لقد قدَّمت التكنولوجيا الرقمية للحكومات مجالا واسعا للاستثمار الاستراتيجي وتوسعة آفاق التنافسية وإدارة الجودة، باعتبارها أدوات تقييم وحوكمة قائمة على المشاركة والتفاعل المباشر بينها وبين مواطنيها، الأمر الذي يجعل من تطوير تلك التكنولوجيا وتمكينها هدفا من أهداف التنمية المستدامة، الأمر الذي يتطلَّب فهما عميقا للدور الذي يمكن أن تقدمه خاصة في ظل التسارع المتزايد في برامج تلك التكنولوجيا واتساع قدراتها، إذ يحتاج إلى تبنّي نماذج أكثر مرونة وتفاعلية تزيد من فرص التحوُّل الرقمي وتوفُّر الخدمات الحكومية عبر أنظمة ذات استجابة فورية مباشرة.
ولهذا فإن الحكومات تتنافس في تحقيق التحوُّل الرقمي، الذي يسعى إلى إيجاد أنظمة وبرامج ذات فاعلية، وكفاءة، ويستجيب للطلبات الخدمية المتزايدة من ناحية، ويحقق مبادئ الشفافية والعدالة من ناحية أخرى، مما دفعها إلى تبنّي برامج ذات كفاءة وموثوقية توسِّع نطاق المسؤولية المشتركة بين الحكومات والمواطنين في التنمية المجتمعية، وتمكِّن الحكومة الرقمية، التي تربط بين متطلبات التنمية والقدرة على التفاعل مع المواطنين باعتبارهم شركاء فاعلين في تحقيق تلك التنمية.
إن الحكومات في تبنّيها للتحوُّل الرقمي تعتمد على قدرات وبرامج تمنحها المرونة وتكوين الفهم الشمولي القائم على احتياجات مجتمعها ومتطلباته؛ فهذا التحوُّل لا يتم من أجل الضرورات الرقمية وحسب، بل ينطلق من مبدأ إعادة فهم وتقييم لتلك الاحتياجات، وتقديم ابتكارات تهدف إلى إحداث تغيُّر في أساليب العمل والتواصل وتحوُّل في أدوات التطوير بما يضمن إشراك أفراد المجتمع والمؤسسات في القطاعات الخاصة والمدنية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
فمشاركة المواطنين والمؤسسات في التفاعل والتواصل أساس راسخ لتنمية المجتمعات، لذا فإن التحوُّل الرقمي يتبنّى مجموعة من التقنيات القائمة على إيجاد بيئات رقمية سهلة، لا تقدِّم الخدمات وحسب، بل أيضا تستفيد من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، واستشراف الرؤى والتخطيط؛ بهدف التكامل بين تلك الخدمات التي تُقدَّم من قِبل الحكومة، ورأي المستفيدين منها وما يمكن إضافته من مقترحات وأفكار تُسهم في إضفاء قيمة مُستدامة وتحقيق التطوير التنموي في كافة القطاعات.
ولعل عُمان واحدة من تلك الدول التي تسعى إلى تحقيق التحوُّل الرقمي وإيجاد حكومة رقمية متقدمة في مجال الخدمات الإلكترونية؛ لذلك فإن المتابع للعديد من المؤسسات الحكومية خاصة الخدمية منها سيجد نقلة نوعية في تلك الخدمات، فما يقدمه القطاع الشُرطي من خدمات رقمية، وما شهدناه من نجاح لمنصات الاقتراع لانتخابات المجلس البلدي ومجلس الشورى، وكذلك الخدمات العديدة في القطاع الصحي والتجاري وغيرها الكثير في كافة المؤسسات، تؤكد توجُّه الحكومة نحو ذلك التحوُّل وإرادة تحقيقه.
وقد كشف التقرير السنوي لبرنامج التحوُّل الرقمي الحكومي لعام 2024، الصادر عن وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات أن عمان تقدمَّت إلى المرتبة 41 دوليا في مسح الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية لعام 2024، كما أن هناك «(267) خدمة حكومية تلقائية تقدَّم دون تدخل بشري»، إضافة إلى أن متوسط رضا المستفيدين من الخدمات الرقمية لـ48 مؤسسة حكومية بلغ 77%؛ فقد وصل الأداء العام للبرنامج المحقَّق حتى نهاية نوفمبر 2024 إلى 73%.
