د. فايز أبو شمالة

لم يبق للإسرائيليين أسرى أحياء داخل قطاع غزة ليطالبوا بإطلاق سراحهم في المرحلة الأولى من اتفاقية وقف إطلاق النار. وكل ما تبقى للإسرائيليين في هذه المرحلة من الاتفاقية هو أربعة جثث، من المقرر أن يتم إطلاق سراحهم يوم الخميس القادم. وبهذا يكون الشعب الفلسطيني قد أوفى بجميع التزاماته التي وقع عليها في الاتفاق، بينما أخلّت إسرائيل أكثر من مرة ببنود الاتفاق.

ولن يكون آخر الغدر الإسرائيلي تأجيل إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، الذي كان من المقرر أن يتم دقائق بعد إطلاق سراح ستة أسرى إسرائيليين.

مواجهة الغدر الإسرائيلي ليست مسؤولية قيادة المقاومة الفلسطينية فقط، بل هي مسؤولية جماعية تقع على عاتق المجتمع الدولي والأنظمة العربية قبل أن يتحمل الوسطاء دورهم في معالجة الغدر والخديعة والمكر الإسرائيلي. في هذا السياق، فإن الحجة التي طرحها الاحتلال بأن المسؤولية تقع على الحملة الإعلامية الفلسطينية التي رافقت إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ليست سوى ذريعة واهية. فقد أظهر الفلسطينيون عبر وسائل الإعلام العالمية شكلاً منظماً، راقياً، وإنسانياً في التعامل مع الأسرى الإسرائيليين. هذه الصورة قد أسقطت الدعاية الصهيونية التي كانت تروج لفكرة أن الفلسطينيين “قتلة” و”إرهابيون”، وأنهم يستهدفون المدنيين الأبرياء. لقد كان الفلسطينيون في هذا المشهد بعيدين تمامًا عن هذه الاتهامات، بل أظهروا إنسانيتهم بأعلى درجاتها، حين قبل الأسير الإسرائيلي رأس المقاوم الفلسطيني، الذي بدت صورته عبر شاشات العالم محط إعجاب، بما يعكس القوة والشجاعة والثقة بالنفس، بعيدًا عن صورة “الإرهابي” التي كان الاحتلال يحاول رسمها للفلسطينيين.

هذا المشهد الإنساني فاجأ العالم وأدى إلى فضح الممارسات الوحشية التي يرتكبها الاحتلال بحق الأسرى الفلسطينيين، الذين ظلوا منسيين في سجون الاحتلال لعشرات السنين. ومع ذلك، فقد سلطت عملية إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين الضوء على معاناة عشرات آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين ظلوا محبوسين بلا صوت ولا دعم من أحد، حتى جاءت المقاومة الفلسطينية لتكون لهم الأب والأم.

إن تأجيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين بشكل غير مبرر يستدعي تدخل الوسطاء والكفلاء لتنفيذ بنود المرحلة الأولى من الاتفاقية. فالوسطاء هم الذين ضغطوا على قيادة المقاومة الفلسطينية للإفراج عن ستة من الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة، وهم من ضغطوا على قيادة المقاومة لتسليم جثث أربعة إسرائيليين قبل الموعد المحدد. وعليه، فإن دور الوسطاء في الضغط على الاحتلال لتنفيذ التزاماته أصبح ضروريًا. كما أن موعد الانسحاب الإسرائيلي من محور صلاح الدين “فيلادلفيا” ومن معبر رفح الحدودي، الذي سيصادف يوم السبت المقبل، 1 مارس، يتزامن مع تأجيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، مما يعكس تهرب الاحتلال من تنفيذ التزاماته.

إن التلكؤ الإسرائيلي في إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين يعني فشل المرحلة الأولى من الاتفاقية، ولن يحقق أهدافها. وإذا فشلت المرحلة الأولى، فإن ذلك سيؤدي إلى فشل مخطط الاحتلال في تمديد المرحلة الأولى لعدة أسابيع إضافية، وهو ما سيؤدي إلى تأخير بدء مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاقية. هذا الموقف لا يصب في صالح الاحتلال، الذي فقد مبرراته للعودة إلى محاربة أهل غزة. لقد انقضى زمن الحرب المدمرة على غزة، ولن يصمت العالم العربي والعالم بأسره على حرب إبادة جديدة ضد أهل غزة.

