في الساعة الخامسة مساءً من يوم 27 فبراير/ شباط 2025، توقفت الحياة في تركيا، وتوجهت الأنظار بأَسرها إلى الشاشات، حيث كان من المقرر أن يُقرأ في هذا التوقيت بيان عبدالله أوجلان، مؤسس تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف كمنظمة إرهابية، والذي يقضي عقوبة السجن منذ 26 عامًا في جزيرة إمرالي وسط بحر مرمرة.

تكمن أهمية هذا البيان في كونه كان متوقعًا أن يتضمن دعوة أوجلان للتنظيم وأذرعه المختلفة في سوريا والعراق وإيران، إلى التخلي عن السلاح وحلّ الحزب نهائيًا.

وفعلًا، عند الساعة المحددة، ظهر ممثلو حزب الشعوب الديمقراطي (DEM) أمام الكاميرات، وقرؤُوا ذلك البيان التاريخي. فقد دعا أوجلان بشكلٍ غير مشروط إلى إلقاء السلاح، وحلّ حزب العمال الكردستاني، حيث قال بوضوح:

"يجب على جميع الفصائل التخلي عن السلاح، وعلى حزب العمال الكردستاني أن يُعلن حلّ نفسه".

سبق أن حاولت تركيا، خلال الفترة بين 2009 و2014، إنهاء النزاع المسلح عبر ما سُمّي بـ"عملية السلام"، إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل، حيث استغلّ حزب العمال الكردستاني الفرصة، وأعاد تنظيم صفوفه تحت أسماء مختلفة في شمال سوريا، بدعمٍ من الولايات المتحدة، ليؤسس منطقة روج آفا، مما أدى إلى انهيار العملية.

إعلان

ولذلك، قوبلت أي دعوات جديدة لحلّ النزاع المسلح بموجة من الرفض داخل تركيا. لكن الأمور تغيّرت بعد حرب غزة. فقد أدرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن النزاع قد يمتدّ إلى سوريا، ومن هناك قد يُحدث تأثيرات داخلية على تركيا، مما دفعه إلى تبني إستراتيجية "توحيد الصفوف وتعزيز الجبهة الداخلية".

ومن هذا المنطلق، جاءت دعوته إلى إنهاء نفوذ حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، حتى لا يكون أداةً لاستقطاب الأكراد داخل البلاد. وعلى نحو غير متوقع، أيّد هذه الخطوة دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية (MHP)، وهو الحزب المعروف بمعارضته الشديدة لأي محاولات سابقة لحلّ النزاع سياسيًا.

في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2024، وبعد لقاءات أجراها مع شخصيات من حزب الشعوب الديمقراطي، أطلق بهتشلي تصريحًا صادمًا قال فيه:

"إذا كان أوجلان سيدعو إلى التخلي عن السلاح وحلّ التنظيم، فليتحدث في البرلمان ضمن كتلة حزب الشعوب الديمقراطي".

هذا التصريح أحدث زلزالًا سياسيًا داخل تركيا، وسرّع من مسار العملية.

على الفور، أعلن أردوغان دعمه القوي لهذه المبادرة، وكلف رئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن بإدارة العملية. ثم زار ممثلو حزب الشعوب الديمقراطي أوجلان في سجنه، حيث وافق الأخير على دعوة بهتشلي. وهكذا بدأ الإعداد للبيان الذي قُرئ في 27 فبراير/ شباط.

وفي الوقت الذي كان فيه مسؤولو حزب الشعوب الديمقراطي يتواصلون مع القوى السياسية لحشد الدعم، تولى إبراهيم قالن التخطيط لمراحل العملية.

جاء البيان مكتوبًا بخط يد أوجلان باللغة التركية، على امتداد ثلاث صفحات ونصفٍ، ومُذيّلًا بتوقيعه وتاريخ 25 فبراير/ شباط 2025. نُسخ البيان رقميًا وسُلم إلى وفد حزب الشعوب الديمقراطي لقراءته. وقد حضر تسليم الرسالة محامو أوجلان وبعض رفاقه في السجن، والتُقطت صورٌ لهذه اللحظة نُشرت لاحقًا في وسائل الإعلام.

إعلان

ضم الوفد الذي توجّه إلى جزيرة إمرالي سبعة أعضاء من حزب الشعوب الديمقراطي، وكان من بينهم أحمد تُرك، رئيس بلدية ماردين السابق، الذي قرأ نص البيان باللغة الكردية، قبل أن تتولى بروين بولدان، الرئيسة السابقة للحزب ونائبة البرلمان، قراءة النص الأصلي المكتوب بالتركية.

