من الفوضى إلى الفرص: رؤية مجتمعية
تاريخ النشر: 2nd, March 2025 GMT
د. رضية بنت سليمان الحبسية
في عالم يتسم بالتغيرات السريعة والتحديات الاجتماعية، تظل الأنظمة والقوانين الوطنية العمود الفقري الذي يحفظ توازن المجتمعات. ومع ذلك، فإن هناك فئة من الأفراد تتجاوز هذه القوانين، مما يثير تساؤلات عميقة حول الأسباب والدوافع وراء هذه التجاوزات. كما إن تفشي ظاهرة الجنوح لا يعكس فقط ضعفًا في الالتزام بالقوانين؛ بل يكشف أيضًا عن أبعاد اجتماعية واقتصادية ونفسية معقدة، ومن خلال تحليل هذه الظواهر وتقديم استراتيجيات فعالة، يمكن التقدم نحو التغيير الإيجابي، وبناء مجتمعٍ يتسم بالتماسك والاستقرار، لتحقيق الرؤى المستقبلية بكل ثقة واقتدار.
القضية الأولى: يُعدّ الفقر وتدني الأحوال الاقتصادية للأُسر من العوامل الرئيسة التي تدفع بعض أفرادها إلى تجاوز الأنظمة والقوانين، فعندما يعاني الفرد من ظروف اقتصادية صعبة، يصبح أكثر عرضة لاتخاذ قرارات غير قانونية لتأمين لقمة العيش، وغالبًا ما تؤدي هذه الظروف إلى فقدان الأمل في الحصول على فرص عمل مشروعة؛ مما يخلق بيئة محفزة للسلوكيات المنحرفة، وتآكل القيم الاجتماعية والأخلاقية. فعلى سبيل المثال: قد يلجأ بعض الشباب من الباحثين عن عمل أو المراهقين من ذوي الأسر ذات الدخل المنخفض، للانخراط في أنشطة غير قانونية كالسرقات والترويج للمخدرات، وغيرها من الأنشطة بهدف تحسين واقهعم الاقتصادي، مما يكون سببًا لانتشار الجرائم وزعزعة استقرار المجتمع.
إن واقع العديد من المجتمعات العربية يُظهر ضرورة مُلحَّة لتحسين الظروف الاقتصادية، والاتجاه نحو مشاريع تعليمية وتدريبية مُستدامة في مجالات التقنية والمهن الحرفية. وتُعد هذه المشاريع من الاستراتيجيات الفعّالة لتفادي تجاوز الأنظمة واللوائح، حيث يُسهم تعزيز الاقتصاد المحلي في تقليل معدلات الفقر والحاجة؛ مما يساعد على تقليص دوافع الجنوح وارتكاب المخالفات القانونية.
علاوة على ذلك، يتطلب الأمر إعادة تقييم النظرة السائدة حول طبيعة الوظائف والتخصصات التي يحتاجها المجتمع المعاصر، ويتعين مواءمة المخرجات التعليمية مع متطلبات سوق العمل المستقبلية، وهو ما يُعد استراتيجية حيوية لتسريع وتيرة توظيف الباحثين عن عمل. ومن خلال هذه الجهود، يمكن تقليص أعداد الباحثين عن العمل، وتقليل حالة التخبط والفوضى التي قد تنشأ في أفكارهم وسلوكياتهم. فالاستثمار في التعليم والتدريب ليس مجرد خيار؛ بل هو ضرورة استراتيجية لرسم مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا للأفراد والمجتمع ككل.
القضية الثانية: يُسهم نقص الوعي بالقوانين والحقوق في تفشي التجاوزات القانونية؛ حيث يفتقر الكثيرون إلى المعرفة الكافية بالقوانين، مما يجعلهم يرتكبون المخالفات دون إدراك عواقب أفعالهم. كما أن عدم المعرفة بالحقوق والواجبات يؤدي إلى استغلال بعض الشباب من قِبل آخرين، أو اتخاذ قرارات غير مبنية على أساس قانوني، مما يزيد من معدلات الانحراف.
