(نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 04 رمضان 1446هـ 04 مارس 2025م

???? المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي 04 رمضان 1446هـ 04 مارس 2025م#ويزكيهم pic.twitter.com/yE0ivtnAu2

— قناة المسيرة (@TvAlmasirah) March 4, 2025


أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في بداية قصة نبي الله وخليله ورسوله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، تحدثنا عن المسيرة البشرية، وما اعتراها من مخالفات وانحرافات كبيرة جدًّا، وصلت إلى مستوى الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانصراف التام عن نهجه ورسالته وهديه.

وبَيَّنَّا أن الأساس في مسيرة المجتمع البشري هو التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والإيمان به، والتَّمسُّك بنهجه، فالمجتمع البشري لم يترك منذ بداية وجوده بدون هدىً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بل إن أبا البشر الذي هو آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” هو نبيٌ بنفسه، نبيٌ من أنبياء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حظي من الله بالهداية، وأتاه الوحي الإلهي، والتعليمات الإلهية؛ وبالتالي لم تكن المسألة في واقع البشر أن الأساس هو الانحراف، هو الشرك هو الكفر، هو الضلال، هو الباطل، وأنهم تُرِكوا، ثم كان مجيء الأنبياء إليهم وبعثة الرسل إليهم حالةً طارئةً على واقعهم، وحالةً مخالفةً للحالة الطبيعية التي هم عليها، بل العكس هو الصحيح.

الذي هو طارئٌ على حياة المجتمع البشري، وشاذٌ في مسيرة حياتهم، ومخالف للمسار الصحيح الطبيعي الفطري، هو: الانحراف عن نهج الله ورسالته بما فيه، يعني: الانحراف على المستوى الأخلاقي، على المستوى الشرعي، على مستوى الحلال والحرام… وصولاً إلى مستوى الشرك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الذي هو في نهاية حالة الانحراف، أسوأ حالة من الانحراف الكبير، والتنكر للحقائق الكبرى، والانقلاب على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

فهذه مسألة مهمة؛ لأن الكثير من الكُتَّاب، والأسلوب في المجتمع الغربي في الأبحاث والدراسات، يصوّر الحالة وكأن المجتمع البشري كان منذ البداية مجتمعاً بدائياً في دينه، بدائياً في مسألة الدين إلى درجة الجهل التام بالله، وإلى درجة التنكر التام لمبدأ التوحيد، ويجعلون الأساس في واقع المجتمع البشري هو الشرك، هو الكفر، هو الانحراف، هو الاعتماد على مبدأ الشرك، الذي هو تعدد الآلهة، فهذه مسألة جوهرية في هذا الموضوع.

وفي نفس الوقت يجب أن ندرك أن المجتمع البشري كانت كل خسارته، التي هي خسارة رهيبة جدًّا: الخسارة على المستوى الفكري والثقافي، وعلى مستوى الأخلاق والقيم، وعلى مستوى التوجه الصحيح في مسيرة الحياة، ناتجةً عن المخالفة للرسل والأنبياء، وعن الانحراف عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

وهكذا هي المسألة على امتداد الزمن، كلما وجدنا حالة الانحراف في المجتمعات البشرية، والأفكار المِعْوَجَّة، والضلال بكل أشكاله، والاتِّباع للباطل، والتمسك بالخرافات، هذا كله ناتجٌ عن الانحراف عن نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن المخالفة للرسل والأنبياء، والابتعاد عن الرسل والأنبياء، وعن مسيرتهم.

والضلال والباطل ليس منحصراً في حالة معتقدات جامدة، باقية في الذهنية، ليس لها نتائج في واقع الحياة، ولا في حالة الطقوس في المعابد، حالة الضلال تمتد إلى واقع الحياة، مع الشرك والوثنية، هناك انحراف على مستوى الأخلاق والقيم، هناك انحراف يتعلق بالمعاملات في حياة الناس؛ ولـذلك فالامتداد لحالة الشرك هو: الانحراف الأخلاقي، الانحراف في القيم، والمظالم، والجرائم، والمفاسد، والطغيان، الذي يملأ واقع الحياة، فتتحول مسيرة المجتمع البشري في مثل تلك الحالة إلى حالة ظلمات، ظلمات بكل ما تعنيه الكلمة؛ يستحكم الجهل، تستحكم الخرافة، يستحكم الضلال، يستحكم الباطل، تسيطر على الناس القوى الظلامية الظالمة، المفسدة، المتكبرة؛ فيشقى الناس في حياتهم، لهذا آثاره على مستوى الواقع، على مستوى حياة الناس، وتكون النتيجة هي: الانحطاط الكبير بالمجتمع البشري حتى عن مستواه الإنساني؛ ولـذلك فليست المسألة مجرد معتقدات هناك لوحدها، أو طقوس منحصرة على واقع المعابد التي كانوا يبنونها؛ بل تمتد إلى حياة الناس، إلى واقعهم، يطالهم الظلم، الفساد، تفقد البشرية الأهداف الصحيحة لمسيرة حياتها، وتتَّجه الاتِّجاه المعوج، بعيداً عن صراط الله المستقيم، وتسبب لنفسها سخط الله، غضب الله، عذاب الله، والعياذ بالله.