ولأن كُنَّا نطمح إلى تحقيق المزيد من الإنجاز في التحوُّل الرقمي الحكومي، إلَّا أن هناك تسارعًا من قِبل المؤسسات خاصة في مجال تبسيط الإجراءات، الذي يخبرنا التقرير أنه حقَّق أكثر من المستهدف؛ حيث بلغت الخدمات التي تم تبسيطها حتى نهاية نوفمبر 2024 (481) خدمة، الأمر الذي يعكس الاهتمام المتزايد وإعطاء الأولوية لتلك الإجراءات التي يتطلَّب تحقيقها وصولا إلى المستفيدين، إذ شهد العام الفائت تسارعا في التحوُّل الرقمي الذي يهدف إلى تبسيط الإجراءات خاصة لدى بعض المؤسسات مثل (المجلس الأعلى للقضاء) الذي قدَّم 170 إجراءً إلكترونيًّا عبر منصاته، وكذلك هيئة الطيران المدني 113، ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار 49، وغيرها، إضافة إلى ما قدمته المؤسسات في رقمنة خدماتها.
ولقد كان للمنصات التفاعلية التي تبنّتها العديد من المؤسسات دور واضح في التفاعل المباشر بين الحكومة والمستفيدين؛ فمنصة (عُمان للأعمال)، ومنصة (معروف عُمان) الخاصة بتعزيز التجارة الإلكترونية، ومنصة (عين) الإعلامية، والبوابة الرسمية للخدمات الحكومية الإلكترونية (عماننا)، وغيرها، لا تقدِّم الخدمات وحسب، بل تفتح مجالات التفاعل والمشاركة وتقديم المقترحات، بغية إيجاد بيئة أكثر فاعلية في التواصل انطلاقا من شمولية التحوُّل وقدرته على تسهيل وصول الخدمات، وإشراك المستفيدين للمساهمة في التحسين، والتجويد، وإيجاد نماذج عمل وحلول مبتكرة لتلبية المتطلبات، والتغلُّب على التحديات والصعوبات.
وترسيخا لمبادئ العمل المشترك ودعم توجهات المجتمع، وتلبية متطلبات المرحلة التنموية القائمة على رفع الكفاءة التشغيلية ودعم التواصل المجتمعي، فقد وجَّه جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في سبتمبر من العام الفائت بإنشاء منصة وطنية إلكترونية لتلقي الشكاوى والمقترحات؛ بُغية إشراك المواطنين والمستفيدين في تحسين العمل الحكومي وتطويره من ناحية، وتقديم تجربة وطنية قائمة على الشفافية والعمل المشترك من ناحية أخرى.
واستجابة لتلك التوجيهات السامية، تم ضمن أعمال الملتقى الوطني (معا نتقدَّم)، تدشين المنصة الوطنية للمقترحات والشكاوى والبلاغات (تجاوب)؛ التي تهدف إلى تحسين الخدمات الحكومية من خلال ما يقدمه المواطنون والمستفيدون من تلك الخدمات وتفاعلهم الإيجابي مع ما تقدمه؛ فهي (منظومة وطنية رقمية تضم مختلف الجهات الحكومية، ويتم من خلالها التخطيط والتقييم ومتابعة الأداء للمستهدفات والبرامج الاستراتيجية والخطط السنوية)، وبذلك فإن هذه المنصة تقدِّم نموذجا وطنيا للمشاركة المجتمعية الهادفة، والتي تعزِّز مبدأ المواطنة الفاعلة، القادرة على البناء والمتطلِّعة إلى مستقبل أكثر ازدهارا.
إن هذه المنصة الوطنية تقوم على أبعاد وطنية تعزِّز رضا المستفيدين، وتسهم في تقديم حلول ناجعة للتحديات التي يواجهها المستفيدون، إضافة إلى أهميتها في التنمية الوطنية من خلال تلك الآراء والمقترحات والتوصيات التي يقدمونها، ولهذا فإن مبدأ الجدية والمصداقية والموضوعية في تقديم الشكاوى والمقترحات والآراء هو المعوَّل عليه من أجل تحقيق أهداف هذه المنصة؛ ذلك لأن الغرض منها تقديم الخدمات وتيسيرها وتسهيل إنجازها، لذا فإن كل ما نقدمه كمستفيدين سيكون هدفه أيضا التحسين والتطوير والتغيير من أجل الأفضل.
فرضا المستفيدين وآراؤهم ومقترحاتهم البنَّاءة سيكون لها الأثر البالغ في تحسين جودة الخدمات، والتخطيط المستمر من قِبل الحكومة لتقديم أفضل الخدمات والممارسات والإجراءات التي تُسهم في زيادة ذلك الرضا، وتحسين تجربة المستفيدين، من خلال تقييم الأداء ومتابعته. إن إطلاق هذه المنصة الوطنية يمثِّل نقلة نوعية في التحوُّل الرقمي سواء من خلال تبسيط الإجراءات أو رقمنة العديد من الخدمات وتسهيلها، الأمر الذي يجعلها مساحة خصبة لتداول الآراء والمقترحات التطويرية.