ومن الضروري تنفيذ برامج تعليمية متكاملة وحملات توعية شاملة تستهدف مختلف شرائح المجتمع، مستفيدة من الوسائط المتعددة، لتفسير القوانين بطريقة مبسطة وفعالة. وهذا التوجه لا يسهم فقط في تقليل فرص الانخراط في أنشطة غير قانونية؛ بل يعزز أيضًا من قدرة الشباب على التفكير النقدي، مما يمكنهم من مقاومة الأفكار المتطرفة والتنصل من الانزلاق نحو النزاعات اللفظية التي قد تندلع عبر المنصات الرقمية العالمية. وعليه، فإن بناء مجتمع واعٍ ومتعلم هو السبيل نحو تحقيق الاستقرار والازدهار، حيث يتسلح الأفراد بالمعرفة القانونية الضرورية لمواجهة التحديات والمساهمة الفعالة في تنمية مجتمعهم.
القضية الثالثة: يُمثل التهميش الاجتماعي أحد العوامل الأساسية التي تسهم في تفشي ظاهرة عدم المشاركة في الرأي؛ حيث يواجه العديد من الأفراد شعورًا عميقًا بعدم الاعتراف بهم أو تقديرهم في المجتمع، بحيث تخلق فجوة واسعة بين الأفراد والأنظمة الاجتماعية، مما يدفعهم إلى التصرف بطرق يُعبّرون من خلالها عن إحباطهم وسخطهم. والإحساس بعدم الانتماء لا يؤدي فقط إلى تراجع المشاركة الفعّالة؛ بل قد يُحرِّض أيضًا بعض الأفراد على الانخراط في أنشطة غير قانونية. وهكذا، يُعزز هذا التهميش مشاعر الاستياء ويُفضي إلى تجاوز الأنظمة، مما يخلق حلقة مفرغة من عدم الثقة والرفض، ويعمق من الفجوة بين المجتمع وأفراده.
لذا، من الضروري أن تتنبه المجتمعات إلى أهمية رصد هذه القضايا ومعالجتها، وتشجيع الأفراد على المشاركة في صنع القرارات، بما يُسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا. فعلى سبيل المثال: توفير منصات للشباب للتعبير عن آرائهم والمشاركة في القضايا المجتمعية، تُعدّ وسيلة ناجعة وفرصة كبيرة لتعزيز الثقة في الأنظمة، وتقوية مشاعر الانتماء والولاء للمجتمع، مما يؤدي إلى سدّ منابع الانحراف والجنوح بين فئة الشباب. ومن التجارب العُمانية لتعزيز الشراكة المجتمعية، يأتي ملتقى "معًا نتقدم" كمنصة قيّمة للحوار بين أفراد المجتمع والجهات الحكومية.
القضية الرابعة: تؤدي الضغوط النفسية والعائلية دورًا جوهريًا في اتخاذ قرارات غير مدروسة قد تؤدي إلى تجاوز الأنظمة والتشريعات. وفي كثير من الأحيان، يواجه الفرد ضغوطًا هائلة تجعله يتصرف بشكل متهور، مما يزيد من احتمالات ارتكابه للمخالفات ويؤدي إلى تآكل القيم الأخلاقية. على سبيل المثال، قد يلجأ بعض الأفراد إلى ممارسة أنشطة غير مقبولة اجتماعيًا، أو استخدام أساليب غير قانونية مثل النصب والاحتيال، وفي حال تعثرهم وفشل مخططاتهم، يجدون أنفسهم في دوامة الإفلاس والمديونية، مما يقودهم إلى التخبط واتخاذ قرارات عشوائية، حتى يصلوا إلى مرحلة فقدان التوازن واتخاذ قرارات همجية وغير عقلانية.
