للتاريخ وللسياسة وللممكن!
تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT
يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"نحن في حاجة إلى رؤية للقوة، تكون أشمل من الرؤية التقليدية التي تركز على القدرة على كسب الحرب" يورغ سورنسن.
***
عندما تتفكر فيما يحدث من تطورات في تمكن والتزام ومسببات ومقتضيات ومتحركات السياسة الدولية تجد التطور هو الثابت الأكثر تحركا بها، تطورت حوادث الحياة السياسية المعاصرة بحسب وجود السيد الأقوى على سدة القرار، وهنا القصد بالسيد الأقوى من يملك إمكانات تخطيط وتنظيم وصنع وتنفيذ القرار السياسي، وعلى أثر ذلك ستلاحظ بما يتدثر به من مبادئ وقيم، وأخلاق ووفاء، ومعاهدات واتفاقيات، وهل تصب في صالح النظام العام أم متسقة فقط مع نظامه الأحادي، وهل يتغير رئيس وتبدل نظام تذهب مبادئ وتأتي أخرى؟
التاريخ وبصفحاته وضح كل شيء، ومن لا يقرأ التاريخ ليس تكون خطواته على ورود، بل سيكون الشوك عنوانها، القوة إن لم تقودها العقلانية والمصلحية العامة وسط إطار يضع المصالح بجانب القيم التي تعبئ مصالحها بمبادئ القوة المتمكنة من تحقيق الأهداف بإمكانات فعالة قد تفضي إلى تحقيق هدف وأكثر لكنها لن تستطيع الصمود لفترات طويلة، ولن تتحمل الضغط العالي لإن الأساس أصبح هشا، فهل هناك من يستطيع بناء الدور الثالث من مبنى دون بناء أساسات ودور أرضي؟
لنرجع قليلا إلى ماض قريب عندما كف ميخائيل غورباتشيف عن مساندة الديكتاتوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية، فتساقطت واحدة بعد الأخرى، وفي بلده هو انتهت سياستا غلاسنوست glasnost وبيريسترويكا perestroika إلى انهيار الاتحاد السوفييتي (1)، هنا يتبين دور القوة المساندة في تحديد مسارات الإطار العام للسياسات المنظمة بين الدول؛ فالدول التي تضع اعتماديتها الكاملة أو الشبه كاملة في يد دول أخرى فدرب ابتزازها وطريق طلب فواتير سياسية واقتصادية باهظة كونها لا تتحكم في كل خيوط اللعبة، الأقوى هومن يملك تحريك الخيوط وقيادتها وإيقافها كذلك، تصور لولم تجمع الأقوى مصالح مع طالبي المساندة، فكيف سيكون الوضع ؟
في العلاقات الدولية قواعد أخلاقية لعملية اتخاذ القرارات الخاصة بالسياسة الخارجية للدول أهمها قاعدتين: على الدول الوفاء بالتزاماتها وعهودها + للدول الحق في الدفاع عن نفسها ضد الاعتداء الخارجي (2)، ومن الصعب على أية وحدة سياسية الصمود وسط تيارات المتغيرات السياسية الدولية دونما وجود أساس متين تتكأ عليه من استقرار سياسي وقوة عسكرية، ونهضة اقتصادية، زائد تحالفات مع دول موثوقة تملك قيما ومبادئ مشتركة، وربط هذه التحالفات بشبكة مصالح طويلة المدى كمصالح اقتصادية مثلا.
في دول الديمقراطيات العريقة قد يتبدل فكر إدارة الدولة بمن توصله صناديق الاقتراع، وهنا على الحلفاء مراقبة أوضاع المتنافسين وخلفياتهم السياسية والقيم التي بسببها قد يصلون لسدة القرار، ودراسة هذه القيم ومدى مناسبتها للقيم المطلوبة، وكيف التعامل معها ومواجهتها بما يحقق الصالح العام، وهذا يتطلب وجود مستشارين على درجة عالية من التبصر في مراقبة ما يحدث، ويملكون بصيرة معرفة التاريخ، ومكر أهل السياسة، وتبدل أحوال الدول .
