يصعب أن يدرس أحد تاريخ صحافة الكفاح الوطني في العالم العربي، ويتغافل عن هذه الشابة التي كانت قبل قرن من الزمان رائدة في أشياء كثيرة، التعليم والعمل والصحافة والعمل الاجتماعي والنضال السياسي والأدب والثقافة، ونحن نتناولها هنا باعتبارها أول امرأة خاضت "معارك صحفية" من أجل تحرير المرأة على أسس غير تغريبية، وأول امرأة تقود العمل الخيري والأهلي والنسائي في معارك مواجهة الاحتلال.

كانت في الـ23 من عمرها عندما وقفت تدعو شعب مصر للثورة ضد الاحتلال البريطاني. إنها ملك حفني ناصف، أو "باحثة البادية"، وهو الاسم الذي كانت توقع به مقالاتها في جريدة "الجريدة"، وقد وقفت تنشد قصيدة تخاطب فيها شعب مصر فتقول:

ماذا تقولون في ضيم يراد بكم … حتى كأنكم الأوتاد والحجر

ستسلبون غدًا أولى نفائسكم … حرية ضاع في تحصيلها العمر

حرية طالما منوا بها كذبًا … على بني النيل في الآفاق وافتخروا

كانت ملك حفني ناصف أول فتاة مصرية تحصل على شهادة الابتدائية عام 1900، ثم واصلت دراستها لتحصل على شهادة مدرسة المعلمات عام 1905. عملت مدرسة في المدرسة السنية، ثم تزوجت في عام 1907 من أحد أعيان الفيوم، (شيخ العرب عبد الستار الباسل)، شيخ قبيلة رمَّان، وهو شقيق حمد الباسل عضو الوفد المصري الذي قام بدور مهم في ثورة 1919.

عانت في حياتها القصيرة من ضغوط المجتمع عليها كامرأة ولا سيما وقد حرمت من الإنجاب، كما عاشت معاناة الشعب المصري الذي كان يبحث عن ذاته وسط تيارات فكرية وسياسية من الشرق والغرب واحتلال يرزح على أنفاسه، فأخذت تكتب عن قضايا المرأة والإصلاح الاجتماعي. اختارت اسم "باحثة البادية" نسبة إلى بادية الفيوم التي عشقتها.

كانت جريدة "الجريدة" تؤيد الاحتلال البريطاني لمصر، وتدعو للتعاون معه، وتعارض الحركة الوطنية التي تطالب بالجلاء والاستقلال. لكن ملك حفني ناصف كان لها رأي آخر، فكانت تؤمن بضرورة استقلال مصر وحرية شعبها، فخاضت في ذلك معارك صحفية تعارض فيها توجهات الجريدة التي تكتب فيها وكتابها.

على صفحات "الجريدة" دار حوار بين المثقفين التنويريين، الذين يطالبون بتقليد الغرب، ويرون المرأة المصرية في حالة خصومة مع الرجل، ويرغبون في تغيير عاداتها وثقافتها. وكان قاسم أمين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى من أهم قادة هذا التيار، لكن "باحثة البادية" (وهو الاسم الذي كانت توقع به سلسلتها المسماة نسائيات) كانت ترفض في مقالاتها هذا الاتجاه التغريبي، فتقول مثلا: "إذا لم نستطع التمييز بين ما هو جديد ومفيد من ما هو قديم وضار، فسوف نقبل كل ما يأتي من الغرب دون تمحيص… وإذا أردنا أن نكون أمة حية تحتم علينا ألا نقتبس من حضارات الغرب إلا ما يخدم مصالحنا بعد تأصيله، حتى يتوافق مع عاداتنا وظروف بلادنا، ولا يجوز في سبيل التطور والانفتاح أن نذوب في الغرب، فنفقد هويتنا وثقافتنا".

رؤية جديدة ترتبط بالهوية

في ضوء ذلك يمكن أن نفهم رؤية "باحثة البادية" المتميزة لتحرير المرأة، فهي ترفض تصوير المثقفين التنويريين للمرأة بأنها في خصومة مع الرجل، وتطالب بتحرير المرأة دون تقليد الغرب. وتطالب ببناء الوعي السياسي للمرأة، لكي تقوم بدورها الوطني بجانب الرجل. فكانت تريد حرية الشعب كله برجاله ونسائه، وكانت تريد أن تقوم المرأة بدورها في الكفاح لتحقيق الهدف الأساسي وهو الجلاء والاستقلال. وكانت متأثرة في ذلك بالاتجاه الإصلاحي للشيخ محمد عبده، وتربط بوعي بين الهوية، والإصلاح الاجتماعي، والتربية والتعليم.

