أظهرت دراسة نشرت الأسبوع الماضي في مجلة "JAMA Network Open" الطبية، أن معدلات الإصابة بالسرطان آخذة في الارتفاع بين الأميركيين الأصغر سنا، الذين تقل أعمارهم عن 50 عاما، خاصة بين النساء.

وبحسب الدراسة فإنه بين عامي 2010 و2019، زادت حالات التشخيص بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و39 عاما بنسبة 19.

4 في المائة.

ومن بين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و29 عاما، بلغت الزيادة 5.3 بالمئة، حيث يشكل سرطان الثدي أكبر عدد من حالات الإصابة بذلك الداء الخبيث بين الشباب.

ولفتت الدراسة إلى أن معدل تشخيص سرطان الثدي في المراحل المتأخرة لدى الشابات والسيدات الصغيرات في السن آخذ في الارتفاع، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.

فبالنسبة للنساء اللواتي تحت سن 40 عاما، ارتفع معدل الإصابة لديهن بنحو 3 في المائة كل عام من عام 2000 إلى سنة 2019، وفقا لبيانات جمعية السرطان الأميركية.

وفي حين هبطت معدلات الوفيات بسرطان الثدي بين النساء الأكبر سنا بين عامي 2010 و2017، فإن المعدل بين النساء الأصغر سنا لم ينخفض.

وعلى الرغم من هذه الاتجاهات، فإن هناك القليل من النصائح المقدمة للنساء الأصغر سنا فيما يتعلق بالكشف المبكر عن سرطان الثدي، إذ يوصي الأطباء بإجراء تصوير الثدي بالأشعة السينية فقط للنساء الذين تتراوح أعمارهم بين 40 سنة و74 عامًا.

وفي مقابلات مع الصحيفة، قالت شابات مصابات بسرطان الثدي إنهن "شعرن بالرفض من قبل أطبائهن، عندما أعربن لأول مرة عن مخاوفهن بشأن صحة أثدائهن"، وذلك بالتزامن مع دعوات مجموعات متزايدة من المريضات والخبراء، إلى إجراء المزيد من الأبحاث والمحادثات بشأن انتشار هذا السرطان بين الشابات.

وتعقيبا على ذلك، قال رئيس قسم جراحة الثدي في مستشفى بريغهام في بوسطن، تاري كينغ: "لا ينبغي أن يكون سن الأربعين هو المرة الأولى التي تناقشين فيها موضوع سرطان الثدي مع طبيبك".

"خيارات قليلة" للنساء الأصغر سنا

ويقول الخبراء إن النساء الصغيرات في السن والمصابات بسرطان الثدي، غالبا ما يعانين من ضائقة عاطفية أكثر من السيدات المتقدمات في العمر.

فالإصابة بذلك المرض في سن مبكرة، تؤدي إلى "الشعور بالعزلة"، لأن "الشابة قد لا تتماشى مع التوقعات المجتمعية للتقدم في العمل أو الزواج أو إنجاب الأطفال".

وبالمقارنة مع السيدات الأكبر سنا، فإن الشابات أكثر عرضة لتشخيص الإصابة بسرطان الثدي في مرحلة متأخرة وعدوانية، كما أنهن يواجهن خطرًا متزايدًا لعودة الورم الخبيث في حالة الشفاء منه.

وفي هذا الصدد، قال كبير المسؤولين العلميين في جمعية السرطان الأميركية، ويليام داهوت: "من الواضح أن إصابة أي شخص بسرطان الثدي أمر كارثي، بيد أن إصابة شابة صغيرة بذلك المرض هو أمر مدمر تماما".

لماذا لا يتم فحص النساء الأصغر سنا؟

يرى كثير من الخبراء أنه لا يوجد دليل قوي على فعالية محتملة للتوصية بإجراء فحوصات شاملة لسرطان الثدي للنساء الأصغر من 40 عامًا.

ونبهوا إلى أن هناك مصدر قلق آخر، متمثل بالأضرار المحتملة لتلك الفحوصات بين الشابات وصغيرات السن، والتي تشمل "الخسائر النفسية للنتائج التي قد تظهر إيجابية ولكنها كاذبة (النتائج الخادعة)، وبالتالي التعرض المستمر لجرعات صغيرة من العلاج (دون حاجة لها)".