من أهم أسباب جودة السياسة لأي وحدة سياسية (دولة) هي وجود حدود ثابتة لا غبار حولها، وقيادة سياسية مستقرة، وأمن داخلي وخارجي راسخ، واقتصاد لدبه مرونة القدرة للتطور، وانخفاض نسبة البطالة، وأنظمة صحية وتعليمية تحقق حد جيد من الإطار العام المطلوب، وتعزيز ذلك بشبكة تحالفات إقليمية ودولية موثوقة قائمة على مصالح مشتركة طويلة المدى، هنا سيكون الوضع معقولا إلى حد ما، في عالم تتقاذفه العواصف من كل جانب، ولا بقاء به إلا للأقوى والأدهى!
للتحليلات السياسية مناهج ومخرجات وأنواع منها: تقييم حالة، وتقدير موقف، وتنبيه سياسي، واستشراف سياسي (3)، ولكل منهج نظرية وتفاعل وأسلوب، والجدل حول التحليل السياسي لأي لم ولن يتوقف وهذه طبيعة الأمر، في العلوم الإنسانية يعتبر الجدل عاملا مهما للوصول لقناعة ما، وهذا فارق العلوم العقلية عن النقلية، العلوم التي يلعب بها الفكر دورا مهما قد تتبدل أفكارها من حين لآخر مع بقاء ثوابتها. في السياسة- التي هي جزء من العلوم الإنسانية- قد تتبدل قيم وتتغير مبادئ بحسب المصلحة، والمصلحة هي تعبر عن طبيعة الإنسان الناظرة للأعلى وللأكثر وللأقوى، وطبيعة النفس البشرية قد تحدد أحيانا ماهي السياسة القادمة للدولة "س" عندما يأتي الرئيس فلان، وكيف تواجه سياستها الدولة "ص"؟
السياسة بحر غبه عميق جدا لا يجيد السباحة فيه سوى الماهر ومن يلبس على ظهره أوكسجين يكفي في حال الغوص إلى غب المحيط!
قال تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال: 60).
**************
بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، أتقدم لكم بخالص التهنئة، ومبارك عليكم الشهر، وعساكم من عواده. وأسأل الله أن يعيننا على صيامه وقيامه وأن يجعلنا فيه من المقبولين.
مراجع:
كتاب: "إعادة النظر في النظام الدولي الجديد"، تأليف يورغ سورنسن، ترجمة أسامة الغزولي، الفصل الخامس، ص 147 و148، سلسلة عالم المعرفة 480 يناير 2020م. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت. كتاب: "قواعد اللعبة". الكتاب الرائد في العلاقات الدولية، تأليف مارك أمستيوز. الفصل الثامن، ص 296 و297، الطبعة الثانية، دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، جمهورية مصر العربية. كتاب: "أصول التحليل السياسي" تأليف د. فوزي حسن الزبيدي. المبحث الثالث ص 31، طبعة أولى 2018م. دار ثقافة للنشر والتوزيع. أبوظبي، بيروت. رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
السياسة الطاقية بالمغرب.. أية رهانات للانتقال؟ قراءة في كتاب
الكتاب: الانتقال الطاقي بالمغرب: اختيار أم ضرورة؟المؤلف: د محمد نجيب بوليف
دار النشر: رؤى برنت-الرباط.
الطبعة: 2025
عدد الصفحات: 400 صفحة
منذ أزيد من ثلاثة عقود من الزمن، طرحت معضلة النموذج الاقتصادي بالمغرب، وارتهانه إلى عوامل الطبيعة (الأمطار) وتقلبات أسواق النفط الدولية (أسعار النفط والغاز)، وتعاقبت سياسات حكومية كثيرة، موجهة برؤى استراتيجية رسمت الملكية خطوطها العريضة، تضع قضية الانتقال الطاقي في جدول أولويات النموذج التنموي المغربي الجديد، وتراهن على الطاقات المتجددة، لتقليص نسبة التبعية للخارج في موضوع الأمن الطاقي.
