النموذج التركي بين مكافحة الانقلابات وترسيخ الاستقرار وشرق أوسط جديد
تاريخ النشر: 3rd, March 2025 GMT
لم يكن الإعلان التاريخي "لعبد الله أوجلان" الذي دعا لحل التنظيم وإلقاء السلاح مجرد حدث عابر في المشهد السياسي التركي، بل مثّل لحظة فارقة في إعادة رسم ملامح الأمن القومي التركي والعلاقات الإقليمية، ومع التحولات الجارية في سوريا وسقوط نظام بشار الأسد، بات واضحا أن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية تتحرك بخطى ثابتة نحو تثبيت موقعها الإقليمي، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية جديدة.
على مدى أكثر من عقدين، أثبتت التجربة الإسلامية التركية قدرتها على تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في بيئة إقليمية مضطربة، لكن أكثر ما لفت انتباهي، بعيدا عن النجاحات الاقتصادية والسياسية، هو نهج مكافحة الانقلابات العسكرية الذي أصبح جزءا من هوية الدولة الحديثة، ليس فقط من خلال إجراءات سياسية وأمنية، بل عبر ترسيخه في وجدان الأجيال الجديدة من خلال التعليم.
فأثناء متابعتي دروس ابنتي التي تدرس في المرحلة الإعدادية، شدّ انتباهي مادة "الانقلاب" التي تُدرّس كجزء من المناهج التعليمية التركية، لم يكن الأمر مجرد درس تاريخي جامد، بل منهج متكامل يعرض دراسات معمقة حول تاريخ الانقلابات في تركيا وتأثير التدخل العسكري في الحياة السياسية، ولا يقتصر على سرد الأحداث، بل يعمّق لدى الطلاب فهم آليات الديمقراطية، ومخاطر الاستبداد العسكري، وأهمية الحفاظ على النظام المدني.
وفي هذا الإطار تكون التجربة الإسلامية التركية قد اكتملت إلى حد كبير، وأصبحت نموذجا ملهما يجب دراسته، في إطار فشل العديد من التجارب الإسلامية المناظرة في منطقتنا العربية، فمنذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، تبنى نهجا مختلفا في إدارة السلطة، بعيدا عن الصدامات الأيديولوجية التقليدية، حيث لم يكن مشروع الحزب قائما على فرض هوية إسلامية بقدر ما كان يسعى إلى التوفيق بين القيم المحافظة والتحديث السياسي والاقتصادي. هذه الاستراتيجية مكّنته من تجاوز العديد من الأزمات والاستمرار في الحكم لفترة طويلة، رغم كل التحديات الداخلية والخارجية.
أبرز ما يميز التجربة التركية هو النجاح في المزج بين الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبين تثبيت الاستقرار عبر بناء مؤسسات قوية، وبدلا من الدخول في مواجهات مبكرة مع الدولة العميقة، كما فعلت بعض التيارات في العالم العربي، اختار أردوغان استراتيجية التدرج، مستفيدا من شرعية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز موقعه السياسي.
ولا يمكن الحديث عن نجاح حزب العدالة والتنمية دون التطرق إلى الإنجازات الاقتصادية التي حققها، فقد استطاع الحزب، خلال عقدين من الزمن، أن ينقل تركيا من اقتصاد يعاني من الأزمات إلى واحد من الاقتصادات الصاعدة على مستوى العالم. ومن أبرز ملامح هذه النهضة: مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير البنية التحتية عبر مشاريع ضخمة مثل الطرق السريعة والجسور والمطارات، وتقليل نسب البطالة ورفع معدلات التوظيف، ودعم قطاع الصناعة وتعزيز الصادرات التركية.
هذه الإنجازات لم تكن مجرد تحسينات اقتصادية، بل كانت أحد أسس الاستقرار السياسي، إذ أدركت القيادة التركية أن تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطن هو مفتاح أي مشروع سياسي ناجح.
كما لم يكن نجاح أردوغان في إدارة الدولة قائما على الاقتصاد فحسب، بل كان نتيجة لقدرة فائقة على المناورة السياسية، سواء داخليا أو خارجيا، فمن الناحية الداخلية، استطاع الحزب الحفاظ على علاقات متوازنة مع مؤسسات الدولة، متجنبا الصدام معها حتى تمكن تدريجيا من إعادة تشكيلها بما يخدم رؤيته السياسية.
أما على المستوى الخارجي، فقد تبنت تركيا سياسة متعددة الأبعاد، فحافظت على علاقاتها مع الغرب، وفي الوقت نفسه عمّقت شراكاتها مع روسيا والصين ودول الخليج، مما مكّنها من تعزيز نفوذها الإقليمي دون أن تصبح تابعة لأي قوة دولية.
لم يكن الطريق إلى تثبيت الحكم في تركيا سهلا، فقد واجه أردوغان تحديات كبيرة، كان أبرزها محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016. تلك الليلة كانت اختبارا حقيقيا لمدى نضج التجربة الديمقراطية التركية، إذ لم تكن المواجهة بين حكومة ومعارضين سياسيين، بل بين دولة مدنية تسعى إلى تعزيز سلطتها، ومؤسسات عسكرية كانت تسعى لاستعادة نفوذها.