مسألة التوحيد، المبدأ العظيم، كذلك هو ليس مجرد مبدأ يتحول إلى معتقد يُعبِّر عنه الإنسان بكلمة، مثلاً: (أشهد أنْ لا إله إلا الله)، وانتهى الأمر، أو تلحق به- كذلك- شعائر دينية محدودة، مثلاً: في المساجد، أو شعائر متنوعة، مثل ما هي أركان الإسلام، التي هي أساسٌ ليبنى عليها كل الدين، في الشرع الإلهي، في الأخلاق، في القيم، في المعاملات، في مسيرة الحياة؛ فالمسألة في مبدأ التوحيد لله هو مبدأٌ يبنى عليه نهجٌ عظيمٌ لمسيرة الحياة؛ ولـذلك فالخطأ عندما يُجَمَّد هذا المبدأ، وتكون هناك تصورات أنه يكفي مع هذا المبدأ العظيم الإقرار به، التعبير عن هذا الإقرار بالشهادة، شعائر دينية محدودة، ثم يتَّجه الإنسان في مسيرة حياته بعيداً عن ذلك، ليُعَبِّد نفسه لغير الله، هذه حالة انحراف، وعدم استيعاب لهذا المبدأ العظيم: مبدأ التوحيد لله.

إيماننا بأنه (لا إله إلا الله)، وأنه وحده الإله، وأن علينا أن نتَّجه بالعبادة له وحده، هذا يعني العبادة بمفهومها الشامل، بمفهومها الكامل، في التزامنا في مسيرة الحياة بنهجه، بتعليماته، بالطاعة المطلقة له “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بتوجهنا إليه “جَلَّ شَأنُهُ” بالخضوع التام لأمره ونهيه، هذه ثمرة مبدأ التوحيد لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولهـذا يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ” عن هذه المسألة: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2]، هكذا هي الثمرة: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، الله يخاطبنا هكذا، فيُبنى على ذلك التقوى لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في آيات أخرى يؤكِّد على العبادة كذلك، على الرهبة… على بقية ما يرتبط بهذا المبدأ المهم والعظيم.

الإنسان بفطرته هو يدرك أنه عبدٌ، ويستشعر حالة العبودية في نفسه، وفي واقعه؛ ولـذلك حالة الافتقار عند الإنسان، حالة الشعور بالعجز والضعف، حالة الشعور بالحاجة، هي حالة متجذرة في الإنسان؛ لأنه هكذا في تكوينه وخلقه، الله خلقنا كبشر، وخلق بقية الكائنات وهي مفتقرةٌ إلى الله، في حالةٍ من العجز، والضعف، والافتقار التام إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

ولـذلك فالعبودية هي متجذرة في بُنية الكائنات والمخلوقات، هي بفطرتها، وتكوينها، وخلقها، في حالة عبودية، وافتقار تام، واحتياج إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولأنها حالةٌ فطرية؛ فالإنسان يتَّجه أساساً، يعني: لا يبقى في حالة فراغ، إذا انحرف عن التوجه نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن العمل بمقتضى هذه الفطرة في الاتِّجاه الصحيح الحق، في الاتِّجاه الصحيح الحق، في التوجه بالخضوع لله، والعبادة لله، سواءً على مستوى الرجاء، على مستوى الالتجاء، على مستوى الخوف، على مستوى أن يتوجه الإنسان باحتياجه إلى الله في دفع الضر، في الحصول على النفع… في غير ذلك مما هو مفتقرٌ إليه كإنسان، أو في الاتِّجاه الآخر: الاتِّجاه للتعبير عن حالة العبودية بالطقوس العبادية بأشكالها المتنوعة، من مثل: حالة الصلاة في شرع الله ودين الله، حالة الصيام، حالة الحج، حالة الدعاء والتضرع… وغير ذلك.

الإنسان إذا لم يتَّجه الاتِّجاه الصحيح، فهو ينحرف بهذه الفطرة في الاتِّجاه الخاطئ، يعني: يُعبِّر عن عبوديته لغير الله تعالى، وهذا ما حصل في واقع المشركين، حيث كانوا مع إقرارهم بالله، وهذه من الحقائق المهمة التي أكَّد الله عليها في القرآن كثيراً، وقدَّم عليها استبياناً من تاريخ الأمم، الأمم والأقوام كانوا يقرُّون بالله، ولكن مع إقرارهم بالله، كانوا يعتقدون أن هناك شركاء، يشركونهم مع الله في الألوهية، يعتبرونهم آلهة مع الله، ثم يتَّجهون بعبادتهم إليهم، يطلبون منهم النصر، يطلبون منهم مطلب العبودية، يعني: يعتبرونهم آلهة، يقدرون على أن يمنحوهم ذلك، يتقرَّبون إليهم بالقرابين، يؤدُّون لهم طقوساً معيَّنة، وشعائر معيَّنة، كما قال الله عنهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}[مريم:81]، قال أيضاً: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}[يس: 74-75]، فهذه هي الحالة، كانوا ينحرفون عن الفطرة، بالدافع الفطري يتَّجهون اتِّجاهاً معاكساً، اتِّجاهاً مخالفاً؛ لأنهم يشعرون بحاجتهم إلى ذلك.