بيد أن هذه السياسات الطاقية التي تنوعت اتجاهاتها ورهاناتها، بدأت تطرح سؤال التقييم، بل أصبح سؤال الانتقال الطاقي، في حاجة إلى إعادة تعريف بالقياس إلى السياق المغربي نفسه، بالنحو الذي يجيب فيه عن سؤال طبيعة هذا الانتقال، وهل هو قرار استراتيجي واع، أملاه الاختيار، أم هو ضرورة، فرضت على المغرب، حتى يجيب عن التحديات الطاقية التي أضحت تحاصره؟
الكتاب الذي بين أيدينا "الانتقال الطاقي بالمغرب: اختيار أم ضرورة؟" لصاحبه الدكتور محمد نجيب بوليف، يكتسي أهمية من جهة الموضوع، وأيضا من جهة المؤلف الذي جمع بين ثلاث مزايا نوعية، أولها التخصص في اقتصاد الطاقة، فهو الحاصل على شهادتين للدكتوراه في هذا التخصص وطنية ودولية، وثانيتها، أنه شغل أكثر من مهمة حكومية سواء في حكومة عبد الإله بنكيران (وزارة الشؤون العامة والحكامة ثم وزير ا للنقل) أو في حكومة سعد الدين العثماني (وزير منتدب مكلف بوزارة النقل)، وثالثتها خبرته الاقتصادية لدى العديد من المؤسسات الدولية والمالية (البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وجمعية الدول الفرنكفونية، والمنظمة العالمية لمحاربة الفساد.).
هذه الميزات الثلاث، تجعل من كتبه وثائق مذيلة بكثير من الإحصاءات والبيانات سواء منها الوطنية الخاصة بالمغرب، أو الدولية، هذا فضلا عن تتبع السياسات الحكومية، وقدرة كبيرة على تحليلها بشكل موضوعي، بعيدا عن التحيزات السياسية.
الانتقال الطاقي وإشكالات المفهوم
يثير المؤلف في كتابه سؤالا إشكاليا مهما يرتبط بمفهوم "الانتقال الطاقي"، فالمغرب الذي تبنى هذا الاصطلاح، لم يقدم أي تعريف له مما جعله غير محدد المعالم، بل جعله حمالا لأوجه كثيرة. يسجل المؤلف أن الوثائق الرسمية (الحكومية على وجه التحديد) بما في ذلك الاستراتيجية الطاقية الوطنية المعلنة سنة 2009، لا تقدم أي تعريف للانتقال الطاقي.
يعود المؤلف إلى حفريات هذا الاصطلاح الجديد والطارئ في الساحة الطاقية، ويسجل أن المعهد الألماني "أوكو فرايبورغ" كان أول من استعمله، وذلك سنة 1980، إذ كان يبحث عن بدائل النفط والطاقة النووية بعد أزمتي النفط عامي 1973 و1979. ثم تعزز استعماله في مؤتمر دولي ببرلين حول "الانتقال الطاقي والتخلي عن الطاقة النووية وكيفية حماية البيئة". ويشير إلى أنه خلال الفترة الأخيرة، تم تناوله أوائل عام 2009، من خلال رؤيتين مختلفتين، الأولى بمقاربة أنثروبولوجية وسياسية، والثانية بمقاربة أقرب إلى موضوعنا، من زاوية تقنية ـ اقتصادية.