بدأ أوجلان رسالته بشرح الأسباب التي دفعته لتأسيس التنظيم، وكيف تطوّرت أفكاره الأيديولوجية عبر الزمن، ولماذا لم يحقق التنظيم النجاح المرجوّ، حيث كتب:

"إنّ حزب العمال الكردستاني، الذي يُعدّ أطول حركات التمرّد والعنف في تاريخ الجمهورية، لم يتمكن من الاستمرار إلا بسبب غياب قنوات السياسة الديمقراطية. غير أن الحلول القائمة على القومية المتطرفة، مثل الدولة القومية المنفصلة، أو الفدرالية، أو الإدارة الذاتية، أو الحلول الثقافية، لم تُثبت فاعليتها في مواجهة البنية الاجتماعية التاريخية".

ثم أعلن في الجزء الأخير من رسالته تفكيك الحزب نهائيًا، بقوله:

"إنني، وفي ظل المناخ السياسي الذي تشكّل بفعل دعوة السيد دولت بهتشلي، والإرادة التي أظهرها السيد الرئيس، والموقف الإيجابي الذي اتخذته بقية الأحزاب، أتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الدعوة إلى إلقاء السلاح. وكما تفعل كل المجتمعات الحديثة والأحزاب، التي لم تُجبر على التلاشي بالقوة، أدعوكم إلى عقد مؤتمر واتخاذ قرار بحلّ الحزب نهائيًا. يجب على جميع الفصائل التخلي عن السلاح، وعلى حزب العمال الكردستاني أن يُعلن حلّ نفسه. أحيّي جميع الأطراف التي تؤمن بالتعايش المشترك، وتستجيب لندائي".

ما تأثير هذه الدعوة؟ البيان كان واضحًا وحاسمًا، ولا يترك مجالًا لأي تأويل. وهذا يعني أن معظم مقاتلي الحزب سيمتثلون للقرار، ومن يرفضه سيتحوّل إلى متمرد على أوجلان نفسه. كما أن الدعم الشعبي للتنظيم سيتراجع بشكلٍ كبير. بغضّ النظر عن مدى التزام الحزب بقرار الحلّ، فإن تركيا تعتبر هذه الدعوة انتصارًا كبيرًا في مكافحة الإرهاب. حلّ الحزب يُعزز موقف إقليم كردستان العراق والحكومة العراقية، إذ طالما شكّل التنظيم تهديدًا لهما، وسيكون التعامل معه بعد الآن أكثر سهولة. في المقابل، أعلنت وحدات حماية الشعب (YPG) في سوريا أنها غير معنية بهذه الدعوة، قائلةً: "دعوة أوجلان تخصّ حزب العمال الكردستاني، وليس نحن". ومع ذلك، قد تؤدي هذه الخطوة إلى انقسامات داخل التنظيم، بسبب تحدي أوجلان، مما يُضعف بنيته الداخلية. تؤكد مصادر أمنية أن رفض وحدات حماية الشعب لهذه الدعوة جاء استجابةً لضغوط إسرائيلية وأميركية. مما سيجعل تركيا تصنفها بشكل أكثر وضوحًا كـ"مليشيا أجنبية تعمل بالوكالة". اكتسب النظام السوري ورقة ضغط جديدة لإجبار وحدات حماية الشعب على التخلي عن السلاح والاندماج في النظام. حتى لو حاول التنظيم إعادة التشكّل بأسماء أخرى، فإن معنوياته ومبررات وجوده لن تكون كما كانت، مما يعني تلاشيه مع الوقت. على الصعيد الداخلي، قد تُرفع حالة الطوارئ في المناطق المتضررة من النزاع، مما يُسرّع مشاريع التنمية والاستثمارات هناك. سيكون حزب الشعوب الديمقراطي أكثر تحررًا من ضغط حزب العمال الكردستاني، ما يُتيح له لعب دورٍ سياسي مدني أكثر استقلالية، مما يعزز المسار الديمقراطي في تركيا. أخيرًا، يُسجل لأردوغان وبهتشلي أنهما الزعيمان اللذان أنهيا أطول حركة تمرّد مسلح في التاريخ الحديث، ما سيُعزز شعبيتهما. كما أن إبراهيم قالن برز كمهندسٍ ناجح لهذا المسار، مما يُعزز موقعه في المشهد السياسي التركي. إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان حزب العمال الکردستانی حزب الشعوب الدیمقراطی هذه الدعوة

إقرأ أيضاً:

لماذا سقط الحلاق المتحمّس؟!

