تيار التغيير الجذري في السودان-الإشكالية الأيديولوجية والعزلة السياسية
تاريخ النشر: 2nd, March 2025 GMT
الثورة والبحث عن البديل الجذري
بعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019، برز تيار التغيير الجذري كواحد من أهم القوى السياسية التي سعت إلى تفكيك نظام الحكم القديم وإعادة بناء الدولة وفق رؤية ثورية ترفض التعايش مع العسكر أو القوى التقليدية. لكن رغم مشاركته الفاعلة في الثورة، يواجه هذا التيار – المرتبط عضوياً بالحزب الشيوعي السوداني وحلفائه – أزمات بنيوية تعكس تناقضات اليسار الراديكالي في سياق مجتمعي معقد.
الأسس الأيديولوجية لتيار التغيير الجذري: الماركسية والواقع السوداني
يعتمد التيار على خطابٍ ماركسي لينيني يُركز على:
• تفكيك الدولة الطبقية: بإسقاط الهياكل العسكرية والأمنية المهيمنة منذ الاستعمار.
• محاربة الرأسمالية الطفيلية: عبر تصفية نفوذ كبار الموالين للنظام السابق الذين يتحكمون في الاقتصاد.
• إعادة توزيع السلطة: عبر دعم المجالس الشعبية ولجان المقاومة كبديلٍ عن المركزية البيروقراطية.
لكن هذه الشعارات تصطدم بواقعين:
1. الانفصال عن اللغة الشعبية: فالمصطلحات الماركسية (مثل "الصراع الطبقي"، "الهيكلة المادية") تبقى غريبة على مجتمعٍ تغلب عليه الثقافة الدينية والتركيبة القبلية. مثلاً، الحزب الشيوعي السوداني تاريخيًا واجه صعوبات في كسب التأييد الشعبي الواسع بسبب هذه الفجوة اللغوية والثقافية.
2. التبسيط المفرط للأزمات: إذ يُختزل انهيار السودان في "الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية"، بينما تتشابك الأزمة مع عوامل إثنية وإقليمية ودولية. مثال على ذلك، الصراعات في دارفور وجنوب السودان لم تكن فقط بسبب التفاوت الطبقي، بل تعقدت بسبب النزاعات العرقية والتدخلات الخارجية.
الإشكالية السياسية: بين التشدد الثوري وعزلة التسويات
• رفض التفاوض مع العسكر: يرفض التيار أي حوار مع قادة الجيش أو قوات الدعم السريع، معتبراً أن التسويات السياسية "خيانة للثورة". هذا الموقف عزّز من شعبيته لدى الشباب الثوري، لكنه حوّله إلى طرفٍ خارج المعادلة السياسية الفعلية، خاصة بعد توقيع اتفاقيات إقليمية (مثل اتفاق جوبا) دون مشاركته.
• الانقسام داخل القوى المدنية: أدى التشدد الأيديولوجي للتيار إلى صدام مع تحالفات "قوى الحرية والتغيير" التي تتبنى نهجاً براغماتياً، مما فتح الباب أمام العسكر لاستغلال هذه الانقسامات. يمكن مقارنة ذلك بتجربة الحزب الشيوعي السوداني في الستينيات عندما اصطدم مع القوى الوطنية الأخرى في أعقاب ثورة أكتوبر 1964، مما أدى إلى إضعاف دوره السياسي لاحقًا.
• غياب البرنامج العملي: رغم تشخيصه الدقيق لفساد النظام القديم، يفتقر التيار إلى خطة واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، مثل كيفية تعويض خدمات الدولة المنهارة أو مواجهة اقتصاد الحرب الذي تديره الميليشيات. على سبيل المثال، التجربة التشيلية تحت حكم سالفادور أليندي في السبعينيات أظهرت كيف يمكن لليسار الراديكالي أن يفشل إذا لم يقدّم حلولًا اقتصادية عملية.
