عربي21:
2025-03-05@18:49:24 GMT

أمريكا أولا والانقلاب الكبير في العلاقات الدولية

تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT

إن منطق «أمريكا أولاً» الذي تبنّاه التيار النيوفاشي الأمريكي المعروف باسم «ماغا» ـ وهي التسمية الأوائلية الإنكليزية لشعار حملة دونالد ترامب المعروف: «اجعل أمريكا عظيمة من جديد» ـ قد يبدو عقلانياً لمن لا دراية له في التاريخ الاقتصادي للعلاقات الدولية.

فحسب ترامب وأتباعه، أنفقت أمريكا أموالاً طائلة في حماية حلفائها، على الأخص الدول الغنية بينهم، أي دول الغرب الجيوسياسي (أوروبا واليابان بوجه خاص) والدول النفطية العربية الخليجية.

وقد حان وقت تسديد الديون: فعلى كافة هذه الدول أن تسدد الفاتورة بتصعيد استثماراتها في الولايات المتحدة ومشترياتها منها، لاسيما مشترياتها من السلاح (وهو ما يقصده ترامب بضغطه المستمر على الأوروبيين كي يزيدوا نفقاتهم العسكرية). ويندرج هذا كله بصورة طبيعية في المنطق الاتجاري (المركنتيلي) المنسجم مع التعصّب القومي المميّز للأيديولوجيا النيوفاشية (أنظر «عصر الفاشية الجديدة وبما يتميّز» القدس العربي، 04/02/2025).

هكذا، يبدو وكأن الإنفاق العسكري الأمريكي الذي فاق حقاً ليس إنفاق حلفاء أمريكا وحسب، بل كاد يعادل في وقت ما إنفاق كافة دول العالم الأخرى مجتمعة، إنما هو تضحية كبرى لصالح الغير. وحسب المنطق ذاته، يبدو العجز الكبير في الميزان التجاري الأمريكي وكأنه ناجم عن استغلال الآخرين لطيب خاطر الولايات المتحدة، بحيث يودّ ترامب تقليصه بفرض الرسوم الجمركية على كافة الدول التي تصدّر إلى أمريكا أكثر مما تستورد منها. وهو بذلك يريد أيضاً زيادة مدخول الدولة الفدرالية تعويضاً عن إنقاصه له بفعل تقليص الضرائب على الأغنياء وعلى الرأسمال الأمريكي.
عاشت الولايات المتحدة، ولا تزال، فوق امكانيتها الخاصة بكثير، الأمر الذي ينجلي في حجم عجزها التجاري
أما الحقيقة التاريخية فمغايرة تماماً لهذا التصوير المبسطّ للأمور. أولاً، كانت النفقات العسكرية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تزال، عاملاً رئيسياً في الدينامية الخاصة بالاقتصاد الرأسمالي الأمريكي، الذي استند مذّاك إلى «اقتصاد حربي دائم» (ثمة شرح مستفيض لهذا الموضوع في كتابي «الحرب الباردة الجديدة: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، من كوسوفو إلى أوكرانيا» درا الساقي، 2024). وقد لعبت النفقات العسكرية، ولا تزال، دوراً كبيراً في ضبط مسار الاقتصاد الأمريكي وفي تمويل البحث والتطوير التكنولوجيين (كان هذا الدور الأخير بارزاً في الثورة المعلوماتية، وهو الحقل الذي أعاد أمريكا إلى الصدارة التكنولوجية بعد الأفول النسبي لصناعاتها التقليدية).

ثانياً، اندرجت الحماية العسكرية التي وفّرتها الولايات المتحدة لحليفاتها في أوروبا واليابان وللدول العربية الخليجية في علاقات من الطراز الاقطاعي، حيث قدّمت هذه الدول للسيد الاقطاعي الأمريكي امتيازات اقتصادية جمّة، فضلاً عن مشاركتها في المنظومة العسكرية التي حصر إدارتها بين يديه. فالحقيقة مناقضة كلياً لتصوير ترامب وأعوانه لعلاقات الولايات المتحدة بحليفاتها وكأنها قائمة على استغلال هؤلاء لها. فإن الواقع هو العكس تماماً، إذ فرضت على حليفاتها، لاسيما على الدول الغنية بينها، نمطاً من العلاقات الاقتصادية استغلتها من خلاله، وعلى الأخص من خلال فرضها لدولارها كعملة دولية، بحيث موّلت الدول الحليفة بصورة مباشرة وغير مباشرة العجز في الميزان التجاري الأمريكي وفي ميزانية الدولة الفدرالية. وقد عادت باستمرار دولارات العجز التجاري الأمريكي، ومعها موارد شتى البلدان بالدولار، تنضخّ في الاقتصاد الأمريكي، بعضها في تمويل الخزينة الأمريكية مباشرة.