مع أنهم كانوا في حالة الشدة الشديدة، والمخاطر الكبيرة، يعودون إلى الفطرة، مثل ما أكَّد الله في مواضع كثيرة في القرآن الكريم في عدة آيات، أنهم كانوا في البحر إذا غشيهم الموج، وهددهم بالغرق، وأصبحوا يستشعرون الخطر على حياتهم، في تلك الحالة يعودون إلى فطرتهم بالدعاء لله وحده؛ لأنهم يدركون في عمق فطرتهم أن كل أولئك الذين يعتقدونهم آلهة، ويتقربون إليهم كآلهة، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يتمكنون من أن يفعلوا لهم شيئاً، فيدعون الله وحده، هنا عادوا إلى الفطرة، عندما كانوا في حالة أزمة شديدة وخطر كبير، يقول الله عنهم: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[لقمان:32]، فهم كانوا يعودون إلى الفطرة.

فالانحراف في حالة الشرك، الانحراف عن نهج الله بكله، وصولاً إلى هذا المستوى، كما قلنا: الباطل يزداد، الضلال ينمو، فيصل الإنسان في معتقداته، في أفكاره، إلى مستوى فظيع جدًّا وسيء للغاية؛ لأنه ابتعد عن قنوات الهداية، وعن مصدر الهدى، فكلما ابتعد أكثر؛ ضل أكثر في تصوراته، معتقداته، أفكاره، يتحول إلى ظلاميٍ، ظلاميٍ بكل ما تعنيه الكلمة.

ما وراء هذا الانحراف الكبير في مسألة الشرك هو: عدم الإيمان، أو نسيان المبدأ المهم، الذي هو: الكمال المطلق، مبدأ الكمال المطلق أنه هو المبدأ الأساس في مسألة الألوهية، وأن ما سوى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ناقصٌ، عاجزٌ، مخلوقٌ، مُدبرٌ، في إطار تدبير الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن الله وحده هو الخالق، هو رب العالمين، هو الرازق، هو المحيي، هو المميت، هو مدبر شؤون السماوات والأرض، وله أيضاً الحق وحده في هداية عباده، في جانب الهداية والتشريع الذي تُضبط به مسيرة حياتهم، هذه المسألة مسألة مهمة جدًّا، يعني: كان تقبُّل المشركين لأن يعتقدوا في غير الله أنه آلهة، هو لغفلتهم عن هذا المبدأ، مع أنه مبدأٌ فطري؛ ولـذلك وصل بهم الحال إلى أن يتَّجهوا في أن يؤلِّهوا من هو حتى دون مستواهم كبشر، من مثل حالة الأصنام؛ لأنهم نسوا هذا المبدأ، فاتَّجهوا إلى الكائنات، أو الجمادات، أو مخلوقات حالها حالهم، في افتقارها إلى الله، في عجزها، في ضعفها، في عبوديتها لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه هي المسألة الخطيرة جدًّا، الإشكالية الكبيرة، التي كانت مؤثِّرةً في مستوى تَقَبُّلهم وانحرافهم إلى هذه الدرجة.

عندما نعود إلى نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، قلنا بالأمس: أن البيئة التي نشأ فيها، والمجتمع الذي نشأ فيه، كان قد سيطر عليه الضلال والانحراف والشرك إلى حدٍ كبير، إلى درجة محيطه الأسري، فيما يتعلق بأبيه (أبيه آزر)، سواءً على مستوى ما يقوله البعض من المفسرين والمؤرخين بأن المقصود عمه، أو غير ذلك، أو أنه الأب نفسه (والده)، على كُلٍّ وصل الحال إلى مستوى محيطه الأسري، فهو في غربة في ذلك المجتمع.

ولـذلك في حركته لإنقاذ ذلك المجتمع، والسعي لهدايته، بدأ من محيطه الأسري، وسعى مع أبيه آزر لإقناعه، لهدايته، لاستنقاذه من هذا الضلال الرهيب جدًّا، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الأنعام:74].

نلاحظ في هذا السؤال، الذي هو سؤال توبيخ واستنكار: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}؟! مستوى الانحطاط والتخلف الفكري والثقافي، لدى المجتمعات والشعوب التي وصلت إلى هذه الحالة، إلى أن تتَّخذ من الأصنام، ما هي الأصنام؟ هي التماثيل المنحوتة بأشكال معينة: سواءً من الحجارة، البعض ينحتونها من الصخور، أو من الأخشاب، أو من مواد أخرى يتم تصنيعها منها، المواد الأولية متنوعة يعني، وصل الحال ببعضهم أن كانوا يصنعونها من العجين والتمر، فيما إذا دهمتهم أزمة شديدة، وحصل لهم مجاعة، يقومون بأكلها، بدلاً من عبادتها.

