شهد التاريخ في عهوده القديمة والحديثة دولا شاذة لا تقيم وزنا للاتفاقات التي تعقدها أو لتعهداتها ولا تحترم أعرافا أو قوانين.
من عظمة الدولة المصرية على مدار تاريخها احترامها للأعراف الدولية والقيم والاتفاقيات مهما بلغت قوتها وضعف الآخرين، وقد أبرمت مصرأول معاهدة في التاريخ الإنساني عام 1269 قبل الميلاد عقب معركة قادش بين رمسيس الثاني فرعون مصر وهاتوسيليس الثالث ملك الحيثيين.
كان احترام مصر للمعاهدة نموذجيا في عصر لم تعرف فيه البشرية القانون الدولي أو قواعد الشرعية الدولية، وكانت كذلك على مدار تاريخها مثلا يحتذى به في احترام المعاهدات والتعهدا.
شهد التاريخ الإنساني أيضا دولا شاذة في كل سلوكياتها وتعاملاتها، والدول الشاذة دائما ما تكون نهايتها مأساوية درامية، حدث ذلك مع المغول في القرن الثالث عشر الميلادي وانتهت دولتهم وكانت نهاية ملكهم العظيم هولاكو مأساوية، كذلك شهدنا في مطلع القرن العشرين نظريات لمنظرين حولت سلوك دولهم إلى دول شاذة ومنهم الألماني راتزل الذي توفى عام 1904 وهو مؤسس علم الجغرافيا السياسية والذي ابتكر نظرية المجال الحيوي وتحدث في نظريته عن حق الدول أن تتوسع من أجل البقاء وإلا ستنهار وأن على الدول المجاورة الصغيرة أن تتفهم ذلك وتدعمه!، من ياترى يفعل ذلك في منطقة الشرق الأوسط؟ هذه النظريات استخدمها هتلر وظهرت رغباته الشاذة في غزو كل من حوله بما في ذلك الدول التي أبرم معها معاهدات/ تحالفات ( الاتحاد السوفيتي - بولندا - الدانمارك - تشيكوسلوفاكيا - النمسا)، هذا الشخص الذي لم يتعلم في أي معهد عسكري كان يقود الجيوش الجرارة من مركز القيادة الرئيسي وانتهى به الأمر وبدولته الى نهاية مأساوية، نفس الشيء حدث لموسوليني في إيطاليا صاحب العبارة الشهيرة ( من لا يملك مدفعا فالويل له) وانتهى به الأمر وبإيطاليا الى نهاية مأساوية في الحرب العالمية الثانية، والأمثلة كثيرة ومتعددة.
نحن الآن أمام دولة زرعت في المنطقة العربية ومنذ تأسيسها لا تحترم أي قوانين أو أعراف أو قواعد شرعية دولية، منذ عام 2015 حتى عام 2023 فقط صدر ضدها من الأمم المتحدة 154 قرارا مقابل 71 قرارا ضد باقي دول العالم، الدولة الوحيدة في العالم التي تقوم في القرن الحادي والعشرين بتوجيه أسلحتها الرئيسية لمسح مناطق مدنية كاملة من الخريطة وتقتل الأطفال والنساء عمدا بعشرات الآلاف والأطباء والصحفيين عمدا بالمئات على مرأى من العالم كله الذي يقف موقف المتفرج أو المعاون، لا التزام أو تعهد أو قانون التزمت به طوال تاريخها، تعتدي على أي دولة مجاورة في أي وقت وتعلن أمام المجتمع الدولي في الأمم المتحدة راعية الشرعية الدولية خريطتها التوسعية على حساب كل دول الجوار، يحدث ذلك في القرن الحادي والعشرين.
إن نهاية دولة بهذه المواصفات ستكون مأساوية بالتأكيد ولن تختلف عن نهاية الدول الشاذة على مدار التاريخ مهما طال أمد ممارساتها.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مصر إسرائيل الأمم المتحدة التاريخ المعاهدات
إقرأ أيضاً:
الفينيقيون ومستعمراهم في بريطانيا وآيرلندا (2-3)
د. هيثم مزاحم **
يرى المؤرخون المختصون بمنطقة الشرق الأدنى القديم أن الفينيقيين أو الكنعانيين قد هاجروا من شبه الجزيرة العربية بشكل موجات هجرة كبيرة في فترات متباعدة، وقد استندوا في ذلك إلى أمرين، أولًا أوجه الشبه القوية بين اللغات أو اللهجات التي انتشرت في منطقة الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) وبين اللغة العربية. والأمر الثاني هو أن صحاري الجزيرة العربية كانت في العصور القديمة مفتوحة على بادية الهلال الخصيب وكانت أراضي الهلال الخصيب تجذب القبائل العربية المتنقلة ومن ثم كانت عاملًا أساسيًا في استقرارها.