لقد انتهت سياسة إغلاق المعابر وحصار غزة، وضاقت المساحات التي كانت تحت تصرف الاحتلال لاستخدام ورقة النزوح في مناورة جديدة ضد غزة. والآن، أصبح أمام الاحتلال خيار وحيد، وهو تأجيل الانسحاب وتأجيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.

إن قيادة المقاومة الفلسطينية تدرك تمامًا هذه الحقائق، ومن المؤكد أنها ستتمسك بشرط إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين قبل أي حديث عن إطلاق سراح بقية الأسرى الإسرائيليين في المرحلة الثانية من المفاوضات. كما أن قيادة المقاومة لن تقدم أي تنازلات للاحتلال بشأن المهرجانات الإعلامية التي فضحت العدوان الإسرائيلي. وخصوصًا أن المنطقة تشهد انعقاد قمة عربية في القاهرة، يفضل العرب أن تكون في ظل التهدئة وفتح معبر رفح في موعده، واستكمال المرحلة الأولى من اتفاقية وقف إطلاق النار. أي تغيير في هذه المسارات سيؤثر على قرارات قمة القادة العرب التي ستكتشف أن اليوم التالي لغزة سيكون تحت إدارة أهل غزة، دون غيرهم.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: إطلاق سراح الأسرى الفلسطینیین المقاومة الفلسطینیة الأسرى الإسرائیلیین المرحلة الأولى من تأجیل إطلاق سراح قیادة المقاومة من الاتفاقیة

إقرأ أيضاً:

كيف تمحو إسرائيل أحلام الفلسطينيين في المنطقة «ج»؟

في تلك اللحظة الفاصلة بين الليل والفجر، وبين الحلم والخراب، كانت أمّ كرم تعدّ خبز التنور في خيمتها المتواضعة في خربة حمصة الفوقا بالأغوار الشمالية، حين داهمتها الجرافات الإسرائيلية برفقة جنود مدججين بالعتاد. صرخت الأم قبل أن تنهار الخيمة على رؤوس أطفالها: «ما لحقت حتى ألمّ البطانيات... هدّوا كل شيء، حتى صاج الخبز اللي ورثته عن أمي».

كانت هذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. ففي قلب المنطقة «ج»، التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، يخوض الفلسطيني معركة بقاء يومية. لا تحميه القوانين، ولا تصله الكهرباء، ولا يسمح له ببناء جدار أو حفر بئر، في حين تزدهر المستوطنات على التلال، وتتكاثر مثل الطفيليات.

المنطقة «ج»: حيث تُهدم البيوت وتُحاصر الحياة

منذ توقيع اتفاق أوسلو، قُسّمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق، وظلت المنطقة "ج" - الأكبر مساحة - تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة أمنيًا وإداريًا. تضم أكثر من 200 مستوطنة وبؤرة استيطانية، وتقطنها قرى فلسطينية مهمشة، محرومة من الحد الأدنى من البنية التحتية.

في هذا الفراغ القانوني، أصبحت الجرافة الإسرائيلية أداة تشريع، وأصبح الفلسطيني هدفًا دائمًا للمحو. كل شيء هنا مؤقت، هش، ينتظر أمر الهدم، أو حجارة مستوطن، أو اقتحامًا ليليًا يخلع أبواب المنازل وينثر سكانها في العراء.

فالهدف الإسرائيلي من هذه السياسات لا يخفى على أحد: فرض وقائع على الأرض تُمكّن من السيطرة الكاملة على المنطقة دون الحاجة إلى مفاوضات أو اتفاقيات، ودفع الفلسطينيين إلى اليأس والنزوح الذاتي البطيء، عبر خنق سبل العيش، وحرمانهم من الحق في البناء، والماء، والكهرباء، والتعليم. إنها سياسة استيطان توسعية تتستر بذرائع أمنية وقانونية زائفة، لكنها تسعى فعليًا إلى تفريغ الأرض من أصحابها، لتُعاد هندسة الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم مشروع الضم والهيمنة.