وتعتقد المسوؤلة في الجمعية الأميركية للسرطان، ديبرا مونتيتشيولو، أنه يجب على جميع النساء اللواتي بلغن سن الخامسة والعشرين عاما "الحصول على تقييم للمخاطر".

وشددت على ضرورة أن يتم فحص السيدات اللاتي يتعرضن لخطر أكبر بشكل منتظم، لافتة إلى أهمية أن تكون جميع النساء قادرات على الوصول بسهولة إلى التصوير الشعاعي للثدي أو غيره من الفحوصات.

عوامل الخطر المحتملة

يقول الخبراء إنه لا توجد تفسيرات واضحة لإصابة المزيد من النساء بسرطان الثدي في سن أصغر، لكنهم أشاروا إلى عوامل خطر محتملة.

وهنا أوضحت رئيسة قسم الأورام النسائية في منطقة شمال كاليفورنيا،  إليزابيث سوه بورجمان، إن "الوراثة  تعد عامل خطر معروف للإصابة بسرطان الثدي".

واستطردت: "لكن النتائج لا تشير إلى ذلك، فمعظم  النساء اللاتي يصبن بسرطان الثدي في سن مبكرة ليس لديهن عامل خطر وراثي".

وترى سوه بورجمان أن أحد العوامل المساهمة المحتملة هو أن "المزيد من النساء يؤخرن حملهن الأول، إذ يعد الحمل لأول مرة في سن 35 عامًا أو بعد ذلك، أحد عوامل خطر الإصابة بسرطان الثدي".

ونبهت إلى أن إحدى النظريات تزعم أنه "بعد سن 35 عامًا، يكون لدى الثدي المزيد من الوقت لتراكم الخلايا غير الطبيعية"، مضيفة أن التغيرات التي تحدث للثديين أثناء الحمل "يمكن أن تسرع من تطور تلك الخلايا غير الطبيعية، لتتحول إلى خلايا سرطانية".

وأكدت الطبيبة أن "الحيض المبكر وانقطاع الطمث المتأخر يعد من العوامل الخطيرة، باعتبار أن الثديين يتعرضان لهرمون الأستروجين لفترة أطول".

ويمكن أن يؤثر نمط الحياة والنظام الغذائي والوزن واستهلاك الكحول والتلوث البيئي أيضًا على احتمالات الإصابة بسرطان الثدي، بحسب الخبراء.

وإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون العرق أيضًا عاملاً خطيرا مساهما، فالنساء من أصول أفريقية أكثر عرضة للإصابة بسرطان الثدي في سن أصغر، من النساء البيض.

كما أنهن السيدات من أصول أفريقية أكثر عرضة للإصابة بنوع عدواني من السرطان يدعى سرطان الثدي الثلاثي السلبي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الخبراء لا يزالون عاجزين عن تفسير ذلك، بيد أنهم لمحوا إلى أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتعرض للتلوث يمكن أن تكون سببا في ذلك. 

خسائر مالية 

وتشعر ليندسي مادلا، 33 عامًا، والقاطنة بمدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا، أن "الحواجز المالية حدت من خياراتها بشأن العلاج"، إذ كانت تعمل في وظيفتين، لكنها أخذت إجازة غير مدفوعة الأجر عندما تم تشخيص إصابتها بسرطان الثدي في المرحلة الثانية في أبريل الماضي.

وكان قد جرى تصنيف إصابتها لاحقا بالدرجة الثالثة، وفيها يكون سرطان الثدي أسرع نموًا وأكثر عرضة للانتشار.

وقررت مادلا إجراء عملية استئصال الورم لإزالة جزء صغير فقط من ثديها، وبعد الجراحة اكتشفت أن السرطان قد انتشر إلى العقد الليمفاوية، لتبدأ رحلة العلاج الكيميائي بعد قرار الأطباء استئصال كامل الثديين.

وللمساعدة في تغطية تكاليفها الطبية المرهقة، أنشأت مادلا حسابًا على موقع "GoFundMe"، وذلك على أمل أن تلقى تعاطفا من محبي أعمال الخير.

وغالباً ما يفرض سرطان الثدي خسائر مالية أكبر على المرضى الأصغر سناً، الذين من المرجح أن يكون لديهم دخل أقل، ومدخرات بخسة، وخطط تأمين صحي ضعيفة أو ربما عدم توفر التأمين بالأساس.