معضلة المثقف، فيما يبدو عموما، في ثلاثة هموم؛ المنصة، والشهرة، والإحساس المتضخم بالأهمّية. بعض هذه الهموم لا يمكن إنكار معقوليتها، فالمثقف الذي وظيفته إنتاج المعرفة بحاجة إلى منصة تُقدِّم معرفته للناس، وهنا تتداخل هذه المشكلة مع عصب الهموم كلّها، وهو المال. لكنّ هذه المنصة، في زمن الشيوع، واحدة من ألاعيب التضليل الكبرى، فحتّى حينما لا يجد المثقف فرصته في منصة كبرى، توفّر له الوصول إلى الناس، أو الشهرة، أو حتى حينما يزهد صادقا في هذا المسلك الذي يحفه الريب من كل جانب، ويكتفي بحساب له على مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّه قد يقع ضحية خوارزميات المنصّة، أو ضحية نفسه وجمهوره، وهو ما قد يعني أنّ المثقف أصلا، أقلّ أهمّية مما يتوهم، لأنّه مفعول به أكثر ممّا هو فاعل!

جرى التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها حالة تقدمية، من جهة أنها نتاج التطور التقني، ومن جهة أنّها تعبير عن ديمقراطية كونية. لكن هو هذا الدجل بعينه، فعلاوة على أنّك مثلا لو أخذت مجتمعا في بلد عربيّ ما، لتعرف من مواقع التواصل الاجتماعي موقفه من قضايا عامة، حرب غزّة مثلا، فإنّك ستعجز عن تقدير المزاج العام لهذا المجتمع، لأنّ السجن هو المصير الحتمي لمن يكتب خارج إرادة السلطة هناك، وذلك علاوة على تحكّم خوارزميات هذه المنصات في نسب الوصول، وعقابها الإلكتروني الصارم لمن يخالف "معايير مجتمعها"، في سخرية مهينة من هذا "المجتمع" الذي لم يُستشر في معاييره!

أرجو ألا تعتقد أنني أتحدث عن عدنان إبراهيم، فالتشابه هنا محض صدفة، وإنما الحديث عن حلاق مهذار، كان لا بدّ له أن يستعلن سقوطه، بعدما كان اكتشاف سقوطه الأصلي محتاجا من قبل إلى قليل من البحث من الزبائن المنبهرين بسعة اطلاعه
 سوف يتحوّل الكثيرون إلى حكواتية على هذه المنصات، التي يملك كل إنسان حسابا عليها، ويبدؤون في مراقبة السبل لحشد المتابعين، أو تكثير التفاعل، فينزلق البعض عن الانغماس في الهمّ العام، أو إنتاج المعرفة، إلى ما من شأنه أن "يساوي همّه"، والهَمّ أن يصير مشهورا، وأن يحسّ بالجدوى الفورية التي صارت تقاس بعدد المتفاعلين، ويا حبذا لو أوقفه البعض في الشارع وقال له إنه يتابعه، فكيف إن طلب صورة معه؟! فتخيل لو التقطته مؤسسة كبيرة، فاشترته وأنتجت له برنامجا في واحدة من منصاتها الممولة بسخاء! وحتى لو ظلّ جادّا، فإنه مصاب بالإحساس المتضخم بالأهمية، عليه أن يقول، فالناس تنتظر قوله كما يتوهّم، مع أنّه لو جرّب وغاب دهرا فلن يسأل عنه أحد، وعليه أن يكون متميزا فيما يقول، والتميز اختصاره "أنا"، وقد ضربوا المثل قديما على هذا الصنف من الخلق، كالذي بال في زمزم ليشتهر!

هذه التقدمية الوهمية، تُحوّل من لديه حدّ معقول من الموهبة، إلى ما يشبه الحلاق المتحمس المعروف في الحكايات التراثية العتيقة، كثير الكلام في كلّ أمر، وهو ما ينمّ في الحقيقة عن خِفّة المعرفة، وشهوة الهذر، وبما أنّ هذا النموذج كاد أن ينقرض في زماننا، فيشبهه اليوم سائق التكسي المتحمّس، الذي غالبا إمّا أن يناقشك في السياسة، وعليك أن تكون حذرا والحالة هذه، أو أن يستعرض عليك معارفه الدينية التي التقطها في حلقة جهنمية مفرغة من "ريلز" الفيسبوك، أو "شورتس" اليوتيوب، أو من التيكتوك!