واحتل تعليم المرأة مكانة متميزة في رؤية ملك حفني ناصف، فالوسيلة الوحيدة لتحرير المرأة هو تعليمها. لذلك طالبت بأن يكون التعليم إجباريًا للفتيات، وحثت أغنياء الأمة على تعليم الفقيرات من بنات الأمة. وكان أهم ما يشغلها هو حق المرأة في التعليم، وقد قدمت في مقالاتها 10 مبادئ للإصلاح، أهمها تعليم البنات الدين الصحيح أي تعاليم القرآن والسنة الصحيحة، وفتح المجال لتعليم البنات في المدارس الابتدائية والثانوية، وإعطائهن فرصة للالتحاق بالجامعات والمعاهد العليا، وإشراكهن في المجالس التشريعية والسياسية، وإزالة كل العادات والتقاليد التي تحد من حريتهن وكرامتهن.

وكانت تؤكد أن تعليم المرأة يخدم مصلحة الأسرة والمجتمع، فهي تقول: "إذا كان التعليم هو أساس الحضارة فإن تعليم المرأة هو أساس التعليم… فهي التي تولد الأجيال وتربيها على مبادئ الخير والشر… فإذا كانت جاهلة فلا يستطيع أن يخرج من بطنها إلا جاهلا… وإذا كانت عالمة فلا يستطيع أن يخرج من بطنها إلا عالما".

كانت ملك حفني ناصف تسبح وحدها ضد التيار في جريدة "الجريدة"، ولكن هذا الصوت المميز منح الصحيفة ثراء ورواجا، وجعل لها حضورا مميزا في الساحة الثقافية، ولذلك فإن رئيس تحريرها الدكتور أحمد لطفي السيد -وقد كان من دعاة التغريب كما أسلفنا- جمع مقالاتها المنشورة في كتاب عنوانه "النسائيات" كتب مقدمته بنفسه، وطبع في مطبعة "الجريدة" عام 1910، وكان واضحا أن أفكارها المعتدلة في قضية تحرير المرأة أقوى تأثيرا في المجتمع المصري من تأثير المثقفين المتغربين.

نشاط هددها بالنفي

ولم تكتف ملك بالكتابة فقط، بل بدأت في إنشاء المدارس على نفقتها الخاصة لتعليم الفتيات، ثم أنشأت اتحادًا للنساء، كانت توجه النساء فيه إلى معرفة حقوقهن مع الالتزام بالدين الإسلامي. كان اسم اتحادها "اتحاد نساء مصر"، وهدفه "إزالة جوانب التخلف من حول المرأة المصرية، وإظهار قوتها وقدرتها على العمل والإنتاج". وكانت تنظم محاضرات وندوات ومسابقات ثقافية للنساء، وتشجعهن على المشاركة في الحياة العامة. كما كانت تدافع عن حقوق المرأة في الطلاق والميراث والحجاب، وتناهض الزواج المبكر والختان والعنف الأسري.

وهي لم تكن مجرد صحفية أو ناشطة اجتماعية، بل كانت أيضًا شاعرة وروائية. كتبت قصائد تحمل رسائل وطنية وإصلاحية، وألفت روايات تصور حياة المرأة في البادية والمدينة. من أشهر قصائدها "الأمل"، ومن أشهر رواياتها "البادية"، التي تروي قصة حب بين شاب من البادية يدعى عبد الستار، وفتاة من المدينة تدعى ملك. كانت هذه الرواية تعبر عن تجربتها الشخصية في الزواج من عبد الستار الباسل.

وفي معترك السياسة، كان لها أيضا مساحة مهمة من النشاط، فقد أنشأت "جمعية التمريض" التي تحولت بعد ذلك إلى جمعية "الهلال الأحمر"، واستخدمت هذه الجمعية في جمع تبرعات لضحايا العدوان الإيطالي على ليبيا، وجندت جهود فتيات الفيوم لإنتاج ملابس عسكرية للمجاهدين الليبيين، وحاكت بنفسها 100 بدلة، وبسبب ذلك، ناقشت سلطات الاحتلال قرارًا بنفيها من مصر، لكن تم التراجع عن هذا القرار خوفًا من رد فعل الشعب المصري، ولا سيما البدو في الفيوم.

في رثاء "باحثة البادية"

عاشت ملك حياة قصيرة، فقد أصيبت بالحمى الإسبانية وفارقت الحياة في العام 2018، وقد كانت صديقة لكثير من المثقفين والأدباء في مصر، مثل محمد حسين هيكل وحافظ إبراهيم ومي زيادة، فلما ماتت كثرت الكتابات عنها، ونظم حافظ إبراهيم وأحمد شوقي القصائد في رثائها، ومع مر السنوات زاد الشعور بقيمة هذه الرائدة فأصبح لها في معظم مدن مصر شوارع أو مؤسسات تحمل اسمها وتخلد ذكرها.