دعوات لمزيد من الأبحاث

عندما كانت، فانيسا شابوي، في الرابعة والعشرين من عمرها، تحدثت إلى أحد مقدمي الرعاية الصحية عن الكتلة التي لاحظتها في صدرها، ولكن جرى إخبارها أن سرطان الثدي لا يصيب النساء في سنها وأنه حميد.

وأوضحت شابوي أنها "لم تكن تعلم في ذلك الوقت أن لديها تاريخًا عائليًا للإصابة بسرطان الثدي"، مردفة:"لو لم أستمتع لذلك الطبيب لما كنت هنا اليوم".

ولاحقا تابعت تشابوي مع أحد أطباء أمراض النساء والتوليد لتعلم أنها مصابة بورم بحجم كرة الغولف في ثديها، وأنها في المرحلة الثانية من المرض.

وبعد استئصال الورم، و16 جولة من العلاج الكيميائي واستئصال الثديين، شفيت شابوي، وهي تبلغ الآن من العمر 27 عامًا وتعيش في ريستون بولاية فيرجينيا،

ومع ذلك فإنها لا تزال تتلقى علاجا هرمونيا، إذ أنها تعاني أحيانًا من هبات ساخنة وآلام وأوجاع في جميع أنحاء جسدها.

وقد أثر ذلك المرض على عملها، إذ أنها لم تحقق النجاح المطلوب في وظيفة المبيعات كما تفعل سابقا، مضيفة:"لقد أبطأ ذلك مسيرتي المهنية، والجزء الذي أشعر بعدم الأمان تجاهه هو التأثير الكيمائي على دماغي، فالعلاج يؤثر على ذكراتي"، في إشارة إلى ظاهرة قد يسبب فيها علاج السرطان ضبابية في الدماغ أو مشاكل في التركيز والذاكرة.

وأصبحت تشابوي الآن ضمن مجموعة متزايدة من الفتيات اللواتي يطالبن بإجابات أكثر وضوحا بشأن أمراضهن، وبضرورة إجراء المزيد من الدراسات حول سرطان الثدي الذي يصيب النساء الأصغر سنا.

وتتفق أخصائية أورام الثدي في معهد دانا فاربر للسرطان، ليتيسيا فاريلا، مع تلك الدعوات، قائلة إنه "لا تزال هناك حاجة لمزيد من الأبحاث بشأن إجراء الفحوصات للشابات".

وتابعت: "لا ينبغي أبدًا إخبار السيدات الشابات بأنهن صغيرات جدًا على الإصابة بسرطان الثدي".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: الإصابة بسرطان الثدی سرطان الثدی فی بین النساء أکثر عرضة المزید من إلى أن

إقرأ أيضاً:

أي شرق نريد؟

الدكتور إياد البرغوثي*

ذروة الأهداف التي وضعها نتنياهو للحرب الاسرائيلية الدائرة الآن على غزة ولبنان، إنشاء "شرق أوسط جديد". قبل مئة وثمانية أعوام أنشأ (لنا) أسلاف نتنياهو سايكس وبيكو "شرق أوسط" كان جديدا في حينه، قسم العالم العربي، ووضع أسس قيام "اسرائيل"، وخلق الدولة العربية "الوطنية" متطلبا لذلك، حيث أكتملت عملية ذلك التجديد في العام 1948 بقيامها فعليا.

لكن الذي اعتقدناه بأن انشاء إسرائيل كان ذروة عملية "تجديد" المنطقة أو اكتمالها، تبين لنا فيما بعد أنه ما هو إلا "قص الشريط" لعملية تجديد لا تنتهي، فأخذت اسرائيل منذ لحظة انشائها بتغيير الخارطة الجيواستراتيجة والديموغرافية للمنطقة، فاحتلت مزيدا من الأراضي الفلسطينية والعربية وصل ذروته في العام 1967، وضاعفت من جهودها في تهجير الفلسطينيين و"استحضار" يهود مكانهم، وبدأت بعملية "تطبيع" حثيثة مع الدول "الوطنية" العربية.

ومع كل ما جرى واثنائه، لم يتوقف الحديث (والسعي) حول انشاء شرق أوسط جديد، منذ بدأ بذلك برنارد لويس في سبعينات القرن الماضي، مرورا بشمعون بيرس وكتابه "الشرق الأوسط الجديد" في العام 1992، وغونداليزا رايس في العام 2006 الى نتنياهو هذه الأيام.