هذه الحالة من التخلف والانحطاط الكبير انتشرت في مجتمعات كثيرة، وعلى مدى عصور كثيرة، ولا زالت في عصرنا هذا، بالرغم من كل التقدم في هذا العصر، عصر الفضاء، والتكنولوجيا، والأقمار الصناعية… وبقية الأشياء، من نفس تلك المجتمعات لا يزال هناك من هم في هذا المستوى من التخلف، والانحطاط الفكري، بحيث يتقبَّلون أن يعتقدوا تلك الأصنام التي تُصنع، إمَّا تُنحت من الحجارة كما قلنا، أو من أي مواد أخرى، في هذا العصر هناك البلاستيك أيضاً، هناك… بحسب الحالة والظروف لدى المجتمعات والأقوام، البعض من الذهب يصنعونها، لكنهم وهم يصنعونها وينتجونها هم، أو يشترونها ممن أنتجها من أمثالهم بالمال، يشتروها بالمال، يعني: هي ملكهم، ثم يعتقدونها آلهة، ويعتقدونها شريكةً لله في الألوهية، ويعتقدون أنفسهم عبيداً لها، يعني: أسوأ مستوى من التخلف الفكري والانحطاط لدى البشر، وتجاه أكبر قضية!

يعني: لاحظوا أين يمكن أن يصل الضلال بالإنسان! في أكبر قضية يفترض أن تكون بالفطرة واضحةً تماماً للإنسان، لا تحتاج إلى نقاش، لا تحتاج إلى جدل، لا تحتاج إلى تعب في الإقناع، أن تتحول هي ملتبسة على الإنسان إلى هذه الدرجة، ويقبل فيها كل ما هو متنافٍ تماماً مع الفطرة، مع الرشد، مع البديهيات؛ لا هي تملك القدرة، ولا هي تملك النفع، ولا هي تملك الضر، ولا هي تملك أي تأثير.

وهكذا كانوا على مدى أجيال كثيرة من المجتمعات البشرية، ومجتمعات كثيرة، وأمم وأقوام، يعتكفون عليها، يطلبون منها شفاء أمراضهم، يتعبدون لها بطقوس معينة، يُعبِّرون عن أنهم عبيد لها، يشهدون لها بالألوهية، وقد يحتاجون في مرحلة معيَّنة إلى أن يبدلوا الصنم بصنم جديد، أو إلى ترميمه إذا تعرض لحالة معينة، في بعض المجتمعات كانت تحصل زلازل مثلاً، ويتحطم الصنم، فيقومون بإنتاج صنم آخر، أو يأتي نحَّات ليصنع شكلاً أجمل من ذلك الصنم، ويحصل على مبلغ مالي أكثر من الذهب والفضة، ويُستبدل ذلك الصنم بصنم آخر، بل تصل الحالة إلى مستويات في غاية السخافة، في غاية السخافة!

في الواقع العربي في الجاهلية، في حالة السفر، عندما يكونون مسافرين، وابتعدوا في أسفارهم عن أصنامهم، التي هي في بلدانهم، فهم بحاجة إلى إله سفري، إلى صنم يعني مع حاجة السفر في ظروف السفر، يصلون إلى وادٍ معين، أو إلى منطقة مُقفرة، يبحثون عن أي صخرة تختلف عن بقية الصخور، صخرة ملساء مثلاً، أو لها شكل ملفت، ثم يقومون بالطواف عليها، والعبادة لها، والتقرب إليها، أو يذبحون لها، ويقدمون لها القرابين، ثم يتضرعون إليها، ويطلبون منها أن تحميهم، وأن تحفظهم، وأن تحفظ ما معهم في سفرهم من البضائع، أو المتاع… أو غير ذلك، هكذا، يعني سخافة إلى أنهى مستوى!

هذا التوبيخ الذي وجَّهه نبي الله إبراهيم، والاستنكار في خطابه لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً}؛ لأن المسألة في بطلانها في منتهى الوضوح، باطل واضح يعني، كيف تنحت صخرةً، أو خشبةً، أو عوداً، أو أي شيءٍ آخر، أو تصنع أنت، أنت تصنع من مواد معيَّنة ما تعتقده إلهاً لك، وتعتقد نفسك عبداً له، ثم تطلب منه كل شيء: تريد أن ينصرك، أن يحفظك، أن يرزقك، أن يعينك، وقد يتغير الحال وتستبدله بصنم آخر، أو حالة أخرى!

فهذه الحالة الغريبة جدًّا ما الذي وراءها؟ ما الذي يصل بالناس إلى هذا المستوى، ووصل بالمليارات من البشر؟ يعني: الآن، في هذا العصر، في عصرنا وزمننا، العصر الذي هو- ربما- من أزهى عصور الدنيا، هناك نسبة كبيرة من البشر لا يزالون مشركين، المعابد في كل مكان، وهناك أشكال أخرى سنتحدث عنها أيضاً من حالة الشرك.