ما جعل هذه الليلة فارقة في التاريخ التركي هي الطريقة التي أدارت بها القيادة الأزمة، فبدلا من التعامل معها بأسلوب قمعي مباشر، لجأ أردوغان إلى الشعب، فخرج الأتراك إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية، في مشهد نادر لم يتكرر في كثير من دول العالم.
إلى جانب النجاحات الاقتصادية والسياسية، كان بناء المؤسسات القوية أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على استقرار التجربة التركية، فمنذ وصول العدالة والتنمية إلى الحكم، بدأ في إصلاح القضاء، وتحسين النظام التعليمي، وتعزيز المؤسسات الأمنية والاقتصادية، وقد جعلت هذه الإصلاحات النظام التركي أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات، وأقل عرضة للاضطرابات السياسية، إضافة إلى ذلك، كان التعليم أحد أهم المجالات التي استثمر فيها الحزب، ليس فحسب لتطوير المهارات الأكاديمية، بل أيضا لبناء وعي سياسي جديد.
ومع تزايد التحديات الإقليمية والدولية، لا تزال تركيا أمام اختبارات صعبة، لكنها أثبتت أنها قادرة على التكيف مع المتغيرات، مستفيدة من نهجها البراغماتي، وإنجازاتها الاقتصادية، وقوة مؤسساتها. ومع التحولات الجارية في سوريا، وإعلان أوجلان الذي يفتح الباب لإنهاء أحد أقدم النزاعات التي واجهتها تركيا، يبدو أن أنقرة ماضية في تعزيز مكانتها الإقليمية بثبات.
إن التجربة التركية تقدم درسا مهما في كيفية تحقيق التوازن بين الديمقراطية والاستقرار، وكيف يمكن لمجتمع أن ينهض عبر الاستثمار في التعليم، والاقتصاد، وإدارة التحالفات بذكاء، ويظل من بين أهم ما لفت الانتباه هو كيف أن هذه التجربة لا تقتصر على إنجازات حكومية، بل تمتد إلى تشكيل وعي جديد للأجيال القادمة، يضمن حماية الديمقراطية من أي محاولات ارتداد إلى الوراء.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تركيا أردوغان العدالة والتنمية الانقلابات الديمقراطية انقلاب تركيا أردوغان العدالة والتنمية ديمقراطية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدالة والتنمیة لم یکن
إقرأ أيضاً:
خبز البيدا ضيف المائدة التركية في رمضان.. ماذا تعرف عنه؟
إذا كنت من سكان أي مدينة في تركيا فلا تخطأ عينك ملاحظة ازدحام المخابز والأفران قبل الإفطار في شهر رمضان لشراء خبز البيدا٬ الذي يعد عنصرا أساسيا على مائدة الإفطار التركية في شهر الصيام.
حيث يُعتبر الخبز من العناصر الأساسية على المائدة في تركيا، وخلال شهر رمضان تحديداً، يتناول الأتراك خبز "البيدا"، الذي يكاد لا يغيب عن أي مائدة رمضانية في البلاد. ووفقاً لباحثين أتراك، يعود استخدام هذا الخبز إلى الفترة الممتدة بين عامي 1600 و1700 خلال عهد السلطنة العثمانية.
وقد تحوّل "البيدا" إلى تقليد رمضاني راسخ، حيث يُصنع من مكونات مثل الدقيق والحليب والملح والسكر ومواد أخرى، ويُقدم بأحجام مختلفة. ومن الناحية النظرية، يحاكي هذا الخبز الأفران القديمة، مما يضفي عليه طابعاً تراثياً مميزاً.
ويتميز خبز "البيدا" برائحته الفريدة التي تجذب الناس لشرائه، حيث يُعد من الأطعمة الأساسية على موائد الإفطار والسحور للأسر التركية طوال شهر رمضان. كما تحوّل هذا الخبز إلى رمز للتضامن والترابط الاجتماعي بين الأتراك خلال الشهر الكريم، حيث يتقاسمه الناس على موائدهم، ويتبادله الجيران كعلامة على التآخي والتعاون.
جميع المخابز تحضره
ومع تنوع أشكال وأنواع الخبز التركي إلا أن البيدا هو سيد المائدة في رمضان. وفي حديثه قال زكريا أيدن، صاحب أحد الأفران التركية، إنه يمارس مهنة الخباز منذ ما يقارب 37 عامًا.
وأوضح أيدن أن شهر رمضان يحمل طابعًا خاصًا حيث يتحول خبز البيدا إلى جزء أساسي من موائد الإفطار والسحور. وأضاف أن معظم الأفران تخصص فترة الصباح حتى الظهيرة لصنع الخبز خلال رمضان فقط، نظرًا للشروط الخاصة التي يجب توافرها داخل الفرن لضمان إعداده بالشكل المطلوب.
وعن كيفية تعلمه صناعة، ذكر أيدن أنه بدأ العمل في هذه المهنة عام 1982، وتعلم أسرارها من الخبازين المخضرمين الذين ورثوا بدورهم هذه الحرفة عن الأجيال السابقة، لتصبح تقليدًا متوارثًا حتى يومنا هذا.
وأشار إلى أن خبز البيدا يُعتبر تقليدًا ثابتًا في شهر رمضان، ويتم تناوله بشكل خاص على مائدة السحور.