من البديهي أن يكون الغرب وإسرائيل (الامبريالية والصهيونية) الأكثر سعيا وإلحاحا ودراية بأهمية "التجديد" المستمر للشرق الأوسط، فهما اكثر من "يستخدمه" ويسيء ذلك الاستخدام، ويحمله أكثر من طاقته. وهما التي ترتبط اهدافهما ارتباطا وثيقا بعملية التجديد تلك وباستمرارها وديمومتها، لضمان "استخدام" اكثر سهولة وأكثر نجاعة. التجديد في حالة الشرق الأوسط مرتبط بالاستخدام لا اكثر.

ماذا يعني تجديد الشرق الأوسط؟.

ارتبط الحديث عن الشرق الأوسط الجديد بالغرب وباسرائيل، فالقاء نظرة سريعة على الكلمات والدراسات والأفعال المرتبطة بذلك، تشير (غربيا) الى الحرص على تعميق تبعية المنطقة للغرب. أما اسرائيليا فيعني السعي الى مزيد من التوسع، وضرورة "تكبير" الدولة الصغيرة كما صرح الرئيس ترامب، وزيادة نفوذ اسرائيل في المنطقة وهيمنتها عليها. لقد تلازم الحديث عن تجديد الشرق الأوسط مع كل حروب اسرائيل التي هدفت الى إضعاف العرب وإنهاكهم ودفعهم نحو اختيار التطبيع الذي لم يعن سوى المزيد من الضعف والتبعية.

لا يبذل المسؤولون الاسرائيليون أي جهد لإخفاء اهدافهم في توسيع "حدود" اسرائيل وتجسيد قيادتها للمنطقة. فقبل إعلان نتنياهو مؤخرا عن سعيه لتغيير خارطة الشرق الأوسط، كان شمعون بيرس قد قال بصريح العبارة أن "العرب قد جربوا قيادة مصر للمنطقة لمدة نصف قرن، فليجربوا قيادة اسرائيل".

"الشرق الأوسط الجديد" في ذهن اصحابه، يعني جغرافيا جديدة، وديموغرافيا جديدة، وعلاقات دولية جديدة، وسياسات جديدة، ومسَلمات جديدة، وثقافة سائدة جديدة، ومناهج تعليمية جديدة. انه إعادة ترتيب للمنطقة تكون فيها اسرائيل الوحيدة المرشحة للتوسع، في حين تنقسم الدول العربية الموجودة، وتظهر دول جديدة، ويتم نقل (تهجير) شعوب أو أجزاء منها من مكان الى آخر، ويجري العبث بالتركيبة الثقافية والاثنية لبعض الشعوب، ويُعمل على تغيير وعيها بذاتها وباسرائيل وببعضها البعض وبتاريخها ومعتقداتها وقيمها ورموزها. كل ذلك من أجل تسيد اسرائيل للمشهد، واعتبارها مركز الاقليم ورابط علاقاته وبوابته الى العالم. انه باختصار تدشين فعلي "للامبراطورية" الاسرائيلية في المنطقة.

هنا أجد من الضروري التذكير بكلام كنت قد كتبته قبل اربعة أعوام في مقدمة كتابي "تحرير الشرق.. نحو إمبراطورية شرقية ثقافية" وهو.... "ما زال أمام مثقفي شعوب المنطقة وشبابها متسع من الوقت للعمل على خلق (الامبراطورية) (الشرقية) المفترضة، خاصة اذا ما أدرك هؤلاء، واكثرهم بالتأكيد يدرك، أنه إن لم يقم بذلك، فإن اسرائيل ستعمل- وهي تعمل فعلا - على انشاء امبراطوريتها في المنطقة، تلك التي تزيد شعوبها الحاقا وتهميشا".

العرب و"الشرق الأوسط الجديد"

رغم ارتباط مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بإضعاف العرب وتمزيق دولهم، إلا أنهم الأقل اكتراثا به في المنطقة. فالعالم العربي الرسمي بمجمله يبدو إما متجاهلا للموضوع أو متماهيا معه. ومن الواضح أن أحدا من العرب لا يجابه هذا المشروع باستثناء "قوتين" من خارج "الدولة"؛ ما بقي من نخبة مثقفة  قومية عربية، ترفضه من خلال التمسك بالوضع الحالي الذي هو في حقيقة الأمر، النسخة الأقدم من الشرق الأوسط الذي كان جديدا (سايكس بيكو)، أو قوى "المقاومة" في بعض البلدان، وهي الوحيدة التي تتصدى له وتقف في مواجهته.