الحالة التي تصل بالبعض من الناس، على مستوى أمم والشعوب، إلى هذا المستوى من الانحطاط والتخلف الفكري هي ماذا؟ هي الضلال والمضلون، والابتعاد عن الهدى والهداة، فهي نتيجة لهذا؛ ولهـذا قال نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، الضلال هو الذي يصل بالناس إلى أن يتقبلوا أي باطل، مهما كان سخيفاً وسيئاً، ومهما كان فظيعاً، فظيعاً جدًّا، يعني: فيه تَنَكُّر لحق عظيم، لحق مهم، لمبادئ عظيمة ومقدَّسة؛ لأن هذا الضلال الذي يصل بالناس إلى الشرك بالله، هو- مع سخافته، ومع وضوح بطلانه- هو تنكُّر لأعظم مبدأ، وهو مبدأ: أن الله وحده الذي هو ربُّ العالمين، وخالق السماوات والأرضين، والمالك لكل شيء، هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو، يجب أن نتوجه بالعبادة إليه وحده، فيما نرجوه، فيما نخشاه، فيما نرغب فيه، كذلك بالتعبّد وفق شرعه، ونهجه، وتعليماته، والالتزام بهديه… وغير ذلك.

حالة الضلال هي التي تهيئ الإنسان لتقبّل الباطل، لتقبّل السخافات، لتقبّل أي شيء مهما كان سيئًا جدًا؛ ولهـذا يأتي في القرآن الكريم التحذير الواسع من الضلال والمضلين، الذين ينحرفون بالناس، ويجعلونهم يتقبلون أفكاراً خاطئة، تصورات خاطئة، مفاهيم خاطئة وسخيفة، وتتحول إلى دين يتدينون به، ولهـذا عندما نتأمل في هذه المسألة، وهي مسألة مهمة؛ لأن تأثيرها في واقع البشر كبيرٌ جدًّا، فهناك فئة المضلين، الذين لهم الدور.

يعني مثلاً: الصنم الحجري، ليس هو الذي بنفسه، مثلاً بشكله قام ينطق ويتحدث، ويقنع الناس أنه إله؛ المُضِل الآخر، هناك إنسان مُضِل، هو الذي وصل بهم إلى أن يعتقدوا أن تلك القطعة من الحجر التي نحتوها، أو من الخشب، أو من الذهب، أو من أي معدنٍ آخر، أو من العجين والكعك… أو من أي شكلٍ آخر، أنها هي الإله، وأنهم عبيدٌ لها، وأن عليهم أن يتقربوا لها بكل شيء، وأن يطلبوا منها كل شيء، المُضِل، المُضِلون خطيرون جدًّا على الناس، والفئة المضلة هي فئة محدودة من الناس، لكنها تخدع الكثير، ينخدع لها الكثير من الناس، مُضل قد يضل أُمَّةً بأسرها، مُضِل واحد، فالمسألة خطيرة جدًّا.

مثلاً: في قصة الأصنام، ما الذي كان يحدث؟

في مجتمع نبي الله إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، كان هناك سلطة ظالمة، على رأسها طاغٍ متكبر، وصل به الطغيان إلى أن يدَّعي لنفسه الربوبية، هذه واحدة.
ثم هناك أيضاً معه فئة نافذة في المجتمع، أصبح لها تأثير في المجتمع، وأصبح المجتمع مرتبطاً بها، وبناء على هذه الروابط تريد أن تحافظ على ذلك الوضع؛ لأنها تستغله هو في التأثير على البقية.
هناك فئة مستفيدة على المستوى المعنوي والمادي، مثل: منتجي الأصنام، الذين يصنعونها، ويبيعونها بأثمان غالية، سعر الإله حقهم سعر غالي يعني، وإذا كان بشكل معيَّن يرفعون السعر! فئة مستفيدة.
كهنة المعابد أيضاً، كهنة المعابد الذين هم من يستفيد مما يقدَّم من نذورات، وقرابين، ومأكولات، لتلك التي يسمونها بالآلهة… وهكذا.
تلك الفئة لأنها مستفيدة؛ تُصِرّ على ترسيخ ذلك، ثم في واقع الناس يرسخون هالة من الأساطير المعينة عنها، أنها: [فعلاً فلان قدَّم لها قرابين وشفي مريضه، وفلان قدَّم قرابين وعاد قريبه الذي كان مسافراً بسلام، وفلان كذا…]، أساطير تُحاك حولها، [وفلان لم يُقدِّم لها القرابين الجيدة فحصل له مصيبة…]، ومن هذه الأساطير، وتعُمّ الحالة، ثم تستمر- أحياناً- لأجيال، حتى تتحول من المُسَلَّمَات الراسخة، وتحاط بحساسية شديدة، تجاه مسألة الانتقاد لها، أو التشكيك بها، أو طرح تساؤل عنها، يتحول هذا إلى أمر خطير جدًّا، ومحظور للغاية، بحيث قد يتعرض الإنسان للاستهداف بشكلٍ مباشر، وهكذا تتحول الحالة العامة إلى حالة يحكمها ذلك الضلال، وذلك الباطل.

ولهذا يقول نبي الله إبراهيم: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[عنكبوت:25]، هذه العلاقات، والروابط، والنفوذ، والصداقات، التي تُجَذِّر مثل ذلك الباطل، وتحمي ذلك الباطل، وتقدمه محمياً.