على أيّة حال، ؛ وأنت تشعر أنه يكاد يقفز من منبره إلى دمشق باحثا عن قبر معاوية لنبشه، لكنه سريعا ما يذكّرك أنّ العباسيين فعلوا هذا من قبل، وهو لن ينسى، على ذكر العباسيين، وظيفته التنويرية بالسخرية المقذعة من المحدثين، بوصفهم، حسب تعبيره، "الجهاز الأيديولوجي للاستبداد"، وعليك أن تحفظ هذه البطولة الاستثنائية لشاتم أموات القرون الأولى وأنت تلاحظ كيف صار هو عينه أحد الحرّاس المثيرين للشفقة والازدراء للاستبداد المعاصر، وبما أنّ القضية، حكواتي في قهوة، أو مهذار في صالون حلاقة، فكيف يكتفي بذلك؟! ألم يكن الحلاق العتيق، كما يُحكى، يقلع الأضراس ويعالج الصداع ويطبب الحروق؟! ألم يكن طبيبا علاوة على كونه حكواتيّا؟! يجب أن يكون صاحبنا الحلاق إذن فيلسوفا، وفيزيائيّا، مهتمّا بنحو خاص بالـ "Cosmology"، مبادرا إلى الحلول الفلسفية للمعضلات الفيزيائية الكبرى، مع قدر من الاهتمام الذي لا بدّ منه بالبيولوجيا ونظرية التطوّر، لا سيما وأنّه مارتن لوثر الإسلام! كلّ ذلك وليس لديه كتاب واحد! ولا حتى مقالة، ومع ذلك، هو مثقف ومفكر وإصلاحي، مع أنّه لن يزيد على حلاق قارئ، يقرأ كلّ أسبوع موضوعا ويحفظه جيدا ويسلّى به زبائنه، الذين لن يجدوا الدافعية الكافية للبحث في دقة معلوماته!

يمكن للحلاق أن يسخر مرّة من عذاب القبر، بأسلوبه المسرحي المستظهر لانتفاخه بقصد تأكيد الثقة به والإعجاب في نفوس زبائنه، ويمكنه مرّة أخرى أن يثبته لأنّ من اجتمع قلبه على الله تتحقّق له الكرامات كسماع الموتى أو رؤيتهم يعذبون، وصاحبنا الحلاق موهوب بالكرامات الإلهية فلا مانع من أن يثبت ما نفاه، وأن ينفي ما أثبته، فإذا قيل له ذلك، عدّه من علامات العبقرية.

وهذا الحلاق ناقد مرّ للتراث، فيبرئ البخاري مرّة من حيث أراد ذمّ أحمد بن حنبل، ثمّ يعود لاتهام البخاري مرّة أخرى من الحيثية نفسها، ولأنّ الزبائن لا وقت لديهم للتفتيش فلن يقرؤوا في المصادر الفلسفية والتراثية الشيعية التي يستقي منها الحلاق معلوماته ثمّ يعيد صياغتها بأسلوبه المسرحي، لكنه أبدا لن يخفي في حينه تعاطفه مع هؤلاء الشيعة، وإذا كان الأمر كذلك، وقد قُدِّر للحلاق أن يظهر على الفضائيات، فما الذي يمنعه مرّة أن يدعم الثورة السورية حتى ولو بالسلاح على بشار الأسد، وذلك على قناة الجزيرة، ثمّ يزعم على قناة الميادين لاحقا أنّه لم يدعم هذه الثورة ولا مرّة في حياته، وذلك قبل اصطفافه الأخير؟! وأرجو ألا تعتقد أنني أتحدث عن عدنان إبراهيم، فالتشابه هنا محض صدفة، وإنما الحديث عن حلاق مهذار، كان لا بدّ له أن يستعلن سقوطه، بعدما كان اكتشاف سقوطه الأصلي محتاجا من قبل إلى قليل من البحث من الزبائن المنبهرين بسعة اطلاعه!

