كتب ميروسلافا بيتسا ودانييل ويتنبرج، مراسلا شبكة "بي بي سي" البريطانية، تقريرا للشبكة بعنوان "كيف كانت الحال في الغرفة أثناء مباراة الصراخ في المكتب البيضاوي"، وصفا فيه عشر دقائق نارية بين قمة رأس بلدين من المفترض أنهما متحضران. يقول الصحفيان إن اليوم بدأ روتينيا بتصافح الرئيسين واستعراض حرس الشرف، وبعد محادثات ثنائية، دخل الصحفيون إلى المكتب البيضاوي، لنقل الكلمات البروتوكولية التي اعتادها الصحفيون من الرؤساء، وهو ما كان لمدة نصف ساعة، وقدم زيلينسكي لترامب حزام بطولة الملاكم الأوكراني "أوليكساندر أوسيك"، فيما أشاد ترامب بملابس زيلينسكي، ولكن بعد دقائق قليلة، انفجرت الأمور بشكل غير مسبوق، بعد أن تحولت نبرة ترامب إلى عدائية وفوضى، وارتفع صوته ونائبه، بدءا في إلقاء التهم على الضيف الأوكراني، ووبخ ترامب ونائبه الرئيس الأوكراني، متهمين إياه بعدم شكر أمريكا لما قدمته له من دعم في حربه ضد روسيا.



قد تكون نقطة التحول الطوري في اللقاء عندما قال نائب الرئيس الأمريكي لزيلينسكي إن الحرب يجب أن تنتهي بالدبلوماسية، فأجاب الضيف: أي دبلوماسية؟

هنا بدأ الصراخ ومعه الاتهامات تكال في وجه الرئيس الأوكراني الذي اتهم بقتل شعبه وإضاعة أرضه، وضعفه أمام قوة روسيا، واعتراضهما على سؤال زيلينسكي عن ضمانات خطة ترامب لإنهاء الحرب، لكن الرجل يعلم أن الهدف من كل ذلك قبوله باتفاق كان معدا قبل وصوله؛ بموجبه يدفع زيلينسكي تكاليف الحرب وشحنات السلاح التي قدمتها واشنطن له، وهو ما يترجم تصميم ترامب ونائبه على أن رئيس أوكرانيا لم يشكر أمريكا على ما قدمت له؛ ومن ثم عليه أن يدفع ثمن ذلك.

استطاع ترامب وبجدارة أن يحطم كل القواعد الدبلوماسية والبروتوكولات المعمول بها من مئات السنين، والناظر إلى الحوار وما تخلله من لغة جسد وصلت إلى حد دفع ترامب لزيلينسكي في كتفه، يعلم أن حالة من اللا منطقية سادت
ففي مقابل هذا الدعم الأمريكي يجب على زيلينسكي أن يدفع الثمن، ولأن الرجل لا يملك ما يدفعه فعليه أن يتنازل عن نصف المعادن النادرة في بلاده، وهو طلب جريء، إذ إن أوكرانيا تمثل 7 في المئة من احتياطي العالم من التيتانيوم، ولديها خامس أكبر إنتاج لمادة الجاليوم وهو العنصر المستقدم في أشباه الموصلات، ولأن العالم مقدم على التحول إلى صناعة السيارات الكهربائية، والتي تحتاج إلى بطاريات الليثيوم، فإن ترامب يضع عينه على مخزون أوكرانيا من الجرافيت الذي يقدر بــ30 في المئة من احتياطي أوروبا، ومعه 20 في المئة من احتياطي مادة الجرافيت، ولأن أوكرانيا تمتلك رابع أكبر احتياطي من النحاس، فيرى ترامب أن على أمريكا أن تأخذ نصفه..

وهكذا، فإن الرئيس الأمريكي غير مقتنع بحزام الملاكم "أوليكساندر أوسيك"، بل يريد الجزية التي يفرضها على بقعة جغرافية اعتادت تقديم الجزية من مئات السنين، لكن الرئيس المنتخب من شعبه، والذي يعاني الحرب والدمار وانهيار الاقتصاد، رد على راعي البقر الأمريكي بما يليق بكرامة شعبه وبلده. وعلى الرغم من أن الرجل، وبحسب استطلاعات الرأي، تعاني شعبيته في ظل التراجع الميداني، والاقتصادي وطول أمد الحرب، إلا أن المنتخب يستمد قوته من قوة الأصوات التي اختارته، حتى آخر لحظة من ولايته.