بعد تآكل المشروع القومي العربي بعد العام 1967، ذلك الذي حدث أساسا بفعل التحرك الاسرائيلي الامبريالي لخلق "شرق أوسط جديد"، لم يبرز أي مشروع عربي يفكر بمستقبل المنطقة، ويتعامل معها كوحدة اقليمية واحدة، مما أفقد "الأمة" معظم "إن لم يكن كل" عناصر مناعتها.

فبعد عبد الناصر، لم يعد للعالم العربي قيادة ولا يبدو أنها ستكون في المستقبل المنظور. ومن سخرية القدر، أن دولا تدعي دور القيادة في العالم العربي الآن لم تكن في حياتها قومية، بل كانت مساهما أساسيا في إحباط المشروع القومي العربي الحقيقي من خلال "تحالفها" مع الامبريالية والصهيونية.

دخل العالم العربي بفعل دولته "الوطنية" ومآلاتها، ونخبه "الحديثة" وتوجهاتها، وعلاقتهما معا بالامبريالية والصهيونية في حالة موت سريري، بل اصبحت تسمية "العالم العربي" موضوعا للجدل، ولم يعد موضوع الأمن القومي العربي مطروحا، بل لم يعد هناك ما يبرر طرحه بعد أن فُتحت أبواب التطبيع مع إسرائيل على مصراعيها، وأصبح "العرب" جزءا من الحالة الصهيونية.

فيما يتعلق بالدولة العربية "الوطنية"، التي أقل ما يُقال فيها أنها نشأت في حالة "ملتبسة" وفي سياق مضاد للأمة إثر سايكس بيكو، ذهبت إلى اعتماد العزلة عن شقيقاتها "عقيدة" لها، وتنصلت من المشاركة "الايجابية" في أية قضية قومية تحررية بما فيها القضية الفلسطينية، باعتبارها "عبئا" لا مبرر له، أو لا علاقة لها به في أحسن الأحوال. ثم أخذت بالانعطاف الواضح والمعلن نحو "العدو"، الاستثناء هنا كان عند البعض في الفترة الناصرية.

لقد كان تأثير البترودولار الذي برز دوره مباشرة بعد هزيمة المشروع القومي في العام 1967، حاسما في رسم طريقٍ باتجاه واحد للدولة "الوطنية" نحو الامبريالية، وذلك من خلال دوره في القضاء على البرجوازية الوطنية في الدولة العربية، والابقاء على الكومبرادور والبرجوازية البيروقراطية ممثلة بأجهزة الدولة الإدارية لقيادة الدولة.

بغياب البرجوازية الوطنية، أو على الأقل بإضعافها، انتهت مقومات الدولة الوطنية الحقيقية، ولم يعد باستطاعة الدولة الموجودة أن تكون حاضنة لأي مشروع وطني نهضوي، فساهمت في تهميش الهويات الجامعة، وغيبت مفهوم الأمن القومي، ولعبت دورا حاسما في التأثير السلبي على نخبها خاصة الثقافية، في موقفها من الاستعمار والصهيونية ومشاريعهما في المنطقة.

أما بالنسبة للنخب المكونة أساسا من الجيش والمثقفين (الانتلجنسيا العسكرية والمدنية)، فقد ساهم البترودولار مباشرة، أو من خلال الدولة "الوطنية"، بأخذهما الى مكان آخر معاكس للمكان الطبيعي الذي كان يجب ان يكونا فيه. فالجيش الذي ينبغي أن يكون رمزا لوحدة "الأمة" واستقلالها وسيادتها وحافظ أمنها القومي، أصبح جزءا من الكومبرادور في شكل علاقته المباشرة و"المثيرة" مع الغرب ومع اسرائيل قبل التطبيع وبعده. الشيء الوحيد الذي يجعله مختلفا عن الكومبرادور التجاري هو اعتماده "البلطجة" في علاقاته مع السوق ومع الناس، بدل "الفهلوة" التي يعتمدها الكومبرادور المدني.