الإعلام والخطاب: الماركسية كعقبة أمام التواصل الجماهيري
• الإعلام النخبوي: يعتمد التيار على منصات التواصل الاجتماعي وندوات النخبة المثقفة، بينما تُهيمن القوى التقليدية (الإسلاميون، العسكر) على الإذاعات والقنوات التلفزيونية التي يتابعها عموم السودانيين، خاصة في الريف.
• اللغة الأكاديمية المعقدة: خطاب التيار مليء بمصطلحات مثل "الديالكتيك المادي" و"الاستغلال الرأسمالي"، والتي تتناقض مع لغة الشارع البسيطة المليئة بالمطالب اليومية (الخبز، الوقود، الأمن). يمكن مقارنة ذلك بتجربة الأحزاب اليسارية في الهند، حيث اضطرت بعض الفصائل الماركسية إلى تبسيط خطابها ليصل إلى الفلاحين والعمال.
• الماركسية كـ"تابو" اجتماعي: في مجتمعٍ يرى في الماركسية إرثاً غربياً معادياً للدين، يصعب على التيار تجاوز هذه الصورة دون تبني خطابٍ ديني أو ثقافي مُدمج، كما فعلت قوى إسلامية سابقاً بدمج الشريعة مع الخطاب الاجتماعي. تجربة "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية تمثل نموذجًا على كيفية دمج الفكر اليساري مع التقاليد الدينية لكسب التأييد الشعبي.
المستقبل: هل يمكن تحويل التنظير إلى فعل سياسي؟
• خيار التكيف مع الواقع: يحتاج التيار إلى إعادة صياغة خطابه بلغةٍ تلامس الهم اليومي (مثل مكافحة الفقر، دعم التعليم المجاني)، بدلاً من التركيز على الشعارات الثورية المجردة. يمكن الاستفادة من تجربة "حزب العمال" في البرازيل، الذي تبنّى سياسات اجتماعية فعالة جعلته يحظى بتأييد واسع.
• التحالف مع القوى المحلية: قد يُعيد التيار اكتشاف قوته إذا تحالف مع تنظيمات مهنية (مثل اتحادات الأطباء، المعلمين) ولجان المقاومة التي تمتلك قاعدة شعبية، شرط أن يقدّم نفسه كداعم لمطالبها لا كقائد أيديولوجي. مثال سوداني على ذلك هو تجربة الاتحادات المهنية في انتفاضة أبريل 1985، التي استطاعت تنظيم الإضرابات وتوجيه الشارع نحو التغيير.
• الاستثمار في الإعلام الشعبي: تطوير منصات إعلامية بلغات محلية وبلهجات سودانية، والاستفادة من الفنون الشعبية (كالغناء، المسرح) لنقل الأفكار دون الوقوع في فخ التلقين الأيديولوجي. تجربة الفرق المسرحية في السودان مثل "فرقة الأمل" في التسعينيات تقدم نموذجًا ناجحًا في نقل الرسائل السياسية عبر الفن.
• مراجعة الموقف من التسويات: قد يُعيد التيار حساباته إذا أدرك أن رفضه المطلق للتفاوض يخدم العسكر، الذين يستفيدون من انقسام المدنيين ليبقوا مهيمنين على المشهد. تجربة الحزب الشيوعي الإسباني بعد سقوط فرانكو قد تكون مثالًا على كيفية الانخراط في السياسة دون التخلي عن المبادئ.