المغرب يستورد الطاقة بنسبة 91 في المائة من احتياجاته الطاقية، وهو ما يجعل الفاتورة الطاقية مرتفعة، بل يجعل العرض الطاقي في المجمل خاضعا لتقلبات أسعار الطاقة والسياسية الطاقية الخارجية، وهذا ما يؤثر بشكل كبير على كثير من السياسات التنموية، خاصة عند تطبيق مقتضيات الدعم من خلال صندوق المقاصة ودعم الأسعار الكهربائية.يورد المؤلف تعريفات متنوعة للانتقال الطاقي، فالبعض يعرفه بأنه "تغيير من حالة طاقية إلى أخرى، قد تكون أفضل أو أسوا من سابقتها"، والبعض الآخر عرفه بأنه "تغيير لمصادر طاقية حالية (تغيير كلي أو جزئي) إلى مصادر طاقية مختلفة"، ويورد في هذا السياق ثلاث تعريفات لمتخصصين في المجال الطاقي، الأول عرف الانتقال الطاقي بأنه "وضع نموذج طاقي متنوع وتوازني وتشاركي"، وعرفه الثاني بانه "بديل يمكن من استعمال الطاقة البيئية، الصديقة للمناخ، وأنه الحل للإشكالات المناخية والاقتصادية"، بينما عرفه الثالث بأنه "العبور من بنية الإنتاج القائمة على الجمع بين مصادر الطاقة إلى أخرى". ويخلص المؤلف من استقراء هذه التعاريف كلها وتحليل مكوناتها إلى أن "الانتقال الطاقي" يمثل من جهة، "تحولا من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة المستدامة المتجددة التي لا تنبعث منها غازات دفيئة"، ومن جهة ثانية هو "تقليص لكمية الطاقة المستهلكة عن طريق تحسين كفاءة استخدام الطاقة في المباني والتكنولوجيات، وعن طريق تغيير أنماط الحياة".
الانتقال الطاقي في المغرب والإشكالات المستعصية
ليس ثمة أدنى شك أن تتبع عناصر استراتيجية الانتقال الطاقي المغربي، تتطلب ابتداء الإحاطة بخارطة الطاقة بالمغرب، وخصوصية العرض الطاقي المرتهن بشكل كبير إلى الخارج، فالمغرب يستورد الطاقة بنسبة 91 في المائة من احتياجاته الطاقية، وهو ما يجعل الفاتورة الطاقية مرتفعة، بل يجعل العرض الطاقي في المجمل خاضعا لتقلبات أسعار الطاقة والسياسية الطاقية الخارجية، وهذا ما يؤثر بشكل كبير على كثير من السياسات التنموية، خاصة عند تطبيق مقتضيات الدعم من خلال صندوق المقاصة ودعم الأسعار الكهربائية.
ولعل هذه التحديات والإكراهات هي ما دفعت المغرب إلى وضع استراتيجية طاقية وطنية جديدة، تستثمر ما يتوفر عليه المغرب من طاقات متجددة، وتهدف إلى رفع حصتها في الإنتاج الكهربائي إلى 52%، وكذا تقليص التبعية الخارجية إلى حدود 80% عام 2030.
وقد رسمت هذه الاستراتيجية خمسة توجهات أساسية، انطلقت من تعبئة الموارد الطاقية الممكنة، والارتكاز على التنمية المستدامة استجابة للتحديات المناخية العالمية، واستعمال النجاعة الطاقية كمصدر طاقي إضافي، ثم تنويع الباقة الطاقية بخيارات تكنولوجية موثوقة وتنافسية، إضافة إلى الاندماج الجهوي الطاقي للبلد، كحلقة وصل وتنمية بين أوروبا وأفريقيا (مشاريع الكهربة والغاز).
لكن تنزيل هذه الاستراتيجية على الأرض أظهر العديد من التحديات والإشكالات، التي اضطرت المغرب إلى نهج سياسة جديدة تقوم على مفهوم الانتقال الطاقي.
وقبل أن يعرض المؤلف لهذه الإشكالات، ويفك خيوطها ويبحث آثارها، وضع بين يدي القارئ بيانات ضافية حول مكونات المشهد الطاقي، تشكل مرجعيا إحصائيا وإطارا مرجعيا للعرض والطلب الطاقيين على السواء، إذ تضمن الكتاب 126 جدولا إحصائيا ورسما بيانيا تندرج معظمها في بيان هشاشة العرض الطاقي الوطني وضعفه ومحدويته. ويسعى الكتاب إلى تحليل هذه المعطيات، وتقدم إجابات منهجية لتجاوز هذا الوضع، كما حاول حصر الأثر الذي ينتج عن هذا العرض الطاقي الهش(ضعف التأثير الطاقي في المجالين التنموي والاقتصادي) وذلك، من خلال مؤشرات علمية معتمدة في المجال..