أقسى من الجندي: رعب المستوطن

في شرق نابلس، وتحديدًا في بيت دجن، كان أحمد صوافطة، سائق الجرافة الفلسطيني، يحاول تسوية قطعة أرض تعود لعائلة زراعية فقيرة، حين داهمتهم قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي وصادرت المعدّات.

يقول خلال حديثه لـ«عُمان»: «أنا لم أقوم ببناء مستوطنة، ولا اقوم بحفر نفق! أنا أعمل في عملي، قالي لي جنود الاحتلال: هذا نشاط غير مرخّص، مع أن الأرض لنا، فقام جنود الاحتلال بضرب شاب من كان يعمل معي، ووقع أرضًا من الضرب المبرح».

أما في عصيرة القبلية جنوب نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة، فكان المشهد أكثر رعبًا. المستوطنون لا يكتفون بسرقة الأرض، بل يهاجمون القرى نهارًا، تحت حماية جنود الاحتلال.

محمد عارف، شاب من القرية، يروي لـ«عُمان» مشهد الاقتحام الأخير: «دخلوا على القرية مثل قطيع مسعور، معهم سلاح وملثمين. رجموا البيوت بالحجارة، ضربوا الشجر، كسروا السيارات. حاولنا نصدهم، فهجم علينا جنود جيش الاحتلال، بدل ما يبعد عنا غلاة المستوطنين».

جبع: ذاكرة تهدمها الجرافات

في بلدة جبع الواقعة شمال مدينة القدس المحتلة، تقف الجرافة شاهدًا على جريمة جديدة. منزل عطا أمين العبيدي، المشيد منذ أربعين عامًا، تم تسويته بالأرض. لم تُمنح العائلة أي إخطار، ولم تُعطَ فرصة للاستئناف.

يقول عطا العبيدي لـ«عُمان»، وهو يضمد جراح ابنه الذي أُصيب أثناء الاقتحام: «12 نفر ساكنين في هذا البيت. صحونا على صريخ، دخلوا البيت بدون إذن، دفعونا، طخّوا ابني، وحجرونا، وبلشوا بالهدم. الدار راحت، كأنها ليست أربعين سنة تعب».

سامي توام، رئيس مجلس قروي جبع، يحاول أن يلملم ما تبقى من ذاكرة القرية: «هذا البيت من ثلاث طوابق، 200 متر، فيه بئر ماء وشجر عمره سنين. نحن لم نخسر بيت فقط، وإنما خسرنا تاريخ. للأسف، الاحتلال الإسرائيلي لم يهدم بيوت، ولكن يهدم مستقبل بلدة كاملة».

وأضاف بأسى: «من شهرين تقريبًا، فجأة ظهروا مستوطنين في سهل البلد، نصبوا خيام، وبدأوا يهاجموا الشجر والمزارعين. حاولنا بكل الطرق نمنعهم - اتصلنا بالارتباط الفلسطيني، والشرطة، وجهات أجنبية - ولكن بيرجعوا تاني يوم، أقوى».

الهدم بلا إنذار

وفي فجر آخر أكثر قسوة، اقتحمت قوات الاحتلال المنطقة بين بلدتي الرام وجبع، وهدمت منزلًا ومجموعة بركسات تأوي خمس عائلات فلسطينية.المنزل يعود للمواطن إبراهيم كعابنة، الذي يروي مشهد الطرد والهدم بذهول لا يزال في عينيه:«الساعة خمسة الفجر، سمعنا عراك كلامي. طلعوا علينا جيش الاحتلال، طلعونا من البيت حتى أواعينا ما قدرنا نأخذها، المبنى مشيد من 1988، معي عقد ملكية، وفيه ثلاث عائلات، وفيه مزرعة غنم فيها عائلتين. لكن ما سمعونا، ولا أعطونا مهلة، قالوا: تنفيذ أمر عسكري».

الاستيطان يزحف

ليس الهدم وحده ما ينهك الفلسطيني، بل اعتداءات المستوطنين اليومية. في قرى القدس، وخصوصًا في سهل جبع، سُجلت عشرات الهجمات في الأسابيع الأخيرة.