لذا، يُعد توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي للأفراد الذين يعانون من ضغوط نفسية ضرورة ملحة، تتجاوز كونها مجرد خطوة، لتصبح دعامة أساسية لمساعدتهم في اتخاذ قرارات أكثر وعيًا لتحسين أوضاعهم المالية والاجتماعية. ومن الأهمية بمكان إنشاء مراكز دعم نفسي في المجتمعات المحلية، حيث يمكن أن تكون هذه المراكز بمثابة ملاذ آمن للأفراد الذين يواجهون تحديات نفسية أو اجتماعية.
كما أن هذه المبادرات لا تقتصر على تقديم الدعم؛ بل تُسهم أيضًا في الحدّ من دوافع الجنوح والانحراف، مما يمنع الأفراد من الانزلاق إلى دوائر المعارضين أو الخارجين على القانون، فمن خلال تعزيز الوعي والتمكين، يمكن أن يتحول هؤلاء الأفراد إلى قوى إيجابية في المجتمع، بدلاً من أن يصبحوا أدوات تُستغل للتشكيك في أسس المجتمع، قيادةً ونظامًا.
وفي الختام.. يتضح أن تجاوز الأنظمة والقوانين الوطنية ليست مجرد ظاهرة عابرة؛ بل هي قضية معقدة تتطلب تفكيرًا عميقًا وتحليلًا شاملًا للأسباب الكامنة وراءها؛ فالتعامل مع هذه الظاهرة يتطلب رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار العوامل الجذرية التي تسهم في تفشيها. وفي هذا الشأن، نؤكد ضرورة تكامل الجهد الحكومي مع المبادرات المجتمعية لضمان تحقيق نتائج فعّالة ومستدامة. ومن الضروري أيضا النظر إلى المخالفين كأفراد يمكن إعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع، ومثل هذا التوجه يُسهم في إعادة بناء الثقة في النظام القانوني، ويفتح آفاقًا لتحقيق تغيير إيجابي نحو مجتمع أكثر استقرارًا وأمانًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لا تعبثوا بالأوطان
د. إبراهيم بن سالم السيابي
قبل أن نخطو أي خطوة، علينا أن نتوقف لحظة. لنتأمل في هذا الوطن الذي يحتضننا، في هذه الأرض التي كبرت معنا وكبرنا معها، لنتذكر الطرق التي مشيناها ونحن مطمئنون بأن الغد سيكون أفضل، والأماكن التي حفظت أصواتنا وضحكاتنا وأحلامنا، هل يُمكن أن نسمح لأنفسنا، في لحظة انفعال أو تحت تأثير دعوة عابرة، أن نعبث بكل هذا؟ هل يُمكن أن نجازف بأمن وطنٍ صمد لسنوات وسط العواصف ولم تهزه الأزمات وأعتى الرياح؟
عُمان ليست مجرد بلد؛ بل قصة طويلة من الحكمة والاتزان على مرِّ العصور، كانت السلطنة نموذجًا فريدًا في التعامل مع الأزمات، لم تعرف الفوضى طريقًا إليها، ولم تكن ساحتها ميدانًا للصراعات العشوائية، وهذا لم يكن هذا وليد الصدفة؛ بل هو ثمرة نهج حكيم وسياسات رصينة، جعلت التواصل بين الدولة والمواطن أساسًا لكل تطور وحل لكل مشكلة، لم تغلق الحكومة أبوابها يومًا أمام مطالب الشعب، ولم تتجاهل صوته؛ بل أنشأت عدة قنوات واضحة للحوار والتواصل، ليكون المواطن شريكًا في التنمية، لا مجرد متلقٍّ للقرارات.
وكما هو الحال في أي مجتمع، لا تخلو الحياة من التحديات؛ فهناك قضايا قد تُثير القلق، وأوضاع قد تحتاج إلى تطوير أو تعديل أو إصلاح، وهذا أمر طبيعي، لكن الفارق الجوهري بين الأمم المتحضرة وتلك التي تغرق في الفوضى يتمثل في كيفية التعامل مع الأزمات؛ حيث إنَّ دعوات التجمهُر العشوائي، والخروج إلى الشوارع، لا تؤدي إلى حلولٍ بقدر ما تُحقق مصالح وأجندات مشبوهة، والأخطر من ذلك، أنها قد تفتح الباب أمام المُتربِّصين والمُندسين، أولئك الذين لا يريدون الخير لهذا الوطن؛ بل يسعون لاستغلال أي فرصة لإثارة الفتن وخلق الفوضى، خاصة هذه الأيام التي تقف هذه البلاد حكومة وقيادة وشعبا بجانب الحق ونصرة المظلومين في غزة الشرف والعزة والإباء.