وإضافة إلى هذا الجهد الإحصائي والتحليلي الكثيف، فقد ركز المؤلف جهده في مناقشة إشكالية الانتقال الطاقي بالمغرب، وهل هو اختيار منسجم مع التوجهات الكبرى للنموذج التنموي الوطني وللاستراتيجية الطاقية؟ أم أن هذا الانتقال أصبح ضرورة (مفروضة) اعتبارا للواقع الطاقي الهش، وللتدبير الارتجالي لمجالات التأثير الطاقي، تم اللجوء إليه لمحاولة تجاوز الإشكالات المختلفة على الصعيد الإنتاجي والمؤسساتي والحكامي، وذلك لتوفير عرض طاقي وطني طموح ومستجيب للمتطلبات التنموية التي يحتاجها المغرب للانتقال التنموي في أفق 2050.
هذا وقد عالج الكتاب هذه القضايا في ستة فصول انتظمها بابان اثنان، إذ قدم في الباب الأول واقع الطاقة بالمغرب وتحدياته، وتوقف فيه عند ضعف العرض الطاقي الوطني كمعطى مرتبط بالجغرافيا وبضعف تدبير ملف العرض، وبحث في الجهة المقابلة التأثير الطاقي في المجالات الاقتصادية والتنموية والاستراتيجية. ثم تناول في الباب الثاني إشكالات الإستراتيجية الطاقية وسؤال الانتقال الطاقي، إذ تناول فيه مقاربة تدبير ملف الطاقة بين أهداف الاستراتيجية الوطنية والنموذج التنموي الجديد، من خلال محاور تعبئة الموارد الوطنية والرفع من الطاقات المتجددة، والتنمية المستدامة كأولوية وطنية، والنجاعة الطاقية كمصدر طاقي، وتنويع الباقة الطاقية بخيارات تكنولوجية موثوقة وتنافسية، وتعزيز الاندماج الجهوي. هذا وقد بسط المؤلف في هذا الباب أهم نتائج التدبير الطاقي، معززة بالمعطيات ونتائج الأبحاث.
كما تناول الكتاب ضمن هذا الباب أيضا تقييما شاملا للاستراتيجية الطاقية الوطنية، بعيدا عن التفاؤل الزائد للتسويق الحكومي، وذلك بالاعتماد على آراء مختلف المؤسسات الدستورية والبحثية، وكذا النتائج التي خلصت إليها الدراسة. لينتهي المؤلف بعد ذلك إلى تقديم العديد من المقترحات التي يمكنها أن تكون إيجابية لتسريع الانتقال الطاقي، انطلاقا مما هو متاح وممكن.
كيف وقع الانتقال من الاستراتيجية الطاقية إلى الانتقال الطاقي؟
يطرح المؤلف سؤالا إشكاليا ومنهجيا على السياسات العمومية في المجال الطاقي، يتلخص في الطريقة التي مرت بها المغرب "الاستراتيجية" الطاقية الشاملة، إلى "الانتقال الطاقي"، الذي قد يعتبر هدفا (جزئيا أو كبيرا) لهذه الاستراتيجية؟ وما الأسباب التي بررت هذا التحول؟ وهل هي ذاتية أم موضوعية؟ وهل هذا الانتقال ناتج عن فعل اختياري راشد تم اعتماده وفقا لتقييم موضوعي وواقعي لآثار تنزيل "الاستراتيجية" الطاقية الوطنية؟ أم أنه "ضرورة"، فرضت على البلد داخليا، من خلال الموارد الطاقية، القليلة فيما يخص الموارد الأحفورية والكثيرة من حيث الطاقات المتجددة كالشمس والرياح، وكذلك أيضا من حيث الموارد المالية المتوفرة، والتي لا تساعد على الإبقاء على تدبير القطاع الطاقي كما هو حاليا؟ أم هو ضرورة خارجية، أملتها المتغيرات العالمية التي توجهت من جهة نحو الاقتصاد الأخضر والخالي من الكربون، بحيث فرضت على المغرب التزامات وطنية، أو لربما نظرا لاستشراف مستقبل واعد بالنسبة لبعض موارد الطاقة البديلة، ومنها الهيدروجين كنموذج؟ أو لتفادي التغيرات السعرية الطاقية المرتبطة بمناخ جيو استراتيجي غير مستقر؟
يطرح المؤلف هذه الأسئلة الإشكالية، وهو يوجه الأنظار إلى قضية بالغة الأهمية، وهي أن هذا الاختيار أو هذا الاضطرار يخلف آثارا على التدبير الطاقي المستقبلي. فهو ليس "شعارا" يرفع، بل تغييرا "جذريا" في عملية إنتاج الطاقة واستهلاكها، بحيث يُعتبر أحد مكونات التحول البيئي. فعندما يقرر بلد ما "الانتقال" الطاقي نحو الطاقات المتجددة (النظيفة)، فإن عليه أن يتأقلم بشكل كلي مع هذا التوجه وينخرط فيه، استثمارا وإنتاجا واستهلاكا.
