وطنٌ في معرضِ التاريخِ البغيضِ للبشرِ

وجدي كامل

هذه الحرب تستدعي التأمل والتفكير النقدي، والمراجعات الجذرية الجادة والعميقة التي هي من قبل، ومن بعد، من ضروريات الحياة والتطور للافراد والجماعات. هناك الكثير من القضايا والموضوعات التي كنا نمر عليها مرورًا تقليديًا وروتينيًا، وهي لا تستحق كل ذلك المرور البارد غير المنتج، بل تستحق إعادة النظر، واعتماد زوايا جديدة وفقًا للمستجدات اليومية التي تجري في نطاق اجتماعنا الوطني الكلي المعقد.

  انها تتطلب وقبل كل شيء تجديد العقلية، اذا لم نقل انتاج عقلية جديدة اعتمادا على ما كان قد تم نسبه الى صاحب نظرية النسبية ألبرت أينشتاين: “لا يمكنك حل مشكلة بنفس العقلية التي خلقتها”.

نحن، وبهذه العقلية المنحازة، الآثمة، المؤيدة لأهدافها التصنيفية، التقسيمية، التصفوية نختار المقرّبين، ونمايز الصفوف ليس فقط على قانون “الوجوه الغريبة” الذي سنته بعض مدن الشمال اعتقادا في صفائها الاثني ودعمًا لمشاعر التفوق لديها، بل على أساس اللغة،  والدين، والأيديولوجيا المؤدية الى الغاء الآخرين بتغليب القُرابة الاثنية والدينية والسياسية، دون أن نستوعب أن المبدأ في  التقسيم والتصنيف، والاستجابة لجاذبياته يبذل منذ اتجاهات ومضامين التربية والطفولة الاجتماعية، وثقافة التعنصر، والتحيز المؤيدة لادامة واستدامة الامتيازات التاريخية لاحتكار سلطة التصرف في الحق العام الذي يجيز اخذ الدولة، كغنيمة. كل ذلك يشكل، وفي حد ذاته مدعاة للتقسيم، الذي الذي ينشأ كفكرة في الذهن، متخذة الاختلاف كمحفّز للخلاف والفرقة، وهو بابٌ للحرب دون اخفاء او مواربة.

“الاعتراف المتبادل وفقا لمراعاة الحقوق والواجبات هو الأساس الحقيقي لأي تعايش، وليس مجرد التسامح الذي يضمر تفوق طرف على آخر.” حسب أكسيل هونيث. أما الحرب فانها  لا تألو جهدًا في توظيفنا ضمن صفوف مقاتليها الرمزيين، لأنها تجدنا منقسمين بالتربية والنشأة وحروب المصالح الصغيرة التي نخوض غمارها في مساعينا اليومية في الحياة مشهرين سوء النوايا تجاه بعضنا البعض وسوء الفهم كذلك لأتفه الاسباب. فعندما تَصِرُّ عينُك أو تحمرُّ لأخيك في الظلام، كما يقال، فهذا يعني أننا نعيش في بيئة تتغذي بالكراهية وعدم التسامح، لا لشيء سوى أن ذلك سلوك متجذر في ثقافتنا. وهذا يقتل الأخوّة في العائلة، والعائلة في الوطن، ويحوّل الوطن إلى خرائب تستحق الإحالة والتضمين في معرض للتاريخ البغيض للبشر. لكنا لا نفعل ذلك خشية تفعيل التقاليد القانونية للمحاسبة او الادانة الرمزية مستقبلا.

ومن العبارات الرائجة التي تستحق لاعادة الفحص في ادبيات الدعوة لتحقيق العدالة، كما احيانا لجبر الضرر عبارة كـ”القبول بالآخر” فالقبول بالآخر يحمل ويرجح قبلا، وضمنيًا تصنيفًا بان هنالك اخر، ثم يحل ويأتي بعد ذلك  استحقاقه القبول. “الهويات القاتلة ليست من الظواهر الطبيعية، بل هي نتيجة خطاب تقسيمي يُزرع في الأفراد منذ الصغر.”، ذلك ما ذكره أمين معلوف ولكنها تبدو هكذا عندما قولا وفعلا  بما يجعل تعايشنا كسودانيين شقاءً متواصلاً، ووجودا عبثيًا، تلتهمه الذئاب متى أرادت وأينما اختارت إعلان وقائع افتراسها، كما فعله فينا “أبطال” هذه الحرب المتواترة، المدمرة.

التعليم ليس كافيًا لتصفية أسباب ذلك، كما أن التثقيف عبر تراكم المعلومات والتباهي بالمعارف لن يضيء الطريق، بقدر ما تفعل ذلك إنارة الضمائر وهندسة العقول وتدريبها على إتقان التفكير العلمي، والدفاع عن الحقائق الكبرى التي فئ مقدمتها أننا شركاء في الأرض، والحقوق، والأهداف، وهذا ما يستحق  الجهد والإخلاص لصنع الحياة الملهمة.

لست متأكدًا مما إذا كانت التربية والثقافة فقط قد جنت علينا، أم ارتباط ذلك بعقليتنا السياسية وعلاقتنا الخاطئة بممارستها؟ ولكن من الصحيح ان القيم التي تعمل عليها العقلية السياسية لا بد من انها تستمد اخطائها من القيم الاجتماعية ذاتها وان ذلك يصبح حيويًا في تكوين الخيبة والنكبة التي نسمّيها مجازا ب “الحياة”.