لقد أثبت العُمانيون، عبر التاريخ، أنهم ليسوا شعبًا مندفعًا وتجره العواطف؛ بل شعبٌ يفكر، ويتأنى، ويبحث عن الحلول بعقلانية. وأخلاق العُمانيين، التي يشهد لها القريب والبعيد، لم تكن يومًا قائمة على التصعيد غير المحسوب أو الانفعال السريع؛ بل كانوا دائمًا مثالًا للحكمة وضبط النفس؛ فسياسة الوسطية والعقلانية التي انتهجتها السلطنة لم تقتصر على الشأن الداخلي فقط؛ بل جعلت منها وسيطًا موثوقًا لحل الخلافات والنزاعات بين الدول، حتى أصبحت نموذجًا يُحتذى به في الحكمة والرزانة. فكيف يمكن أن نسمح لأنفسنا اليوم بأن ننسى هذا الإرث العظيم وهذه المكاسب التي تحققت بفضل دولة قيادة وشعبًا، وننجرف خلف دعوات لا نعلم من يقف وراءها، أو ماذا تريد بنا؟
ليس هناك مشكلة بلا حل، وليس هناك قضية تستعصي على الحوار، فمن المعروف أن أي عمل، مهما بلغ من النجاح، لا يصل إلى مرحلة الكمال، وعلينا أن نضع نصب أعيننا ضرورة السعي بلا كللٍ ولا مللٍ نحو تنمية شاملة يكون الوطن والمواطن محورها الأساسي. لكن، في الوقت نفسه، يجب أن ندرك أن الوطن ليس ساحة للمغامرات غير المحسوبة، ولا منصة لتجارب قد تُكلف استقراره ثمنًا باهظًا، فقد يرى البعض أن التعبير عن الرأي لا يكون إلا بالتجمهر، لكن الحقيقة أن الصوت القوي لا يحتاج إلى الضجيج. وكما يقال: "كثرة الضجيج قد يفقد السمع"؛ فالمطالب الحكيمة لا تصل إلّا عبر الحوار، لا عبر الفوضى، والمنطق في الطرح أقوى من الصراخ في الشوارع.
إنَّ مسؤوليتنا تجاه وطننا اليوم ليست مجرد شعارات أو كلمات تُقال، بل أفعال تعكس وعينا الحقيقي، فهل نريد أن نكون جزءًا من الحل أم جزءًا من المشكلة؟ هل نسعى إلى التعبير عن الرأي، أم نفتح الأبواب لمن يريد استغلال أوضاعنا لصالح أجنداته الخاصة؟ علينا أن نُدرك أن الحفاظ على استقرار الأوطان ليس خيارًا؛ بل ضرورة مصيرية، وأي خلل في هذا الاستقرار لن يؤثر على فرد أو مجموعة، بل سيمسنا جميعًا، دون استثناء.
نحن في لحظة فارقة، لحظة تتطلب منَّا أن نكون على قدر المسؤولية، لا أحد ينكر أن لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه، ولكن التعبير في حد ذاته ليس غاية، بل وسيلة، ويجب أن يكون وسيلة للبناء لا للهدم؛ فالأوطان لا تُبنى بالغضب، ولا تنهض بالفوضى، بل تنهض بالعقل، بالحوار، بالعمل المشترك.
لنكن أوفياء لوطننا كما كان وفيًا لنا، فلنحفظ له استقراره كما حفظ لنا كرامتنا؛ فالأوطان أمانة، فلا تعبثوا بها.