استطاع ترامب وبجدارة أن يحطم كل القواعد الدبلوماسية والبروتوكولات المعمول بها من مئات السنين، والناظر إلى الحوار وما تخلله من لغة جسد وصلت إلى حد دفع ترامب لزيلينسكي في كتفه، يعلم أن حالة من اللا منطقية سادت، حتى إن الخارجية الروسية علقت على اللقاء بسخرية قائلة إن احتفاظ ترامب ودي فانس بضبط النفس وعدم ضربهما زيلينسكي "معجزة"، وكأنها شامتة فيما فعل ترامب بعدوها، لكن المنصف يمكن أن يصف تصرفات الرئيس الأمريكي ومعه نائبه والضيف الأوكراني في هذا اللقاء؛ بأن الأخير فقط هو من مارس الدبلوماسية، أما المضيف ونائبه فكانا أبعد ما يكون عن حتى أخلاق المافيات في حانات لاس فيغاس في وقت متأخر من ليلة السبت.

تاريخ العلاقة بين زيلينسكي وترامب لم تكن جيدة من اليوم الأول، إذ يرى الأخير أن زيلينسكي جامل بايدن في اتهامات طالت ابن الرئيس الأمريكي السابق، هانتر، في قضية فساد مرتبطة بشركة بوريسما للطاقة الأوكرانية، والتي كان هانتر عضوا في مجلس إدارتها، فأقال زيلينسكي المدعي العام الأوكراني، الذي ثبت فساده فيما بعد، وقيل في حينها إن بايدن ضغط على زيلينسكي لإقالته، حتى لا تكون القضية معرقلة لمسيرة بايدن في السباق الرئاسي، وهو ما جعل ترامب يحمل الضغينة في قلبه تجاه الرئيس الأوكراني، لا سيما بعد أن فاز بايدن بالرئاسة.

"أحداث المكتب البيضاوي" ستكون علامة فارقة تدرس في معاهد الدبلوماسية في المستقبل كحدث تحولت فيه الدبلوماسية من شكلها التقليدي إلى ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الترامبية، وفيها يمكن للرؤساء والدبلوماسيين أن يتشاحنوا أمام وسائل الإعلام، وقد يتقاذفون بالأوراق، وربما بما هو أثقل من أجل فرض وجهة النظر، أو فرض إتاوات كما يفعل ترامب
هذه القصة، وما شهده المكتب البيضاوي، تحمل علامات على ما يحمله ترامب من أفكار تعيد تحديد شكل العالم، وقواعده السياسية وحتى الدبلوماسية، فترامب ومعه نائبه، ولا يمكن استبعاد طاقمه الرئاسي الذي اختاره على عينه، يتخذون من مبدأ القوة الدبلوماسية الغاشمة الملوحة بقوة العقوبات الاقتصادية، وربما رفع الحماية العسكرية، منهجا لفرض الرأي، بل وفرض الواقع، لذا فليس من المستغرب أن ينشر ترامب على صفحته على منصة أكس فيديو لـ"غزة ترامب".

لكن هذه السياسة وهذه الجلسة، ومن قبلها تصريحات وتسريبات، وربما محادثات ترامب مع القادة الأوروبيين، قد ترسم شكل العلاقات الأوروبية- الأمريكية التي بدأت في التوتر منذ بداية ولاية ترامب، والتي دفعت أوروبا لاتخاذ خطوات باتجاه الاعتماد على النفس، وربما تكون تلك الخطوات هي ما جعلت بايدن يقحم أوروبا في حرب أوكرانيا لاستنزافها. ولقد كتبنا في ذلك منذ بداية الحرب سلسلة مقالات بعنوان "أوكرانيا حرب الفرص". فعلى الرغم من الانقسام الأوروبي حول ما حدث في واشنطن مع زيلينسكي، إلا أن الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي كان قاطعا ورافضا، حيث علقت مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي بأن "العالم الحر يحتاج إلى قائد جديد ونحن الأوروبيين سنواجه هذا التحدي"، ما يعني أن ترامب ونائبه استطاعا بهذه المقابلة أن يدفعا إلى ترسيخ مزيد من الشقاق في العلاقات الأوروبية- الأمريكية.