ثم من أخطر أنواع الضلال: ما يُقدَّم ديناً، يعني: الضلال واسع: ضلال في أفكار الناس، في تصوراتهم، في مفاهيمهم، التي هي بعيدة عن الهدى، وعن قنوات الهداية ومصدر الهداية، ولكن عندما يكون هناك- مثلاً- ما هو باسم معتقدات دينية، ما هو باسم دين، وهو من الضلال، ليس من دين الله الحق، فالمسألة خطيرة جدًّا، أكثر خطورة؛ لأن الناس في مسألة التدين والالتزام الديني، ولاسيَّما البعض منهم، يعني: التدين عندهم قويٌ جدًّا، إن تدين بالباطل، كان شديداً؛ وإن تدين بالحق، كان قوي الالتزام ومتمسكاً، ما يتحول إلى معتقدات دينية، وهو من الضلال، يصبح الكثير من الذين يؤمنون به، يعتنقونه، يتقبّلونه، يقتنعون به، أكثر التزاماً وتمسكاً، وأشد تشبثاً به، ويصعب إقناعهم عن تركه، ويتعصبون له بشدة.

وهذا ما حصل في معتقدات المشركين، كانوا يتعصبون جدًّا لأصنامهم، إلى درجة أن يقاتلوا من أجلها، وأن يعادوا من يعترض على عبادتهم لها، أو ينتقد ذلك، أو يطرح علامات الاستفهام، وكانوا يخلصون إخلاصاً كبيراً فيما يقدمونه لها، يعني: إلى درجة أن البعض منهم- من شدة الإخلاص- كان يُقدِّم ابنه وفلذة كبده قرباناً لها، ويذبح ابنه عند الصنم، قرباناً إلى الصنم، ابنه، وهو عزيزٌ عليه.

حتى العرب في جاهليتهم، مع اهتمامهم بمسألة الأبناء الذكور، في صراعاتهم وموقفهم في الجاهلية المعروف من الإناث، معروفٌ جدًّا، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:58]، قد يكون له ابن عزيزٌ عليه جدًّا، من شدة معزة ابنه عليه، يرى أنه أحسن قربان يقدِّمه لتلك الخشبة التي يعتقدها إلهاً، ذلك الصنم، الذي هو إمَّا من صخر، أو من عود… أو غير ذلك، يذهب بابنه، يأخذ السكين ويذبحه، قرباناً لذلك الصنم؛ ولهـذا قال الله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:140]، يصل بهم الحال إلى هذا المستوى، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}[الأنعام:137].

يحكي لنا القرآن الكريم عن مدى تشبثهم، عصبيتهم، في قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، يقولون عن رسول الله: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}[الفرقان:42]، يعني: يصل بهم الحال إلى أنه يغضب لصنمه أكثر مما تغضب أنت كمسلم من أجل الله، من أجل دينك، من أجل مقدساتك، إذا لم يكن انتماؤك الإيماني قوياً، هذا هو بسبب الضلال؛ ولهـذا قال إبراهيم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.

نكتفي بهذا المقدار، ونواصل الحديث- إن شاء الله- عن هذا الموضوع في المحاضرة القادمة.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: نبی الله إبراهیم إلى هذا المستوى المجتمع البشری القرآن الکریم مسیرة الحیاة على المستوى هذا المبدأ فی المجتمع على مستوى فی القرآن إلى مستوى الحال إلى ت ع ال ى س ب ح ان ه لله وحده فی مسألة البعض من إلى الله فی مسیرة إلى درجة التی هی ع ل ى آل فی الات غیر ذلک فی واقع فی حالة الذی هو التی ت إلى أن کل شیء فی هذا لله فی

إقرأ أيضاً:

مرايا الوحي : المحاضرة الرمضانية (3) للسيد القائد 1446هـ

( المحاضرة الرمضانية الثالثة )
استدراك : ستظل شخصيات الدكتور احمد ونجليه صلاح ومنير تتواجد في جزئية محاضرات القصص القرآنية لاتساقها مع موضوع المحاضرة وعدم تشتيت انتباه القارئ .
الدكتور أحمد.أستاذ الفقه المقارن في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر
أما نجَلاه صلاح ومنير، فيدرسان في كلية الطب بالجامعة ذاتها.

" يجلس ثلاثتهم بانتظار المحاضرة فيما صلاح يحدث اباه واخاه عن اهمية محاضرات القصص القرآنية وتنوعها كونها تساعد طلاب العلم على ربط التخصصات المختلفة برؤية إيمانية .
اومأ الدكتوراحمد برأسه موافقاً كلام ابنه معقباً : طرح السيد عبدالملك لقصص القرآن هو دعوة للتفكر وتأكيد على ان القصص القرإني مدرسة متكاملة لصناعة الوعي والايمان .
نظر الاثنان لاباهما باعجاب وفي تلك اللحظة انطلقت المحاضرة الرمضانية الثالثة وتسمر الثلاثة لمتابعتها بكل شغف واهتمام .