هكذا عاشت الولايات المتحدة، ولا تزال، فوق امكانيتها الخاصة بكثير، الأمر الذي ينجلي في حجم عجزها التجاري الذي ناهز ألف مليار دولار في العام المنصرم وحجم مديونيتها الهائل الذي يزيد عن 36 ألف مليار دولار، بما يساوي 125 في المئة من ناتجها المحلّي الإجمالي. فالولايات المتحدة هي النموذج الأعلى للمستدين الكبير والقوي الذي يعيش على نفقة الدائن الثري في علاقة سيادة للأول على الثاني، بدل أن يكون العكس.

وحتى إزاء أوكرانيا، فإن ما قدّمته الولايات المتحدة لذلك البلد حتى الآن، ويبلغ 125 مليار دولار (بعيداً عن أرقام ترامب الخيالية، حيث يدّعي أن بلاده أنفقت 500 مليار دولار في هذا الصدد) يعادل ما قدّمه الاتحاد الأوروبي وحده (والحال أن الناتج المحلّي الإجمالي الأوروبي أقل من الأمريكي بحوالي 30 في المئة) فضلاً عمّا قدّمته بريطانيا وكندا وسواهما من حليفات أمريكا التقليدية. والحقيقة أن ما أنفقته الولايات المتحدة في تمويل مجهود الأوكرانيين الحربي خدم سياستها الرامية إلى إضعاف روسيا بوصفها منافِسة إمبراطورية لها. ذلك أن واشنطن هي المسؤولة الأولى عن صنع الظروف التي يسّرت التحوّل النيوفاشي في روسيا وأدّت إلى غزو جارتها، إذ تعمّدت تسعير العداء لروسيا وللصين بعد الحرب الباردة من أجل توطيد تبعية أوروبا واليابان لها.

لكن عندما يقرّ ترامب وفريقه بمسؤولية الإدارات الأمريكية السابقة فيما آل إلى غزو روسيا لأوكرانيا، لا يفعلون ذلك حباً للسلام كما يزعمون نفاقاً (وموقفهم من فلسطين خير دليل على نفاقهم) بل في سياق انتقالهم من اعتبار روسيا دولة إمبريالية منافِسة، وهو النهج الذي اتبعته واشنطن بصورة متصاعدة الحدّة منذ تسعينيات القرن الماضي بالرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي وعودة روسيا إلى حظيرة النظام الرأسمالي العالمي، انتقالهم من ذلك إلى اعتبار حكم بوتين شريكاً لهم في النيوفاشية، يتطلعون إلى التعاون معه في تعزيز تيار أقصى اليمين في القارة الأوروبية والعالم، فضلاً عن الاستفادة من السوق الكبيرة والموارد الطبيعية العظيمة التي لدى روسيا. وحيث يرون في الحكومات الليبرالية الأوروبية خصماً أيديولوجياً ومنافِساً اقتصادياً في الوقت نفسه، يرون في روسيا دولة حليفة أيديولوجياً ليس بوسعها منافستهم اقتصادياً.

أما الصين فهي في نظر ترامب وفريقه الخصم السياسي والمنافس الاقتصادي والتكنولوجي الأعظمين، وقد جارى هذا النهج الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بحيث أرسى تواصلاً بين ولايتي ترامب الأولى والثانية في موضوع العداء للصين. وإذ يتمنّى فريق ترامب فصل موسكو عن بيجين، مثلما انفصلت الصين عن الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي وتحالفت مع الولايات المتحدة، لن يغامر بوتين بولوج هذا الدرب ما دام ليس متأكداً من ثبات الفريق النيوفاشي الأمريكي في إدارة بلاده.

والسؤال الكبير الآن هو إذا ما كان المحور الليبرالي الأوروبي مستعداً حقاً للسير على درب التحرر من الوصاية الأمريكية، الأمر الذي يتطلّب وقف مجاراته لواشنطن في مخاصمة الصين وتوطيده لعلاقات تعاون معها. كما يقتضي هذا الأمر استعداد الدول الأوروبية للعمل بالقانون الدولي والمساهمة في تعزيز دور الأمم المتحدة وسائر المؤسسات الدولية، وهما أمران لا تنفك بيجين تنادي بهما.