ومن هنا تكمن "مشكلة" الوعي بما يستوجبه من تغييرات على الصعيد المجتمعي. فـ"الانتقال الطاقي" ليس سهلا بحيث لا يتوقف فقط على إرادة صاحب القرار والتطورات التقنية والأسعار وتوفر المصادر، بل يتطلب تحولا سلوكيا واجتماعيا وتقنيا، وتعديلا لأنماط الاستهلاك الطاقي، بجعلها ـ حسب المتداول المقصود من المصطلح ـ أكثر انسجاما مع البيئة. وهو ما ليس متاحا بالنسبة لجميع مكونات المجتمع التي يراد تطبيق الانتقال الطاقي فيها، فهو يتطلب تكييفا للاستعمالات المنزلية والمقاولاتية والمجتمعية مع التطورات التي تتطلبها أنواع الطاقة البديلة، فليس كل من يتوق للطاقة الشمسية ـ يضيف المؤلف ـ يمكنه استعمالها، ولا الطاقة الريحية والهيدروجينية...فالتحول ليس بالأمر السهل اقتصاديا وماليا وفنيا وسياسيا..
"الانتقال الطاقي" ليس سهلا بحيث لا يتوقف فقط على إرادة صاحب القرار والتطورات التقنية والأسعار وتوفر المصادر، بل يتطلب تحولا سلوكيا واجتماعيا وتقنيا، وتعديلا لأنماط الاستهلاك الطاقي، بجعلها ـ حسب المتداول المقصود من المصطلح ـ أكثر انسجاما مع البيئة.ويذهب المؤلف أبعد من ذلك في طرح إشكالات مستقبلية على هذا الرهان الطاقي يصعب الإجابة عنها بشكل موضوعي. فيطرح سؤال ما العمل عند اختيار الانتقال الطاقي لو أن أسعار الطاقات الأحفورية، لأسباب جيو استراتيجية معلومة، أو للحفاظ على طلب عالمي في مستوى الإنتاج والاحتياطيات لمدة طويلة، أصبحت رخيصة جدا وتنافسية قياسا لأسعار إنتاج الطاقات المتجددة؟ وهل سيتم إيقاف سيرورة "الانتقال"؟ أم أن أصحاب هذا التوجه سيضطرون للقبول بمصادر طاقية أغلى وأقل تنافسية، وذلك على حساب الصالح العام؟ وما أثر ذلك على التنمية بالعالم؟
يطرح المؤلف هذا السؤال المستقبلي، ويعود بنا إلى التاريخ القريب لفهم طبيعته الموضوعية، فمنذ أزمة 1973، والدول تبحث عن البدائل، حيث توجهت نحو النفط الصخري تارة، ثم نحو إلى الطاقة النووية تارة أخرى، ثم نحو الطاقات العضوية وغيرها من المصادر، لكن ـ يضيف المؤلف ـ بعد 50 عاما، لازال النقاش مفتوحا للاستفادة من المواد الأحفورية إلى آخر "طن" منها.