سامي توام يروي أن المستوطنين اقتلعوا مئات أشجار الزيتون، وهاجموا قطعان الأغنام، واعتدوا على الأهالي والمزارعين.

ويتابع : «كأنهم بيجربوا حدود صبرنا. كل يوم يأتون إلى هنا، كل مرة بخيمة جديدة. المستوطن عنده جيش محتل يحميه، ونحن لنا رب العالمين فقط».

يرى المحلل السياسي الفلسطيني عصمت منصور أن ما يحدث في المنطقة «ج» ليس سلسلة اعتداءات عشوائية، بل خطة مدروسة لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي.

يقول: «إسرائيل تطبق سياسة (الضم الزاحف). لا تحتاج قانونًا لضم الضفة، بل تخلق وقائع على الأرض. تُطرد العائلات، تُسلب الأراضي، تُحاصر القرى، ويُغلق المجال للبناء والتنمية. وبهذا، تُفرغ المنطقة ج من سكانها الأصليين، وتُملأ بالمستوطنين».

ويضيف، في تصريح لـ«عُمان»: «الخطورة مش بس بالهدم، بل بكسر الروح. الفلسطيني لما يفقد البيت، الشجرة، الماء، حتى الظل، يبدأ يفكر بالرحيل. وإسرائيل تراهن على هذا التآكل البطيء».

وأشار إلى أن الاستيطان في المنطقة «ج» يجري وفق رؤية استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى قطع التواصل الجغرافي بين المدن والبلدات الفلسطينية، وتحويل الضفة الغربية إلى جزر معزولة يسهل السيطرة عليها.

ويوضح: «هذا المشروع الاستيطاني يقتل الأمل الفلسطيني بدولة قابلة للحياة. لا يكفي أن نرصد أرقام البيوت المهدمة أو البؤر الجديدة، علينا أن ننتبه إلى ما هو أخطر: تقويض فكرة الوطن في ذهن الإنسان الفلسطيني، وقتل الأمل لديه إقامة الدولة الفلسطينية».

صوت الجرافة أعلى من النداء

في المنطقة «ج»، لا توجد خطوط تماس تقليدية، ولا حرب تُعلن رسميًا، لكن هناك ساحة مفتوحة للمحو المنهجي. كل حجر يُهدم، كل شجرة تُقطع، كل طفل يُفزع من نومه، هو جرح في جسد الأرض.

ما بين خربة حمصة، وجبع، وبيت دجن، والرام، يتكرّر المشهد، وتتشابه التفاصيل، ويطغى صوت الجرافة على صوت الأم وهي تبكي خبزها الذي احترق على صاجٍ مقلوب.

هنا، حيث تُسرق الذاكرة ويُقتل الأمل، يبقى الفلسطيني واقفًا، يبني من الطين مرة أخرى، ويعيد زرع الزيتونة، ولو في علبة سمن فارغة، ويقول: «إحنا هون... ولو ما ضل إلنا غير ظل الشجرة».

مقالات مشابهة

  • إذاعة الجيش الإسرائيلي: مقتل قيادي بارز مرتبط بحماس والجماعة الإسلامية في الغارة التي استهدفت سيارة قرب الدامور جنوبي بيروت
  • اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في غزة قد يمتد لسنوات
  • إهمال طبي وتعذيب.. هكذا يقتل الاحتلال الأسرى الفلسطينيين
  • كيف تمحو إسرائيل أحلام الفلسطينيين في المنطقة «ج»؟
  • ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين الأسرى إلى 65 منذ بدء حرب الإبادة في غزة
  • ارتفاع عدد الشهداء بين الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال إلى 65
  • خبراء: ما يجري بحق الأسرى الفلسطينيين من الاحتلال حرب انتقامية
  • رئيس الوزراء اليمني يجدد التزام الحكومة بإطلاق جميع الأسرى والمخفيين قسراً
  • وساطة إماراتية بين موسكو وكييف تنجح في إطلاق سراح مئات الأسرى
  • نتنياهو يصدر تعليمات للجيش الإسرائيلي بزيادة الضغط على حماس