الثورة الجذرية أم الإصلاح التدريجي؟
تيار التغيير الجذري يقف عند مفترقٍ وجودي: إما أن يظل سجين خطابه الأيديولوجي، مُقتصراً على تأثيرٍ رمزي في أوساط النخب والطلاب، أو أن يخوض مغامرة التحول إلى قوة جماهيرية عبر تبني لغةٍ جديدةٍ توفق بين المبادئ الثورية وواقع المجتمع السوداني. المشكلة أن هذا التحول يتطلب مراجعةً جذريةً لليسار السوداني نفسه، الذي ظل لعقودٍ يعتقد أن "الصواب الأيديولوجي" كافٍ لقيادة التغيير، بينما التاريخ يُثبت أن الثورات الناجحة هي تلك التي تعرف كيف تُحوّل الشعارات إلى خبزٍ وحرياتٍ ملموسة.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التغییر الجذری
إقرأ أيضاً:
معركة القصر الرئاسي السوداني: كيف تطورت الأحداث وما التالي؟
تصاعدت المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حول القصر الرئاسي في الخرطوم، وسط تقدم ميداني للجيش في عدة محاور وتصاعد هجمات الدعم السريع بالطائرات المسيرة، مما يعمق الأزمة السياسية والإنسانية في البلاد دون أفق للحل.
تتسارع الأحداث في السودان بوتيرة متصاعدة، حيث اندلعت مواجهات دامية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في محيط القصر الرئاسي وسط العاصمة الخرطوم. تدور المعارك الشرسة في منطقة استراتيجية تضم مقرات وزارية وسيادية، ما يجعل السيطرة على هذا الموقع أمراً بالغ الأهمية في معادلة الصراع الدائر بين الطرفين منذ اندلاع الحرب.
جذور الأزمةتعود جذور الأزمة إلى التوترات المتصاعدة بين الجيش وقوات الدعم، التي بدأت منذ الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في عام 2019. ومع تعثر العملية الانتقالية وتعاظم الخلافات حول تقاسم السلطة، تحول النزاع السياسي إلى مواجهة عسكرية مفتوحة في عام 2023، بآثار إنسانية كارثية.
كانت البداية بمواجهات محدودة في العاصمة الخرطوم، سرعان ما امتدت إلى مختلف أرجاء البلاد، مدفوعة بتداخل المصالح السياسية والعسكرية والقبلية. تفاقم الصراع بعد انهيار محادثات السلام في جوبا، والتي كانت تهدف إلى تهدئة الأوضاع وإيجاد حل سياسي شامل.
2024: مرحلة التصعيد العسكري والتحالفات الجديدةشهد عام 2024 تصعيداً غير مسبوق في العمليات العسكرية، حيث تحولت الحرب إلى نزاع طويل الأمد بين قوتين عسكريتين متنافستين. وتعمقت الأزمة مع ظهور تحالفات جديدة بين قوات الدعم السريع وبعض الفصائل المسلحة، خاصة الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، ما زاد من تعقيد المشهد الميداني والسياسي.
Relatedحرب السودان تثير مخاوف التقسيم والتفتت بعد سبعة أشهر على اندلاعهاواشنطن تتهم موسكو باللعب على الحبلين في حرب السودان لاستثماراتها في تجارة الذهبأبرزها مصر والإمارات.. كيف تستغل القوى الإقليمية الحرب السودانية لتحقيق مكاسبها؟وفي ظل هذا التصعيد، بدأ الجيش السوداني في استعادة بعض المواقع الاستراتيجية، إلا أن قوات الدعم السريع أظهرت تكتيكات ميدانية فعالة بالاعتماد على حرب العصابات والانتشار في المناطق السكنية، مما جعل عملية الحسم العسكري أمراً بالغ الصعوبة.
معركة السيطرة على القصر الرئاسيوفي الوقت الراهن، تتطور حدة الصراع بصورةٍ خطرة، إذ اندلعت مواجهات عنيفة في محيط القصر الرئاسي وسط الخرطوم، حيث تحاول قوات الجيش السوداني إحكام سيطرتها على هذا الموقع الاستراتيجي الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب.
ورغم فرض الجيش حصاراً محكماً على القصر، إلا أنه يواجه مقاومة شديدة من قبل قوات الدعم. ومع ذلك، تمكن الجيش من إحراز تقدم في عدة محاور، حيث سيطر على حي إضافي قريب من القيادة العامة، واستعاد أجزاء واسعة من ضاحية حلة كوكو بشرق النيل، ويسعى للسيطرة على الجسر الذي يربط أطراف العاصمة الخرطوم.