وصف حافظ إبراهيم تلك القدرة الفذة التي جعلتها قادرة على المصالحة بين الثقافات، فقد كانت موسرة مثقفة، بيتها آية في الجمال والإعداد والترتيب، ولكنه على مشارف "بادية الفيوم" ويمد حبال الوصل مع المجتمع حوله، قال عنها: "سادت على أهل القصور وسودَّت أهل الوبر".

أما الأديبة اللبنانية مي زيادة -التي تمتعت بمكانة أدبية مهمة في مصر- فألفت كتابًا عن صديقتها باحثة البادية تناولت فيه جوانب مختلفة من شخصيتها ونشاطها، أوضحت فيه أن أهم ما كان يُمِّيزها "أنها امرأة في جميع ما كتبت، لكنها مسلمة قبل كل شيء، وأي مسلمة، مسلمة شغوفة بدينها، تغار عليه غيرة محبٍّ مُدَنِّف يقدس الاسم المحبوب، ويجد في كل حرف من حروفه عالمًا بهاء وعظمة ومجدًا لا يفنى… إن إسلامها ظاهر في كتاباتها ظهورًا جليّا".

وتضيف: "هي مسلمة حد إدخال الدين في كل أمر من الأمور سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو أخلاقيًا حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الثانوية".

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

رئيسا مصر والصومال يؤكدان رفض الإجراءات الأحادية في القرن الأفريقي

أكد الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي رفضهما "أي إجراءات أحادية من شأنها الإضرار باستقرار منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر وضرورة التزام دول الإقليم كافة بأطر التعاون، بما يحقق الاستقرار والتنمية".

جاء ذلك خلال اتصال هاتفي أجراه رئيس الصومال مع نظيره المصري -أمس الخميس- بحسب وكالة أنباء الصومال الرسمية التي قالت إن الرئيسين "رحبا بالزخم الذي يشهده التعاون بين البلدين في الفترة الأخيرة، وحرصهما على توسيع آفاقه لتشمل مختلف المجالات، بما يتفق مع الروابط الأخوية بين الشعبين".

وأضافت الوكالة أن السيسي "أكد حرص مصر على أمن واستقرار وسيادة الصومال على أراضيه، ودعمها له في مواجهة مختلف التحديات الأمنية والتنموية".

ومن المعروف أن القرن الأفريقي منطقة إستراتيجية وحيوية للتجارة الدولية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، وتضم إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال، وتشهد نزاعات وخلافات عديدة، أبرزها ما تصاعد في الآونة الأخيرة بين إثيوبيا والصومال.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت الخارجية الصومالية أنه لا مجال لوساطة في خلافها مع إثيوبيا، ما لم تنسحب أديس أبابا من الاتفاق غير القانوني الذي أبرمته مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، والذي يوفر لها منفذا بحريا.

وجاء التأكيد الصومالي عقب اندلاع التوتر بين مقديشو وأديس أبابا، بعد توقيع مذكرة التفاهم مع أرض الصومال التي تمهد لبناء قاعدة عسكرية إثيوبية وتأجير ميناء بربرة على البحر الأحمر لـ50 سنة، وأعلنت جامعة الدول العربية وعدد كبير من أعضائها، من بينهم مصر، رفض الاتفاق وتأييد سيادة الصومال على أراضيه.

وتتصرف أرض الصومال، التي لا تتمتع باعتراف رسمي منذ إعلانها الانفصال عن الصومال عام 1991، باعتبارها كيانا مستقلا إداريا وسياسيا وأمنيا، مع عجز الحكومة المركزية عن بسط سيطرتها على الإقليم، أو تمكن قيادته من انتزاع الاستقلال.

يذكر أن إثيوبيا أصبحت دولة حبيسة منذ انفصال إريتريا المطلة على البحر الأحمر، رسميا عنها عام 1993.

مقالات مشابهة

  • تفاصيل مشاركة وفد عضوات الشورى باجتماعات مجموعة العشرين للبرلمانيات
  • جيش الاحتلال يعترف بمقتل ضابطين في معارك شرق مدينة غزة
  • وفد عضوات الشورى يشارك في اجتماعات مجموعة العشرين للبرلمانيات
  • لهذا السبب... نادين الراسي تتصدر تريند جوجل في السعودية
  • منير شفيق يروي قصة النضال الفلسطيني من عرفات إلى السنوار
  • باحثة: خطاب رئيس الوزراء البريطاني الجديد مبشر.. والمهم الأفعال
  • باحثة سياسية: خطاب ستارمر «يبث الأمل» والطموح للشعب البريطانى (فيديو)
  • رئيسا مصر والصومال يؤكدان رفض الإجراءات الأحادية في القرن الأفريقي
  • صمود غزة.. ومصر أيضاً
  • السودان.. نزوح أكثر من 136 ألف شخص بسبب "معارك سنار"