في قصص القرآن عن أنبياء الله ورسله، يأتي الحديث عنهم في إطار مهامهم الرسالية، وسعيهم لهداية المجتمع البشري، وشده إلى الله سبحانه وتعالى، والعودة به إلى الصراط المستقيم، ويأتي الحديث عنهم أيضاً في مقام الاهتداء بهم، والتأسي، والاقتداء بما هم عليه من كمالٍ إيمانيٍ عظيم، وكذلك ما يتعلق بالهداية في الواقع العملي، سواءً بأسلوب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو في التصدي لمشاكل الحياة، والتعامل مع ظروفها وأوضاعها المختلفة، فلهم هذا المقام العظيم في الواقع البشري، هم القدوة، هم الأسوة، هم القادة، هم الهداة، هم الرموز الذين يجب أن يلتف حولهم المجتمع البشري.
- بالفعل يا ولديّ كما قال السيد القائد الحديث عن الانبياء يأتي من باب التأسي والاقتداء بهم وما هو بنعلق بالهداية الايمانية

قصة الهدايا الإلهية للمجتمع البشري هي متزامنةٌ منذ الوجود البشري على الأرض، الله سبحانه وتعالى جعل أول إنسانٍ يخلقه جعله نبياً، نبياً، أوحى اليه، هداه، علَّمه سبحانه وتعالى ما يحتاج إلى علمه في مسيرة حياته، قدَّم له الهداية؛ ليسير في مسيرة هذه الحياة على الصراط المستقيم، يتحرك في حياته وفق تعليمات الله سبحانه وتعالى، علَّمه الالتزامات الأساسية في هذه الحياة، في ما على الإنسان أن يعمله، وما عليه أن يحذره، في إطار الأوامر والنواهي الإلهية .

- يعقب منير بكل اعجاب قائلاً : هل سمعتم تأصيل قصة الهداية الإلهية للمجتمع البشري التي اوردها السيد عبدالملك .

في الواقع البشري نشأت حالة الانحراف، وحالة المعاصي، وحالة الخلل الكبير في مستوى الالتزام بتعليمات الله وهديه، وفي مستوى الاتِّباع للهداة الأنبياء، الذين جعلهم الله هداةً للناس، فتعاظمت حالة الانحراف في الواقع البشري، على المستوى العملي، على مستوى الأخلاق والقيم، على مستوى المحرمات، فيما هو حلال، وفيما هو حرام، ووصلت في نهاية المطاف إلى انحرافٍ خطير جداً في مستوى التوحيد لله سبحانه وتعالى، الإيمان بأنه هو وحده "جَلَّ شَأنُهُ"، الإله الذي نعبده، ونتَّجه إليه بالعبادة، والاعتراف بأننا عبيدٌ له، وأنه وحده المدبر لشؤون السماوات والأرض
- هل لاحظتم يا ولديّ كيف بدأت حالة الانحراف وكيف رسمها السيد عبدالملك وكيف وصلت في النهاية المستوى خطير جدا حد الانحراف في التوحيد للله سبحانه وتعالى

تنوعت هذه المعتقدات في مسألة الشرك بالله سبحانه وتعالى:

البعض من البشر في نظرتهم إلى بعض الظواهر الكونية، وتأثرهم بها، اعتقدوها آلهة، مثلما هو حال من عبدوا الشمس، من عبدوا القمر، من عبدوا النجوم... اختلفت أحوال البشر في ذلك.

البعض اتَّجهوا إلى جمادات، إلى الأصنام التي ينحتونها إمَّا من الصخر، أو يصنعونها من الخشب، أو من معادن أخرى، وجعلوا منها تماثيل، بأشكال معينة، ونصبوها في المعابد، واعتقدوها آلهة.

البعض من البشر ألَّهوا الملائكة، اعتقدوا الملائكة كذلك مشاركين في مسألة الألوهية.

والبعض منهم ألَّهوا البعض من البشر، البعض من الناس ألَّهوا أُناساً، إمَّا من الطغاة المجرمين الظالمين، الذين يصل بهم طغيانهم إلى ادِّعاء الربوبية والألوهية، مثل ما هو حال فرعون، الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38]، فقال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24]، ومثلما هو حال أيضاً بعض الملوك والطغاة الآخرين .

والبعض اتخذوا آلهة بغير رضاً منها، يعني: مثل من ألَّهوا عيسى عليه السلام، عيسى المسيح رسول الله، عبد الله ورسوله، ألَّهوه، هو لا يرضى بذلك، وحدث هذا من بعد زمان، من بعد سنوات طويلة من توفي الله له، لكن اتَّجهوا بانحرافهم هذا الاتِّجاه الخاطئ، الذي يتناقض تماماً مع رسالة الله، مع دعوة رسوله إلى عبادة الله، وهو الذي أنطقه الله، فكان أول ما نطق: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}[مريم:30]، الإقرار بعبوديته لله سبحانه وتعالى، وهو الذي كان العنوان الأبرز لدعوته في رسالته: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[مريم:36].

- يتحدث الدكتور احمد معقباً لقد لخص السيد عبدالملك تنوع مظاهر الشرك بالله عبر التاريخ، فاتخذ البعض آلهة من الظواهر الكونية كالشمس والقمر، أو أصناماً منحوتة، بينما ألَّه آخرون الملائكة أو بشراً طغاة كفرعون. كما انحرف بعضهم بتأليه الأنبياء كعيسى عليه السلام رغم رفضه ذلك، متناقضين مع جوهر الرسالات السماوية الداعية لتوحيد الله.