وهناك أدلة كثيرة على أن الفينيقيين سكان المدن الساحلية، كانوا يعتبرون أنفسهم كنعانيين ولم يصفوا أنفسهم بالفينيقيين لأن هذه التسمية أطلقها عليهم الإغريق ومن بعدهم الرومان. إن إطلاق اليونانيين تسمية فينيقيين على الكنعانيين بمعنى الرجال الحمر لا يعني بالضرورة أنهم أخذوها عن تسمية الحميريين؛ فالفينيقيون أو الكنعانيون قد سبق وجودهم الحميريين بأكثر من ألفي سنة. يقول جان مازيل في كتابه "تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية" إن أولى المنازل الحضرية في مدينة جبيل في لبنان تعود لحوالي 3000 سنة قبل الميلاد، وأن فترة "العموريين" القادمين من أقاصي الصحراء السورية ابتدأت فيها حوالي 2000 قبل الميلاد، وهو تاريخ ابتداء الفينيقيين".
ويرى بعض الباحثين أن اتجار الكنعانيين بصباغ الأرجوان ذي اللون الأحمر واحتكارهم لسر إنتاجه قد دفع باليونان لإطلاق تسمية «فونيكي» أي الحمر عليهم.
تقول الباحثة جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم في كلية ورشيستر بجامعة أوكسفورد في كتابها "في البحث عن الفينيقيين": إن مصطلح "فينيقي" كان وسمًا عامًا ابتكره المؤلفون اليونانيون القدماء وكان يقصدون به بحارة بلاد الشام الذين صادفوهم خلال اكتشافاتهم البحرية. ولكن الكتاب الإغريق لم يستخدموا ذلك المصطلح قط لوصف مجتمع عرقي ثقافي متفرد. يتحدث المؤرخ هيرودوتس في كثير من المواضع عن الفينيقيين بإعجاب كبير، ولكنه لم يكتب قط وصفًا إثنيًا لهم، كما فعل مع المجموعات الأخرى مثل المصريين والإثيوبيين والفرس.
بدأت قصة التفرد العرقي للفينيقيين القدماء مع نشوء القومية اللبنانية مع المسيحيين الموارنة في القرن العشرين في محاولة لتمييز أنفسهم عن العرب والمسلمين، الذين ينتمون بدورهم إلى الكنعانيين، الإسم الحقيقي للفينيقيين.
بدورهم، بحث سكان الجزيرة التي تدعى اليوم بريطانيا العظمى في القرون الوسطى عن أصول قومية بنوعيات إنكليزية وبريطانية. بوشر بالاتجاه الإنكليزي أولًا في القرن الثامن وتم التركيز على ملوك البلاد من الساكسون. بينما تعاظم المنحى البريطاني في القرن الثاني عشر مع أعمال العالم الويلزي جيفري الذي تتبع تاريخه لملوك بريطانيا إلى بروتس الطروادي حفيد حفيد أينياس. وكان جيفري أول مؤلف يكتب تقريرًا مفصلًا لمآثر الملك آرثر الذي هزم غزاة بريطانيا الساكسونيين.
وقد وجدت هذه الأساطير فرصة جديدة للحياة بعد انفصال الملك هنري الثامن عن روما، لأن الكنيسة الكاثوليكية المحلية كانت وثيقة الارتباط مع الساكسون الإنكليز الذين تربعوا على الجزيرة في القرن السادس الميلادي. جعلت الأصول الويلزية لملوك تيودور الرؤية البريطانية الأوسع للأمة جذابة بشكل خاص لتلك الفترة، وكذلك لطموحاتهم الإمبريالية نحو اسكتلندا.
وفي منتصف القرن السادس عشر كتب جون تواين مجلدين باللغة اللاتينية نشرت بعد موته عام 1590 ولم تترجم إلى الإنجليزية قط، ويتحدث فيها عن قضية جديدة مثيرة بشأن جذور بريطانيا. ينقل فيها عن الأباتي فوشي نفيه للأصول الطروادية المزعومة ويعلن أن عرقًا من العمالقة سكنوا الكهوف في الأرض التي منحها اسمه ألبيون. كان الفينيقيون أول أجانب يصلون إلى هذه الجزيرة مدفوعين بالوصول إلى معادن كورنوال. تشمل أدلته على هذا الادعاء الزي البيوني الذي لا تزال بعض النسوة يرتدينه في ويلز إضافة إلى الأكواخ البونية في تلك المنطقة. ويضيف الأباتي أن العادة البريطانية لطلاء الجسم بنبات الوسمة كانت محاولة واضحة من الفينيقيين لاستعادة بعض اللون الذي فقدوه على مدار أجيال من الابتعاد عن الشمس.