والحلاق صوفي زاهد، من أهل الله، يحب جلال الدين الرومي، ويحفظ أشعاره المترجمة، ويستظهر مدلولاتها العرفانية. أليست له كرامات؟! فلماذا يسعى خلف الأثرياء والساسة ممن يملكون الفضائيات ويَقْدرون على مكافأته بالكثير من المال لأجل معرفته التي تتراقص على صوت المقص، أو تهتز على صوت ماكينة الحلاقة، لأنّ حلاقنا حداثيّ تنويري مهتمّ بالعلم والتكنلوجيا، يجمع بين المقصّ التراثي والماكينة المعاصرة، ويعرف جيدا كيف يُدخِل ستيفن هوكنغ الجنة؟ هذه المكافآت لا يستطيعها زبائنه في "صالونه النمساوي"، إنّه زاهد مكتف بمحبة المريدين ممن استنارت قلوبهم بنور معرفته. لكنّ الحلاق يُظهِر تاليا خلاف ذلك، ويسعى خلف الأثرياء والساسة، من بلاد طالما ذمّها، ويُطِلّ من فضائياتهم، ويقبل بمناصب استشارية في بلادهم، ويسكت طويلا، ولا تدري لم يعود إلى الحديث. هل يناقض ذلك الولاية الربانية والقطبانية العرفانية؟! أبدا، فقد حفظ الحلاق أنّ الولي لا يُسأل عمّا يفعل، وقد يفعل ما ظاهره مذموم، ولكن باطنه يكون حينئذ مشرقا بنور المعرفة!

 الحلاق مهم، والفرصة المتاحة أيام "صالون الحلاقة النمساوي"، التحالف مع "الإسلاميين المتخلفين"، الذين اكتشف مبكرا جدّا تقدمه عليهم، إنهم لا يقرؤون، ولا يقدرونه حق قدره، ليسوا مثقفين، الإسلاميون لا ينتجون مثقفين، وهو مثقف، إنّه غريب بينهم، قرأ في مهاد طفولته ما تسامع به أكبرهم في شيخوخته، وربما لم يتسامع به حتى، لكن لا بأس، هو متحمس للإصلاح، فلماذا لا يَظهر في مشاريع بعضهم طالما أنهم يتحدثون عن الإصلاح؟ ولماذا لا يمدح القرضاوي على منبره "الصالوني" ويصفه بـ"من أعظم نعم الله تبارك تعالى، ومن أجل علماء الأمة في هذه الحقبة، وفي هذا الوقت الذي نعيش، الإمام الشيخ الفقيه الشاعر المجتهد الأصولي والمربي والمجاهد في سبيل الله منذ كان شابا شيخنا وشيخ أهل الذكر والفكر..."، ولماذا لا يصفق لشيخ مغربي يدافع عن الإخوان في مؤتمر نظمه إخواني كويتي! إنه إصلاحي ويفكك الاستبداد، بشتم معاوية وأحمد بن حنبل كل جمعة، وهؤلاء الإسلاميون يتحدثون عن الإصلاح، ولأنهم لا يقرؤون، فسوف ينبهرون بمعرفته، التي لم يؤكّدها حرف واحد مكتوب طوال ذلك الوقت. التحالف المصلحي المؤقت لا بدّ منه، لأنّ الأمر منوط بالفرص!

لكن إذا كان صاحبنا الحلاق، كثير التناقضات الدالة على عبقريته، كدعمه للثورة السورية مرّة في منصة، وزعمه أنه لم يفعل ذلك أبدا في منصة أخرى، فما الذي يمنعه من ذمّ القرضاوي أخيرا، وأن يجعل حسن البنا مرّة عميلا إنجليزيّا، ومرة شيعيّا مستترا، وقد كان الحلاق نفسه، ويا للمفارقة، هو المتهم بالتشيع!

لا بدّ وأنّ أيّ أحد، حلاقا كان أم غير ذلك، سيهتمّ لمصاب أبناء شعبه، وقد يعارض عملية السابع من أكتوبر، لأنّه رأى مآلاتها في حدود الراهن كارثية، لن يلومه أحد على ذلك، لكن أن يصف من فقدوا كلّ شيء، وصمدوا حتى آخر مقاتل، أنهم دبّروا عمليتهم بليل لتدمير شعبهم، فهذه كبيرة، وأكبر منها أن يقول إنه صمت حتى لا يُستخدم كلامه ضدّ شعبه، حتى لو تكلم لاحقا ليُستخدم كلامه ضدّ شعبه
 ذلك كلّه يمكن أن يمرّ، لكن كيف يمكن أن يمرّ الانقلاب على مشروع تفكيك الاستبداد؟! كيف يمكن لمن اصطنع شهرته بالنبش عن جذور الاستبداد في التاريخ أن يدعم الاستبداد المعاصر؟! يعلم الحلاق أنّ هذه كبيرة، وتمريرها صعب، لكن لا بأس، هو يعلم أن العالم منكوس، فهل وقفت عليه هو؟! ثمّ هو وليٌّ لديه كرامات، لا ينبغي أن يُسأل، كما أنّه لم يعد يقيم وزنا لزبائن صالونه السويسري، لم يكن يأتي الصالون القديم بهمه، ولكل مرحلة صالوناتها، كأيّ ممثل، أو مغني مهرجانات، انطلق من حيّ شعبيّ وصار لا بدّ وبعد الشهرة والمال أن ينتقل للسكن في كومباوند، ألا يغني حمو بيكا للصحوبية؟ غدا يغني للإنسانية، إنه مصلح على طريقته، غنّى مثلا "إنت معلمة" في قفزة تقدمية كبيرة في الغناء العربي في دعم الحركة النسوية، وفي دمج الميتافيزيقا الكونية بالعلم التجريبي للبحث عن الطاقة في الأنثى!