أما المثقفين المدنيين الذين لم تكن نسبة كبيرة منهم بمنآى عن تأثير البترودولار والدولة، فقد ذهب جزء منهم الى التنظير "للدولة" وأولويتها وانعزالها، وإلى "تتفيه" أي عمل وحدوي يفكر في "لملمة" عناصر القوة، ووصل بهم الأمر الى السعي لتبييض صفحة "العدو" وذلك بتحميل الذات عواقب "سوء" التصرف، ووجدوا أنفسهم في نهاية الأمر يصلون الى حيث كان لا بد أن يصلوا وهو الترويج للتطبيع والانخراط فيه. ربما لم يحدث في التاريخ أن "اقتنعت" نخبة "بعدوها" كما فعلت وتفعل بعض النخب العربية هذه الأيام.

من المهم هنا ايضا الإشارة الى "الخدمة" الكبيرة التي قدمتها مجموعة من المثقفين الحداثيين للمشروع الغربي الصهيوني والشرق الأوسط الجديد دون قصد على الأغلب وبشكل غير مباشر، إذ في خضم قيام هؤلاء بعملهم "الثوري" ضد الثقافة "الرجعية" التي يصنفون "الدين" كأحد أهم عناصرها، اقتربوا اكثر من "الدولة" (الرهينة والمرتهنة)، وساهموا في تفكيك المجتمع من خلال" تعففهم" في التعاطي مع "الإسلام" الذي اعتبروه "حاضنة" للتخلف فسهلوا تقديمه للامبريالية والصهيونية لاستخدامه ضد "الأمة" على شكل داعش احيانا ومشروع ابراهيمي احيانا أخرى.

إيران.. مشروع آخر لشرق مختلف

لا نحتاج لكثير من العناء للإقرار بأن ايران (وحلفائها) هي القوة "الأساسية" التي تقف أمام النسخة الامبريالية الصهيونية من مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليس فقط لأن لديها تصورا مختلفا حول مستقبل المنطقة، بل لأنها الوحيدة التي تملك مشروعا متكاملا مضادا له.

المشروع الايراني مبني على مسألتين رسخهما الخميني منذ بداية الثورة الإسلامية؛ حتمية تحرير فلسطين على اعتبار أن اسرائيل "غدة سرطانية" غريبة في المنطقة، وضرورة انسحاب كل القوات والأساطيل والقواعد الأجنبية من المنطقة وتركها لأصحابها لتحديد شكل وجودهم وعلاقاتهم البينية. هو يعتبر اسرائيل والقواعد الأجنبية تهديدا مباشرا للأمن القومي الايراني. لذلك ينبغي أن نفهم أن تخلي ايران، أو بشكل أدق تخلي (الثورة الإسلامية في ايران) عن فلسطين هو تخليها عن مشروعها هي قبل أن يكون موقفا عقائديا أو اخلاقيا تضامنا مع الشعب الفلسطيني.

من المهم خاصة للنخب السياسية والثقافية العربية معرفة أن المشروع الايراني يتكيء على "ضلعين" هما الدولة والثورة. هذان الضلعان ليسا متعارضين لكنهما ليسا متماثلين تماما، والغرب في توجهاته نحو ايران يفترض وجود فجوة بين الدولة والثورة يسعى لتعميقها واسقاط الثورة من خلال ذلك.  انه يراهن من خلال الحصار والضغط على ايران تأليب الدولة على الثورة، وإظهار أن ما يعانيه الشعب الايراني والدولة الايرانية ما هو إلا بسبب التصرف "غير المسؤول" لها، وهو يعتبر أن "تخليص" الدولة من الثورة هو الطريق الأمثل لها للإنخراط في مشروعه للشرق الأوسط الجديد.

مما تقدم، يمكن الحكم على المشروع الايراني أنه مشروع شرقي تحرري، شرقي بمعنى أنه ليس مصمما للتموضع ضمن مصالح أي من القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة، هو مشروع ذاتي ايراني تماما. وهو مشروع تحرري بمعنى أن أهدافه المعلنة تتلخص في "تطهير" المنطقة (الشرق) أو (غرب آسيا) من كل القوى الأجنبية المتواجدة فيه والمتحكمة بمصيره. هذا هو ببساطة، والأمر لا يحتاج للذهاب كثيرا في "زواريب" الايديولوجيا و"مؤامرات" التاريخ.

العرب.. بين مشروعين

أصبح واضحا أن العرب، رسميون وغير رسميين، لا يملكوا أي مشروع ولا حتى أي تصور خاص لمستقبل المنطقة (الشرق)، وهم أساسا وبناء على ما تقدم، ليسوا في وضع يتيح لهم التفكير في أي مشروع كهذا لا الآن ولا في المستقبل المنظور، لذلك فإن دورهم ينحصر في أحسن الأحوال في اختيار كيفية التموضع مع ما هو مطروح أمامهم، رغم أن ذلك مشكوك فيه ايضا لأنهم على الأغلب لا يملكون حرية الاختيار، ويذهبوا صاغرين الى حيث تريد لهم القوى المتنفذة الذهاب.

