أن نجرؤ على إعادة اختراع ذواتنا من جديد!
الوسومإبراهيم برسي إريك فروم الأنظمة القمعية الاستبداد الحرية الدين الرأسمالية الماعز الأليف