هجمات بالطائرات المسيرة وتصعيد في الشمالوفي شمال البلاد، شنت قوات الدعم السريع هجوماً بالطائرات المسيرة على مدينة مروي، مما أدى إلى انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة. وذلك بعد استهداف سابق لمطار مروي الدولي.
كما امتدت دائرة القتال إلى ولاية النيل الأزرق، معقل نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، حيث تمكن تحالف جديد بين قوات الدعم السريع والحركة الشعبية من السيطرة على بلدات أولو وملكا والروم.
ويعكس هذا التصعيد تعقيد المشهد السياسي في السودان، حيث يتداخل البعد العسكري مع السياسي في ظل غياب أفق واضح للحوار. وتبدو محاولات الحسم العسكري بعيدة المنال، خاصة مع التحالفات الجديدة والتكتيكات الميدانية المتطورة لقوات الدعم السريع. كما أن اتساع رقعة النزاع ليشمل مناطق استراتيجية مثل مروي والنيل الأزرق يعكس رغبة في تغيير موازين القوى على الأرض، ما يفتح الباب أمام احتمالات تصاعد الصراع إلى حرب أهلية أكثر شمولاً.
الأزمة الإنسانية: تحذيرات أممية من كارثة وشيكةوفي ظل تفاقم الصراع، جددت الأمم المتحدة تحذيرها من خطر انزلاق البلاد نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة. وأكد المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أن استمرار الحرب من دون السماح بتدفق المساعدات يهدد بوفاة مئات الآلاف بسبب نقص الغذاء والإمدادات الضرورية.
Relatedتصعيد دموي في السودان: أكثر من 200 قتيل في هجوم لقوات الدعم السريع خلال ثلاثة أيامحرب السودان: 12 مليون نازح وبنيةٌ صحية منهارة واستهدافٌ ممنهج للمستشفيات والأطباءالأمم المتحدة تحذر: السودان يواجه كارثة إنسانية والمجاعة تمتد إلى مناطق جديدةمن جانبه، أعلن برنامج الغذاء العالمي تعليق توزيع المساعدات في مخيمات النازحين بشمال دارفور بسبب تصاعد العنف، ما يعمق الأزمة الإنسانية التي تعصف بملايين السودانيين.
مساعي الوساطة ومستقبل الصراعومع تصاعد العنف، تزايدت الضغوط الدولية لإنهاء هذا الصراع، حيث دعت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية إلى وقف فوري لإطلاق النار واستئناف الحوار السياسي.
ورغم محاولات الوساطة من قبل عدد من الدول الإقليمية والدولية، إلا أن غياب الثقة بين أطراف النزاع وتضارب المصالح الإقليمية والدولية حال دون تحقيق أي تقدم ملموس نحو تسوية سياسية.
في ظل هذه المعطيات واتجاه الأحداث، يبدو أن السودان مقبل على مرحلة طويلة من الصراع المسلح، في ظل غياب أفق واضح للحل السياسي واستمرار التصعيد العسكري. ومع تصاعد الأزمة الإنسانية، يتزايد خطر انهيار الدولة السودانية وتحولها إلى بؤرة فوضى إقليمية، وتظل التساؤلات حول أفق أي تسوية مفتوحة.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية الأمم المتحدة تحذر: السودان يواجه كارثة إنسانية والمجاعة تمتد إلى مناطق جديدة ارتفاع ضحايا تحطم طائرة النقل العسكرية في السودان إلى46 قتيلًا على الأقل ضربة أخرى لقوات حميدتي.. الجيش السوداني يكسر حصار الدعم السريع لمدينة الأبيض الاستراتيجية عبد الفتاح البرهان جمهورية السودانقوات الدعم السريع - السودانمحمد حمدان دقلو (حميدتي)