إننا أمام مشروعين لإعادة صياغة مستقبل المنطقة لا ثالث لهما؛ مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الاسرائيلي، يقابله المشروع الايراني. ونحن كذلك أمام عرب رسميين يمتثلون دون تردد للانخراط في المشروع الأول رغم إدراك بعضهم لخطورته المباشرة عليهم وعلى انظمتهم. ونخب (مثقفين بالأساس) بعضها غير مبال بحجة أنه لا يرى فرقا بين المشروعين، وبعضها يدعو الله للحفاظ على القديم (الموجود)، وما تبقى هو الذي وجد في المشروع المقابل ما يمكن أن يشكل أساسا لتجديد مختلف.

اذا ما استثنينا الجانب الرسمي الذي لا جدوى من النقاش معه كونه حسم موقعه "غرائزيا" الى جانب الشرق الأوسط (الصهيوني) الجديد، فإن الأكثر خطورة بين النخب هم اولئك الذين يتمترسون حول رأيهم بأن لا فرق بين المشروعين، كونهم يعرفون أن لا وجود لمشروع ثالث، ولا امكانية لوجوده، وهم بذلك إنما يسوقون المشروع الأول (الصهيوني) من باب "الحرص" على الذات وعلى "الاستقلال والسيادة".

هذا لا يعني أنه ليس من حق أحد أن يبدي "ملاحظاته" أو "تحفظاته" على المشروع "الايراني"، لكن التعامل العقلاني مع هذه التحفظات لا يكون بوضعه في خانة التساوي مع المشروع الصهيوني، بل بتقديره كمشروع تحرري للمنطقة والعمل على "تطويره" من خلال التفاعل والحوار بين كل المعنيين ليكون مشروعا "شرقيا" اكثر شمولا وجذرية واستثمارا لطاقات "الأمة"، كما تطمح شعوبها بكافة اثنياتهم وثقافاتهم (عربا وايرانيين وكرد وامازيغ...الخ) وطبقا لمصالحها في التحرر والاستقلال والسيادة والتنمية الحقيقية. مرة أخرى، إن لم تتوحد شعوب الشرق لتصنع "شرقها" على مقاسها، فإن اسرائيل جاهزة لتصنع لها ولهم "الشرق الأوسط الجديد" والقابل للتجديد دائما على المقاس الإسرائيلي.

*باحث وأكاديمي فلسطيني / رام الله

القدس المقدسية


© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com)

محرر البوابة

يتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة

الأحدثترند أي شرق نريد؟ صلاح ينتقد إدارة ليفربول.. ما السبب؟ شذى الأدهمي تهدد أصدقاء طليقها رامي الجابر: "لموا صاحبكم.. وتاريخكم المشرف كله عندي" بريانكا شوبرا تشارك لحظات عائلية خاصة رفقة زوحها نيك جوناس وابنتهما شاهد: ظهور السعودي عبد الحميد الأولى في الدوري الإيطالي Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية اعمل معنا الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2024 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • بريطاني يكتشف إصابة ابنه بسرطان العظام بعد تشخيص خاطئ من الأطباء.. ما القصة؟
  • هشام الغزالي: نسب سرطان الثدي بمصر أقل من الدول الغربية
  • 1050 متطوعًا يساهمون في نجاح حملة التوعية بسرطان الثدي في ليبيا
  • رئيس اللجنة القومية لمبادرة صحة المرأة: نسب إصابات سرطان الثدي في مصر الأقل عالميًا
  • أي شرق نريد؟
  • مدير مستشفى سرطان الثدي: 60% من المرضى يحملون أفكارًا خاطئة عن السرطان
  • لماذا تستيقظ ملايين النساء في الثالثة صباحا يوميا؟.. نصائح لتحسين النوم
  • الفاشينيستا دلال القبندي تُعلن عن إصابتها بسرطان الثدي
  • أغنى شخص في العالم .. هكذا زادت ثروة إيلون ماسك بفضل انتخابات أمريكا
  • ثروة إيلون ماسك زادت بقوة بعد فوز ترامب.. وهذه قيمتها الآن