لذلك فإن تفاعلنا مع منصة (تجاوب)، وتقديمنا كل ما يُسهم في تحقيق الأهداف، والمشاركة الفاعلة في التطوير والبناء سيكون له الأثر البالغ في التغيير نحو أفضل الخدمات وأجود الممارسات، فلكي نكون مساهمين في البناء والتخطيط والتقييم علينا أن نقدِّم الشكاوى والمقترحات والآراء الموضوعية القائمة على الاطلاع ومتابعة ما تم تنفيذه، الأمر الذي ستكون له نتائج داعمة لتلك الأهداف، فكلنا عُمان، وكُلنا مسؤول عن المشاركة في التنمية الوطنية المستدامة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأمر الذی فی التنمیة هذه المنصة ل الرقمی من ناحیة من خلال التی ت
إقرأ أيضاً:
مسحُ قياس إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي
العُمانية/ تقوم وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات حاليًّا بتنفيذ الأعمال الميدانية لمسح قياس إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي للعام 2023 في إطار الجهود الوطنية لتحقيق مستهدفات البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي.
ويعد المشروع أحد المشروعات الاستراتيجية التي تهدف إلى توفير بيانات دقيقة لدعم متخذي القرار وراسمي السياسات في رسم خارطة الطريق المستقبلية للاقتصاد الرقمي في سلطنة عُمان.
ويهدف المسح إلى قياس مدى التقدّم في تحقيق مستهدفات البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي المتمثلة في رفع إسهام الاقتصاد الرقمي إلى 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2040، إلى جانب توفير قاعدة بيانات علمية موثوقة يمكن الاستناد إليها في إجراء الدراسات والبحوث الاقتصادية، وإجراء المقارنات الإقليمية والدولية لإسهام الاقتصاد الرقمي في الاقتصاد الوطني، فضلًا عن تزويد الباحثين بالإحصاءات اللازمة لدعم الدراسات العلمية في هذا المجال.
ويعتمد المسح على بيانات عام 2023 باعتبارها مصدرًا رئيسًا للتحليل بهدف تقديم صورة دقيقة عن وضع الاقتصاد الرقمي في سلطنة عُمان خلال تلك الفترة، مما يساعد على تقييم مدى التقدّم المُحرز وتحليل الاتجاهات المستقبليّة، ويستهدف المسح في هذه الدورة منشآت القطاع الخاص العاملة في أنشطة الاتصالات وتقنية المعلومات، والخدمات الماليّة والتأمينيّة التي تقدم رقميًّا فقط بمختلف أحجامها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والصغرى.
ويبلغ حجم العينة حوالي 1300 منشأة موزعة على مختلف محافظات سلطنة عُمان.
وسيوفر المسح العديد من المؤشرات الاقتصادية المهمة أبرزها نسبة إسهام الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي، والقيمة المضافة لأنشطة الاتصالات وتقنية المعلومات، والقيمة المضافة للأنشطة الماليّة والتأمينيّة التي تقدم رقميًّا فقط، ومتوسط عدد العاملين ومتوسط الإنفاق على الرواتب والأجور، وقيمة النفقات التشغيليّة والتحويليّة، إلى جانب قيمة الاستثمار في الأصول والتكوين الرأسمالي للأنشطة المستهدفة.
وأكد حمد بن ناصر الشكيلي مدير مشروع المسح بوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات على أهمية تعاون المنشآت المشمولة في العينة، باعتباره ركيزة أساسية لإنجاح المشروع وتحقيق مستهدفاته الوطنية، مشيدًا بتجاوب العديد من المنشآت مع فرق العمل الميداني، مما أسهم في تسريع وتيرة استيفاء البيانات وتحقيق أعلى مستويات دقة وجودة البيانات.
وأوضح أن الاقتصاد الرقمي هو مستقبل التنمية المستدامة في سلطنة عُمان، حيث سيوفر المسح بيانات أساسيّة لدعم صناع القرار وتمكينهم من وضع السياسات الفعّالة، كما أن مشاركة المنشآت المستهدفة في هذا المسح لا تعزز فقط قدرة وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات على قياس إسهام الاقتصاد الرقمي، بل تسهم أيضًا في رسم ملامح المستقبل الرقمي بسلطنة عُمان.