ولذلك ما بين نبي الله نوح عليه السلام، والذي كانت البشرية، وكان الناس قد استأنفوا حياةً جديدةً معه بعد الطوفان العظيم، قائمةً على التوحيد الكامل لله سبحانه وتعالى
إلى عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، كانت المجتمعات البشرية قد انتشرت على نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، وكانت أيضاً في واقعها السياسي، قد نشأت بحالة جديدة في الواقع السياسي في المجتمعات البشرية، وهي الممالك، يعني: من الوضع العشائري، الذي كانت عليه المجتمعات البشرية في عصر نبي الله نوح عليه السلام وما قبله، وكذلك إلى عهد نبي الله هود عليه السلام، إلى عهد نبي الله صالح، لكن مع الكثافة السكانية، وانتشار الناس في نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، بدأت المجتمعات تتشكل بشكل ممالك (مملكة)، يعني: تشبه حالة دولة في هذا العصر، ممالك معينة؛ لأن الواقع البشري اتَّسع،

- يتحدث صلاح بان السيد عبدالملك يعدد لنا حياة الناس ما بين عهد نوح عليه السلام وعهد نبي الله ابراهيم .

ولد نبي الله إبراهيم عليه السلام في تلك المنطقة، فيما يحسب الآن من جنوب العراق، بالامتداد إلى أطراف تركيا، أو أجزاء من تركيا، وفي تلك المرحلة كان هناك مملكة كبيرة، عليها حاكمٌ ظالمٌ، متكبرٌ، ضالٌّ، وصل به الطغيان إلى أن يدَّعي الألوهية، أن يدَّعي نفسه إلهاً، وكذلك كانت حالة الشرك قد شملت وعمَّت وانتشرت إلى حدٍ كبير في ذلك المجتمع، وتوارثها لأجيال، توارث حالة الشرك لأجيال؛ فاستحكمت في أوساط الناس،
ففي ذلك المجتمع كان هناك تثبيت لدعائم ذلك الباطل، يعني: باطلٌ محميٌ رسمياً من خلال السلطة الحاكمة، وعلى رأسها طاغية وصل به الحال أن يدَّعي لنفسه الربوبية، وكذلك استحكام حالة الشرك التي يتشبث بها المجتمع كموروثٍ اعتاد عليه،وكان مجتمعًا شديداً، ومع أن الطاغية بنفسه، الذي يقال أنه: (النمرود)، وفي بعضها يقال: (النمروذ)، وفي بعضها... تختلف الأسماء باختلاف اللغات، هو بنفسه يدعم تلك الحالة من الشرك ويتبناها، وهي- في نفس الوقت- مرتبطةٌ به،

- لقد بدء السيد عبدالملك بتقديم الاوضاع التي كانت عند مولد نبي الله ابراهيم عليه السلام لنعرف اهمية وجود رسالته في ذلك المجتمع .

على كلٍّ نشأ نبي الله إبراهيم عليه السلام في جنوب العراق، وسط ذلك المجتمع الذي قد وصل به الانحراف إلى ذلك المستوى، فهو مجتمع متشبث بذلك الباطل، وباطلٌ وضلالٌ كبيرٌ قد أصبح مرتكزاً على حماية رسمية من السلطة، وحماية اجتماعية من نفوذ الأشخاص الذين ارتبطوا بمصالح في ذلك الوضع
نشأته كنشأة بقية الأنبياء والرسل، ينشؤون موحِّدين لله تعالى، هذه قضية أساسية، هذا مبدأٌ أساسيٌ، لم يكن هناك أبداً أي رسولٍ أو نبيٍ من أنبياء الله كان قبل رسالته قد اتَّجه في حالة شرك، أو انحرف هذا الانحراف لكن تلك الحالة حالة وصلت إلى محيطه الأسري، حالة الانحراف والشرك، وصلت إلى محيطه الأسري، يعني: حالة مسيطرة على المجتمع من حوله .

- لقد عرفنا السيد عبدالملك على المناخ المجتمعي الذي كان يحيط نشأة نبي الله ابراهيم عليه السلام .

هنالك مقامات لنبي الله إبراهيم، مقامات متعددة، وصلت في نهايتها إلى مستوى الاحتكاك الكبير بينه وبين قومه، إلى درجة أنهم عملوا على حرقه بالنار، وستأتي هذه القصة.
إن شاء الله ندخل في هذه المقامات مع قومه، وكيف هي الأساليب الحكيمة التي عمل بها نبي الله إبراهيم عليه السلام، ليعالج الحالة التي وصلوا اليها من التشبث الشديد بذلك الضلال والباطل

- انتهت المحاضرة وثلاثتهم يشعرون بسرعة انقضاء الوقت ليهمس صلاح قائلاً ليته لم ينتهي ويكمل ليجيبه والده الدكتور احمد لا عليك يا صلاح سنستمع غداً لهذه المقامات المتعلقة بسيدنا ابراهيم عليه السلام مع قومه بإذن الله .

مقالات مشابهة

  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي: المحاضرة الرمضانية (4) للسيد القائد
  • نص المحاضرة الرمضانية الرابعة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • مرايا الوحي.. المحاضرة الرمضانية (3) للسيد القائد 1446هـ
  • شاهد| المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي (فيديو)
  • نص المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • (نص + فيديو) المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد القائد 1446هـ
  • مرايا الوحي : المحاضرة الرمضانية (3) للسيد القائد 1446هـ