من خلال استبعاد الفرضية الطروادية القديمة قدم تواين هوية تاريخية جديدة لسلالة تيودور الجديدة هي الفينيقية ومنحت بريطانيا أسلافًا أكثر بطولة وتحضرًا. فالفينيقيون في زعمه كانوا تجارًا نشأوا في بابل قبل الهجرة إلى العديد من الأراضي القديمة الأخرى، بما في ذلك مصر وإثيوبيا وسوريا واليونان وإسبانيا وأخيرًا وصلوا إلى بريطانيا.
ويتساءل: من أين يأتي الرجال بعادة حلق اللحية باستثناء الشفة العليا إن لم يكن من البابليين؟
ونشر ايليت سامز كتاب "عادات بريطانيا القديمة المشتقة من الفينيقيين" عام 1676 حيث تعززت نظرية سامز حول فينيقية بريطانيا القديمة بالعمل الشهير للعالم الفرنسي صموئيل بوشارت الذي تتبع في "الجغرافية المقدسة" عام 1646 تفرق ذرية نوح عبر العالم. فقد أولى بوشارت اهتمامًا خاصًا بالفينيقيين، مقترحًا أنهم وصلوا إلى بريطانيا وآيرلندا. ادعى سامز أن الفينيقيين استوطنوا في جنوب بريطانيا بينما استعمر السيمبري الألمان الشمال. وكتب سامز أن الفينيقيين تركوا أكبر الأثر ليس فقط اسم بريطانيا وحده ولكن معظم الأماكن هناك ذات الجماعات القديمة اشتُقت من اللسان الفينيقي؛ بل اللغة نفسها إلى حد كبير إضافة إلى العادات والأديان والأصنام والمراتب والأدوات الحربية في بريطانيا القديمة، فهي كلها فينيقية.
وبالنسبة إلى سامز شملت الكلمات البريطانية المشتقة من الفينيقية إسم كورنوال وكلمة بيرة وضم بقاء الثقافة الفينيقية موقع ستونهنغ.
وبالرغم من أن سامز قد ركز على أصول الممالك البريطانية فقد ميّز بشدة بريطانيا عن الأمم الأوروبية الأخرى، وعلى الأخص كان ضد منافستها اللدود فرنسا وشعبها. وبالنسبة إلى سامز ومعاصريه، فقد ارتبط الفرنسيون بشكل وثيق بالرومان. وقد فاقم تحدر البريطانيين المفترض من أعداء روما التقليديين، قرطاجة الفينيقية ذات القوة التجارية البحرية، الفوارق بين الدولتين الحديثتين وعزز تفوق بريطانيا في البحر.
بالنسبة لسامز كانت بريطانيا على الدوام أمة مستقلة بحد ذاتها وينطبق المبدأ ذاته على سكانها الأصليين، فهو أول من وصف الفينيقيين بأنهم أمة ودولة.
ظهرت في آيرلندا نسخة بديلة من القومية الفينيقية. كان معاصر سامز رودريك أوفلاهرتي أول عالم آيرلندي يقترح في عمله عام 1685 أن الفينيقيين شكلوا جزءًا من الأرومة الآيرلندية. أصبحت نظرية أوفلاهرتي في القرن الثامن عشر بأن الفينيقيين أسلاف الآيرلنديين شديدة الرواج بين المفكرين الغال ودعاة التفوق البروتستانتي.
كان تشارلز فالانسي أحد أكثر المتحمسين البروتستانت الذي وصل إلى آيرلندا عام 1756 كمراقب عسكري بريطاني وبقي هناك كآثاري محلي محترم وعضو مؤسس للأكاديمية الآيرلندية الملكية. انصب
اهتمام فالانسي الرئيسي على اللغة الآيرلندية القديمة، حيث أعلن في واحدة من دراساته المطولة أن الآيرلندية القديمة ربما كانت بدرجة كبيرة لغة هاني بعل هاميلكار الفينيقي.
وكما استخدم القوميون البريطانيون الفينيقيين لتمييز أنفسهم عن الفرنسيين الرومان، فإن المناصرين للقومية الآيرلندية استخدموا الماضي الفينيقي لتمييز الآيرلنديين عن البريطانيين الأكثر رومانية. وبهذا المنظور صُوّر الاحتلال البريطاني لآيرلندا كصراع عظيم بين قرطاجة النبيلة المتطورة أي الأيرلنديون- الفينيقيون، والقوة الغوغائية الإمبريالية لروما أي بريطانيا.
وفي الوقت ذاته فإن التلقف الفالانسي للخصوصية الفينيقية في العالم القديم كان ضبابيًا ولم يميزهم بقوة عن
احتفى المفكرون الآيرلنديون بالفينيقيين كمجموعة من الجذور القديمة المركبة والمتداخلة، فقد بجلوا الأسلاف الفينيقيين، ولكنهم لم يسعوا إلى إنشاء أمة فينيقية مستقلة.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان
رابط مختصر