إدارة الحياة لا يمكن أن تكون علمًا بالقدر الذي يجب أن تكون فيه قدرة وتحصيلًا وتأهيلًا نتعب لأجله،  ونخلص النوايا لتحقيقه. لا نحتاج إلى عصفٍ ذهني كلما وقعت المأساة ، بل إلى معرفة منطلقات ومصادر وآليات التفكير الذي يمنع حدوثها لكي ننجو من عقاب وعواقب إفسادها بإعدام فرص التعايش بيننا كسودانيين، سواء بالحرب أو بغيرها.

إذا أردنا النجاة من دوامة الصراعات، فلا بد أن نزيل سوء الفهم بتحسين التعارف الثقافي ونعيد النظر في علاقتنا بتنوعنا ونتحقق من هوياتنا، ونؤكد على مستحقات العمل المشترك، وصيانة الحقوق، والاحترام  المتبادل بدلًا من تربية ورعاية الاصطفافات التي لن تقود سوى نحو الهاوية. فالحروب، كل الحروب وكما قال الفرنسي فولتير : “قائمة على سوء الفهم”.

الوسومالتربية التعليم الثقافة الحرب السودان القبول بالآخر وجدي كامل وطن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: التربية التعليم الثقافة الحرب السودان وطن

إقرأ أيضاً:

يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان

بعد سقوط البشير واستقالة صلاح قوش ومن بعده جلال الشيخ، تغولت الاستخبارات العسكرية على ملفات جهاز المخابرات وسيطرت على معظم موارده، وتقاسمته مناصفة مع الدعم السريع، الاستخبارات على المعلومات والتحليل والقرار، والدعم السريع على المقار والموارد الفنية..

تحول جهاز المخابرات إلى جسد بلا روح، يتم ابتزازه سياسياً من قبل قحت بماضيه وانتماءات منسوبيه لنظام الإنقاذ. كثير من عناصره انحنوا للعاصفة، فمنهم من تم إقالته ومنهم من دخل في حالة كمون وانتظار ومنهم من طاوع الحكام الجدد وأدار ظهره لولائه السابق ومنهم من قاوم مشروع الحكم الجديد بممانعة صامتة..

كان الهدف بعد سقوط البشير وبعد حادثة هيئة العمليات أن تكون السيطرة الكاملة لصالح الاستخبارات العسكرية، وكان الرأي الغالب لدى قيادات الجيش أن يدار الجهاز بواسطة ضباط من داخل المؤسسة العسكرية، مثل الفريق جمال عبد المجيد. لم تنجح التوجهات الجديدة لأسباب تتعلق بعدم دراية هؤلاء الضباط بطبيعة الثقافة المؤسسية الطاغية على عمل الجهاز وبطبيعة العمل الأمني في شقه المدني ولغياب الرؤية المشتركة بين الضباط القادمين من الجيش مع الشباب الذين تخرجوا من مؤسسة الجهاز، بالإضافة لتعدد الولاءات داخل الجهاز نفسه بين ولاءات تقليدية وولاءات حديثة مرتبطة بالعناصر المدخلة من قبل مجموعة حميد-تي والنظام الجديد ..

صحيح لم يستطيع حميدتي ابتلاع الجهاز كلياً، لكنه أحدث فيه اختراقات عميقة وخلق حالة من الاهتزاز الداخلي جعله جهاز فاقد للفعالية ومكبل بعزلة سياسية وحالة عداء شعبي مرتبط بديسمبر والخطابات الميدانية الرافضة لعناصره. فحالة الهياج الشعبي الرافض للجهاز ولعناصره وظفها حميدتي لجعل دور الجهاز محصور فقط في جمع المعلومات وتكبيل اي خطوات وقائية يمكن أن يقوم بها وحصرها فقط على الد-عم السريع ..

الأن وبعد قيام الحرب ومع بدء الجهاز في استعادة توازنه وفك قيود التكبيل التي مارسها عليه حميد-تي، يجب على قيادة الدولة أن تسمح بإعادة جهاز الأمن إلى عمله وفق هيكلة جديدة تعيد له صلاحياته الفنية في التحليل والتأمين والتحرك خاصة في الأحياء السكنية وملء الفراغ الاستخباراتي داخل المدن. المطلوب هو فك الارتباط والتداخل بين استخبارات الجيش والجهاز ، خصوصاً على الملفات الأمنية ذات البعد المدني وترك إدارتها للجهاز ، مع زيادة التنسيق بينهم بعيداً عن التعامل مع الجهاز بنظرة ديسمبرية قللت من فعاليته وساهمت في تهميشه. يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان .
حسبو البيلي
#السودان

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • البابا فرنسيس.. الكاردينال الذي باع ثروته واشترى قلوب الفقراء
  • مفاهيم إسلامية: الكتاب والقرآن
  • عودة الحياة إلى الخرطوم: من المدينة الرياضية بدأت الحرب… ومنها تعود الحياة
  • يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
  • أحمد بن محمد: إنجازاتنا تستحق نقلها للعالم برسالة فعّالة ومؤثرة
  • الدكتور فرانسيس شقلب التاريخ
  • الجزيرة .. موعد مع الحياة (١)
  • العقلية الاحترافية.. شوبير يعلن رحيل نجم الأهلي في نهاية الموسم
  • ‏الأردن يرحب بالتوافق الذي توصّلت إليه واشنطن وطهران خلال الجولة الثانية من المباحثات التي عُقِدَت في العاصمة الإيطالية روما
  • الطريقة التي سارت بها الحرب في السودان كانت خادعة لحلفاء المليشيا وداعميها