الروائي الأردني جلال برجس يتساءل عبر “أثير”: هل تجعل القراءة منك كاتبًا؟
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
أثير – الروائي الأردني جلال برجس
حين وجدتُني أستغرق بالقراءة في تلك المرحلة المبكرة من عمري، وأدمنها على صعيد الفعل السلوكي، لم أكن أفكر بأن أصبح كاتبًا؛ كنت فقط أنتمي لذلك الإحساس الطاغي من الانتقال من عالم الواقع المحدود بالمعنَيين البصري والملموس بكل ما يتوفر فيه من احتمالات القسوة، إلى عالم الخيال الفسيح الهانئ، والحميمي.
ومع مرور الأيام اكتشفت أن الغرض الذي كان يقف وراء انخراطي اليومي في عالم القراءة كان مختلفًا عن غرضي من الكتابة التي أتت لاحقًا، رغم تقاطعهما ببعض الدوافع الذاتية والموضوعية. إذن هل يمكنني القول إن القراءة لم تساهم على نحو ما بتشكيلي كروائي؟ لقد كان لها ذلك من حيث اللغة، والأسلوب، وطريقة صياغة الأفكار، وكثير من عناصر الكتابة، لكنها ليست المحرك الأوحد لفعل الكتابة الذي يفكك التجربة الذاتية ويعيد صياغتها وفق رؤى جديدة، وليست اليد الوحيدة التي لها أن تؤدي بالكاتب إلى إعادة تشكل الواقع بناء على ما اكتسب من مفاهيم خاصة تشكلت عبر الزمن، الحاضن التفاعلي للتجارب الإنسانية بكل أبعادها، ومستوياتها.
الكتابة ردة فعل على خلل في واقع ذاتي، وآخر موضوعي، وهي بطبيعة الحال ليست فعلًا ترفيهيًا إنما رؤية قادمة من عدم الرضى عن السائد. من هنا يمكن الحديث عما يسمى بالموهبة التي ترتبط بقوة بالدرجة العالية من الحساسية في رؤية الكون والذات؛ إذ أن الموهبة برأيي هي هذه الحساسية بدرجاتها العالية؛ وبالتالي تغدو الكتابة وسيلة علاجية ذاتية تنظر إلى حياة الكاتب وعلاقتها بكل ما يحيطه على مختلف الصعد. هل يعني هذا أن الكاتب كائن عصابي، أو لديه خلل نفسي؟ بطبيعة الحال لا يمكننا الجزم بهذا؛ فعلم النفس بكل مدارسه لم يصل إلى حقيقة ثابتة في هذا الشأن. لكن يمتاز من ذهبوا إلى عالم الكتابة بقدرتهم الفائقة على الاحتفاظ بالكثير من التفاصيل الشخصية، والتفاصيل التي يرونها أثناء حركتهم في مجتمعاتهم وبيئاتهم، وهذا يؤدي إلى تراكم يجعل من صاحبه كاتبًا، وفي الوقت نفسه يجعله متأذيًا. من هنا أرى أن الكتابة بالإضافة إلى كونها وسيلة للتعبير عن الذات والخروج بها على السائد غير المقنع؛ فهي عملية تفريغ للنتائج السلبية للتراكمات الحسية. في هذا الشأن يرى الكاتب والمعالج النفسي الأمريكي (فيليب كيني) أن علم النفس والإبداع والروحانية ليست مجالات منفصلة، بل أنها مرتبطة بشكل وثيق بالقوة التي تتحرك من خلالنا جميعًا. ويرى (كيني) أن الكتابة يمكن أن تكون علاجًا للاكتئاب، بل وبديلًا لمضاداته. ومن هذا المنطلق أصدرَ رواية عام 2012 بعنوان (إشعاع) صنفت على أنها واحدة من روايات أدب الاعتراف.
إن أكثر الكتّاب عمقًا –برأيي- هم أولئك الذين يبذلون جهدًا مضاعفًا لمكاشفة أنفسهم سواء بشكل مباشر أو من خلال الشخصيات في الروايات على سبيل المثال، وبالتالي ممارسة شكل قاسي من النقد المقترن بالحرية وعدم الانصياع للمثاليات الزائفة. بالإضافة إلى ما هو متعلق بالطبيعة السيكولوجية، فإن التأمل، والخبرة الحياتية المتنوعة، والرغبة بالتعبير عن الذات هي دوافع للكتابة، وهي التي بالإضافة إلى القراءة والممارسة الحثيثة للكتابة تصنع من الإنسان كاتبًا، رغم عدم انفصال تلك العناصر عن الواقع السيكولوجي للإنسان الكاتب؛ إنها عناصر مترابطة بشكل مذهل. من دون القراءة لا يمكن لتلك الأدوات التي يعبر الكاتب فيها عن ذاته، وعما حوله أن تستمر، ولا يمكن أن ينجح بتفريغ تراكماته. في هذه الحالة ستذوي مثل الأشجار التي غرست في أرض صحراوية أمطارها شحيحة، وبالتالي هي بحاجة يومية للماء.
التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا السياق: هل يمكن لإنسان أن ينجح في أن يكون كاتبًا من دون قراءة؟ ربما يحدث هذا لكن في نطاق ضيق جدًا، بل ونادر حتى. أما النسبة التي هي خارج هذا النطاق وخاصة أولئك الذين يوهمون وسائل الإعلام، والقراء بأنهم يقرأون باستمرار فإنهم ينتجون أعمالًا أدبية على الأغلب تشبه بعضها بنسبة عالية، أي أنها امتدادًا للعمل الأول الذي ولد اتكاء على جملة التراكمات الحسية، وبالتالي تصبح الأعمال اللاحقة مجرد دوران في حلقة مفرغة، وتشبه عزفًا على آلة موسيقية وترية ناقصة وترًا.
القراءة بمفردها لا تصنع كاتبًا، لكن غيابها ستقتل هذا الكاتب؛ إذ لا يكفي أن تشق قناة قصيرة في إحدى ضفاف النهر، بل عليك أن تستمر بشق هذه القناة، ليصل الماء إلى جذوع الأشجار فيحييها.
المصدر: صحيفة أثير
كلمات دلالية: کاتب ا
إقرأ أيضاً:
الكتابة في زمن الحرب (47) : نتائج الحروب على الثقافة
الثقافة السودانية، مثلها مثل العديد من الثقافات التي تعاني من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، والتي تواجه كمية من الضغوطات الشديدة وذلك نتيجةً لعدة عوال اهمها الحروب والمجاعات اضافة للكوارث الطبيعية. هذه الأزمات بلا ادنى شك تؤثر وبشكل مباشر على الفعل الثقافي وعلى البيئة التي يمكن أن تنتج فيها الإبداع. ورغم ذلك، نجد أن المثقفين السودانيين الذين يعيشون في المهجر يبدعون بشكل ملحوظ. هذا قد يكون مرتبطاً بعدة عوامل:
(1) الحرية الفكرية: يعيش المثقفون السودانيون في المهجر بعيداً عن الضغوط السياسية والقمع، مما يتيح لهم مجالاً أوسع للتفكير والإبداع. في السودان، تقييد الحريات كان عاملاً رئيسياً في إعاقة النشاط الثقافي.
(2).التفاعل مع ثقافات أخرى: المهجر يمنحهم فرصة الاحتكاك بثقافات جديدة ومتنوعة، مما يغني تجربتهم الثقافية ويضيف أبعاداً جديدة لإبداعهم. كما أن البيئات المستقرة في الخارج توفر الفرص للتعبير الفني والأدبي بعيداً عن الصراعات.
(3 )الاغتراب والهجرة: يولد الشعور بالحنين إلى الوطن والانتماء إلى جذور ثقافية قوية دافعاً للإبداع. الهجرة تجبر المثقف على إعادة النظر في هويته، جذوره، ومستقبله، مما يثري نتاجه الأدبي والفكري.
الثقافة السودانية وثقافة الأزمات:
الحروب والمجاعات: هذه الأزمات أدت إلى تعطيل الكثير من المؤسسات الثقافية داخل السودان. لا يوجد استثمار حقيقي في الثقافة وسط الأولويات الاقتصادية والسياسية، وتظل الثقافة غالباً ضحية لهذه الأزمات.
الكوارث الطبيعية: مثل الفيضانات والتصحر، تسهم في تدهور البنية التحتية، مما يعيق تنظيم الفعاليات الثقافية وتبادل الأفكار.
مستقبل الثقافة السودانية:
في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية، هناك فرص وتحديات:
(1). الفرص: يمكن للمثقفين السودانيين في الداخل والخارج تشكيل مشهد ثقافي جديد إذا تم توفير بيئة ديمقراطية وحرة. التعاون مع مؤسسات عالمية ومنظمات ثقافية دولية قد يعزز من استمرارية الإنتاج الثقافي.
(2) التحديات: وعلى رأسها التوترات السياسية، تدهور الأوضاع الاقتصادية، واستمرار الحروب يمكن أن يظل عائقاً أمام استعادة الزخم الثقافي. الحل يكمن في تحسين التعليم وتطوير البنية التحتية الثقافية ودعم الفنانين والمثقفين.
الخروج من عنق الزجاجة: كيف ومتى؟..
حري بنا أن نقول ان الخروج من الأزمات الثقافية يتطلب عدة خطوات واهمها:
اولاً: إصلاح سياسي واقتصادي: لا يمكن الحديث عن نهوض ثقافي في ظل غياب الاستقرار السياسي. الحاجة ماسة إلى بناء دولة مدنية تؤمن بحرية الفكر والتعبير.
ثانياً/: دعم الثقافة كجزء من الهوية الوطنية: يجب أن تدرك الحكومات المتعاقبة أهمية الثقافة في بناء الأمة، وبالتالي تحتاج إلى تخصيص موارد ودعم البنية التحتية الثقافية.
ثالثاً/: تمكين الشباب: الشباب يمثلون طاقة هائلة للنهضة الثقافية، ولا بد من فتح المساحات لهم لتقديم إسهاماتهم.
رابعاً/:!تطوير المؤسسات التعليمية: التعليم هو أساس أي نهضة ثقافية، وبالتالي يجب أن تكون هناك إصلاحات تعليمية جذرية تعزز الفنون والآداب كجزء من الهوية الوطنية.
عثمان يوسف خليل
المملكة المتحدة
osmanyousif1@icloud.com