وبالطبع فإن مصلحة أوروبا الاقتصادية لجلية في هذا الصدد، لاسيما مصلحة أكبر اقتصاد أوروبي، ألا وهو الاقتصاد الألماني الذي تربطه بالصين علاقات كثيفة. وتضاف إلى الصورة المفارقة التي تتمثل في أن الصين باتت تلتقي مع الأوروبيين في الدفاع عن حرية التجارة العالمية في وجه النهج الاتجاري الذي اعتمده ترامب وفريقه، كما تلتقي معهم في الدفاع عن السياسات البيئوية في وجه نقضها المصحوب بإنكار التغير المناخي الذي يميّز شتى النيوفاشيين. فإن المواقف الحادة التي أعرب عنها رئيس الوزراء الألماني القادم، فريدرش ميرتس، في نقده لواشنطن ودعوته إلى استقلال أوروبا عن أمريكا، لو تجلّت في سعي فعلي لسلوك هذا الدرب، قد تنعكس في موقف الاتحاد الأوروبي من الصين، لاسيما أن الموقف الفرنسي مائل في الاتجاه ذاته.

كل هذه الأمور تؤكد احتضار النظام الليبرالي الأطلسي ودخول العالم في مرحلة عاصفة من خلط للأوراق، لا زلنا في بدايتها. وسوف يكون لانتخابات الكونغرس الأمريكي في العام القادم، دور كبير في دفع هذه السيرورة إلى الأمام أو كبحها، حسب ما تؤدي إليه من تمتين للهيمنة النيوفاشية على المؤسسات الأمريكية أو إضعافها. هذا وقد بدأ التيار النيوفاشي الأمريكي يقلّد أمثاله في دول شتى من العالم في قضم تدريجي للديمقراطية الانتخابية ووضع اليد على مؤسسات الدولة الأمريكية سعياً وراء إدامة تحكمه بها.

المصدر: القدس العربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب الولايات المتحدة روسيا الصين الولايات المتحدة الصين روسيا ترامب مقالات مقالات مقالات من هنا وهناك سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة ملیار دولار ولا تزال

إقرأ أيضاً:

ترامب: الولايات المتحدة بدأت في استعادة قناة بنما

قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليوم الأربعاء إن الولايات المتحدة بدأت في استعادة قناة بنما بعد اتفاق مع شركة هونج كونج لبيع موانئ إلى اتحاد تقوده الولايات المتحدة.

وقال ترامب في خطاب أمام الكونجرس: "من أجل تعزيز أمننا القومي بشكل أكبر، ستستعيد إدارتي قناة بنما، وقد بدأنا بالفعل في القيام بذلك. نحن نستعيدها"، بحسب ما أوردته وكالة فرانس برس.

وفي سياق آخر، شنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليوم الأربعاء، هجومًا لاذعًا على الرئيس السابق جو بايدن، واصفًا إياه بأنه "أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة".

وخلال خطابه أمام الكونجرس، أكد ترامب أنه ورث من إدارة بايدن كارثة اقتصادية، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تعاني من أسوأ موجة تضخم في تاريخها نتيجة سياسات بايدن.

وأضاف ترامب أنه انسحب من منظمة الصحة العالمية، التي وصفها بـ"الفاسدة"، وأوقف العمل بالخطة الخضراء التي كانت تُكلف البلاد تريليونات الدولارات، فضلًا عن إنهاء عمليات الرقابة الحكومية لضمان حرية التعبير.

وفيما يخص الأزمة الأوكرانية، أوضح ترامب أن واشنطن أرسلت مئات المليارات من الدولارات لدعم كييف، مؤكدًا في الوقت ذاته أنه يسعى إلى إنهاء الصراع في أوكرانيا.

كما أشار ترامب إلى أنه سيكمل أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة، مؤكدًا تحقيق أقل عدد من المهاجرين غير الشرعيين على الإطلاق خلال فترة إدارته.

ولفت إلى أن إدارته أطلقت أوسع حملة لضبط الحدود، مع وعود بخلق فرص عمل غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

مقالات مشابهة

  • أشرف سنجر: أمريكا تدنو من "العزلة الدولية"
  • متحدثة باسم الحكومة الفرنسية: نحاول إرجاع العلاقات لمجاريها بين أمريكا وأوكرانيا
  • أمريكا ترفض خطة إعادة إعمار غزة التي اعتمدتها قمة القاهرة
  • ترامب: الولايات المتحدة بدأت في استعادة قناة بنما
  • تعليق الدعم الأمريكي يوقف أنشطة المنظمة الدولية للهجرة بالمغرب
  • الكرملين: تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة يتطلب رفع العقوبات عن موسكو
  • ترامب يبحث ملف المساعدات.. وروسيا تشدد مواقفها.. مساع أوكرانية – أوروبية لإصلاح العلاقات مع أمريكا
  • ترامب: أمريكا لن تتسامح مع زيلينسكي وأوروبا لا تستطيع دعم أوكرانيا دون الولايات المتحدة
  • بِحُجة الظلم الذي تتعرض له إسرائيل .. تل أبيب وواشنطن تدرسان رسميًا الانسحاب من محكمة العدل الدولية