ثمّ هو مهم، أي صاحبنا الحلاق، مثقف، استثنائي، هاتوا حلاقا مثله لو استطعتم! هل رأيتم حلاقا يحلّ معضلة نزول جبريل المستحيلة وفق آينشتاين؟! فإذا كان الله قد فتح عليه هذا الفتح، فلماذا لا يؤيد الاستبداد؟! لا سيما وأنّ الشخص المهم، المثقف، الاستثنائي، المغرم بقطة شرودنجر، والذي يحفظ ألوان جوارب دارون التي بدّلها طوال حياته، ينبغي أن يقف في المكان الفائز، وأن يصطف مع المنتصر. ذاته النرجسية لا تقبل أن يكون قديس القضايا الخاسرة، فالمثقف الاستثنائي لا يقول إلا صوابا، ولا يقف إلا مع المنتصر، حتى لو اضطر، لضرورات تقديم أوراق الاعتماد عند المشغل الجديد؛ أن يقول عن نفسه إنه "درويش في السياسة" اعتذارا عن دعمه السابق للثورات العربية، وخطاباته المناهضة للاستبداد، وكأنه يقول لهم، ما كان ينبغي أن تأخذوني بجدية يا جماعة الخير، أنا حلاق!

لكن من أقرّ على نفسه بأنه درويش في السياسة، لماذا يعود للحديث في السياسة، وهذه المرّة لإدانة بعض أبناء شعبه؟! هنا يجب أن نُذكّر أن صاحبنا الحلاق المتنقل بين النمسا والخليج، فلسطيني الأصل، من غزة (مرّة أخرى أيّ تشابه محض صدفة). طبعا لا بدّ وأنّ أيّ أحد، حلاقا كان أم غير ذلك، سيهتمّ لمصاب أبناء شعبه، وقد يعارض عملية السابع من أكتوبر، لأنّه رأى مآلاتها في حدود الراهن كارثية، لن يلومه أحد على ذلك، لكن أن يصف من فقدوا كلّ شيء، وصمدوا حتى آخر مقاتل، أنهم دبّروا عمليتهم بليل لتدمير شعبهم، فهذه كبيرة، وأكبر منها أن يقول إنه صمت حتى لا يُستخدم كلامه ضدّ شعبه، حتى لو تكلم لاحقا ليُستخدم كلامه ضدّ شعبه، فصاحبنا الحلاق معتاد على مثل هذه التناقضات الطريفة الدالة على عبقريته، لكنها وسعت جدّا منه، حينما اقترف أكثر من ذلك، وهو يثني على البلد التي قال سفيرها في الولايات المتحدة أخيرا إنه لا بديل عن خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة. على كل حال من يهتمّ إذا كانت هذا ثمن صالون الحلاقة في الكومباوند الجديد؟!

x.com/sariorabi

مقالات مشابهة

  • البابا يدعو لمعالجة عاجلة تنهي المعاناة بجنوب السودان
  • التطبيع مع العجز: حين تصبح المجازر أرقاما وتموت الإنسانية على الشاشة
  • العصابة إسرائيل في مواجهة مباشرة مع الشعوب العربية
  • الانقاض والنفايات تشوه الحياة الجامعية في ديالى.. صور
  • لماذا سقط الحلاق المتحمّس؟!
  • بين عمّان وبغداد… رمحُ الله لا ينكسر
  • قيادي في “حماس”: لو توقفت الإبادة في غزة بتسليم الأسرى لما ترددنا للحظة
  • الجالية اليمنية في برلين تندد بالعدوان الأمريكي على اليمن
  • وقفة احتجاجية للجالية اليمنية أمام السفارة الأمريكية في برلين
  • ماذا لو توقفت الأرض عن الدوران فجأة؟