"أحداث المكتب البيضاوي" ستكون علامة فارقة تدرس في معاهد الدبلوماسية في المستقبل كحدث تحولت فيه الدبلوماسية من شكلها التقليدي إلى ما يمكن تسميته بالدبلوماسية الترامبية، وفيها يمكن للرؤساء والدبلوماسيين أن يتشاحنوا أمام وسائل الإعلام، وقد يتقاذفون بالأوراق، وربما بما هو أثقل من أجل فرض وجهة النظر، أو فرض إتاوات كما يفعل ترامب، لكن ما يهمنا نحن العرب هو سؤال عريض بعرض جغرافيا الوطن العربي: متى ستلد لنا الأرض العربية رئيسا مثل زيلينسكي؟

وحتى لا ترهق نفسك، ونرهق الأرض معنا، فالإجابة: عندما تختار الشعوب من يحكمها..

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه زيلينسكي ترامب دبلوماسية امريكا اوكرانيا دبلوماسية ترامب زيلينسكي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المکتب البیضاوی الرئیس الأمریکی

إقرأ أيضاً:

الرئيس الأمريكي يعلن مشاركته في جنازة البابا فرنسيس بروما

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الإثنين، أنه يعتزم حضور جنازة البابا فرنسيس في العاصمة الإيطالية روما، برفقة السيدة الأولى ميلانيا ترامب.

وقال ترامب، في تصريحات نقلتها شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية، "نتطلع إلى حضور جنازة البابا فرنسيس، لتكريم إرثه العظيم وما قدمه للعالم من رسائل سلام ومحبة وتسامح".

وأضاف الرئيس الأمريكي أن الفاتيكان والعالم فقدا "قائدًا روحانيًا ملهمًا، كرس حياته لخدمة الإنسانية والدفاع عن الفقراء والمظلومين"، مؤكدًا أن حضوره الجنازة يعكس احترام الشعب الأمريكي للبابا فرنسيس ولما مثّله من قيم.

ويُذكر أن الفاتيكان لم يصدر بعد بيانًا رسميًا بشأن مراسم الجنازة وتفاصيل المشاركة الدولية، فيما بدأت وفود من مختلف أنحاء العالم التحضير للتوجه إلى روما لتوديع البابا فرنسيس، الذي شغل منصب الحبر الأعظم منذ عام 2013، وكان أول بابا من أمريكا اللاتينية.

مقالات مشابهة

  • المبعوث الخاص لترامب: أوكرانيا لا يمكن أن تكون جزءاً من الناتو
  • عضو حزب البتريوت الأوكراني: الرأي العام في أوكرانيا ضد الأمريكي بالوقف المشروط للحرب
  • الرئيس الأمريكي يعلن مشاركته في جنازة البابا فرنسيس بروما
  • معبوث ترامب يحسم طلب أوكرانيا بشأن الناتو.. لا يمكن أن تكون عضوا
  • نائب الرئيس الأمريكي عن بابا الفاتيكان: قلبي مع ملايين المسيحيين حول العالم
  • أخبار العالم| وزير الدفاع الأمريكي متهم بنشر معلومات حساسة حول ضربات اليمن.. وانتهاء هدنة عيد الفصح في أوكرانيا وسط تبادل الاتهامات وغياب التمديد
  • الرئيس الأمريكي تهديد خطير للسلم العالمي
  • الفاتيكان: لقاء قصير جمع البابا فرانسيس ونائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس
  • الدبلوماسية تغلب طبول الحرب .. جولة نووية جديدة بين إيران وأمريكا
  • زيلينسكي: 277 أسيرا من الجيش الأوكراني عادوا في أحدث عملية لتبادل أسرى مع روسيا