يرى المؤلف أنه للإجابة عن هذا السؤال في السياق المغربي، لا بد من الانطلاق من واقع المغرب، الذي يوجد أمام تحـديات استراتيجية طاقية متعددة الجوانب. فمن جهة أولى يواجه المغرب تحديا مرتبطا بالعرض حيث ينتج المغرب أقل من عشر احتياجاته الطاقية فقط، مما يجعله "تابعا" للخـارج، وهو الأمر الذي دفعه لتحديد هدف مركزي لاستراتيجيته الطاقية يخفض من خلاله نسبة التبعية الطاقية إلى 82% (فقط) عام 2030. ينضاف إلى هذا التحدي تحدي ذي طبيعـة ماليـة يتمثل في ثقـل الفاتـورة الطاقيـة وانعكاسـاتها على مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للبلد. ويشير المؤلف بهذا الخصوص إلى ان تكلفة هذه الفاتورة انتقلت من أقل من 20 مليار درهم عام 2002 مثلا إلى 50 مليار درهم عام 2020، ثم إلى 75 مليار درهم عام 2021، لتقفز إلى رقم قياسي تاريخي ناهز 153 مليار درهم عام 2022.. لتتراجع عام 2023 إلى حوالي 122 مليار درهم (ويبقى رقما كبيرا).
ويذكر المؤلف تحديات ثالثا يرتبط بضعف الاستهلاك الطاقي العام والفردي، والذي من شأنه أن "يضبط إيقاع" دينامية الآلة الاقتصادية الوطنية. وقد نتجت عن هذه الجوانب المختلفة للطاقة بالمغرب إشكالات تتعلق بالكثافة الطاقية وبأثر الطاقة على الإنتاج والنمو، وكذا مردودية المشاريع الطاقية السابقة والمستقبلية والاختيارات الطاقية المرتبطة ب "الانتقال" الطاقي المراد للمغرب أن يسير عليه.
وفي سياق الإجابة عن هذه الإشكاليات المعقدة، قدم المؤلف تفصيلا دقيقا للوضعية الطاقية الوطنية، محاولا في ذلك تناول الخصوصيات الرئيسية للواقع الطاقي المغربي، من حيث العرض الطاقي الذي يبقى ضعيفا ودون المستوى المطلوب، وذلك نتيجة ضعف الرؤية الحكومية في كيفية إيجاد التوازن الملائم لمختلف مصادر الطاقة في الإنتاج الوطني، و"التبعية الإرادية" الناتجة عن ذلك. كما تناول الخصوصيات المرتبطة بضعف التأثير الطاقي في المجالين الاقتصادي والتنموي، سواء تعلق الأمر بعدم كفاية الطلب الطاقي الوطني، أو بانخفاض الإشباع الطاقي الفردي، أو بصعوبة تحقيق "الانتقال الطاقي" المنشود.
وقد حرص المؤلف على تقديم رؤيته الخاصة وتقييمه العلمي للاستراتيجية الوطنية من خلال مستوى تحقيق أهدافها، وانطلاقا من توجهاتها الاستراتيجية الخمسة، دن أن يكترث بتوصيفات عدد من المسؤولين و"الخبراء" المتفائلين الذين يسوقون بشكل عاطفي لمستقبل طافي زاهر، ويزيحون من اعتبارهم في التقييم النواقص والإكراهات التي تحتاج لعمل "إرادي" جاد ومتميز، يراعي أولويات الوطن والمواطنين.
هامشية المغرب في المجال الطاقي
خلص المؤلف في كتابه إلى أن المغرب هامشي في المجال الطاقي، سواء في إنتاجه للطاقة (أقل من 0.02% على الصعيد العالمي)، أو في استهلاكه (أقل عن0.2% عالميا)، أو في تدبيره غير الفعال لملف الطاقة برمته. وقد انتهى في دراسته أيضا إلى أن الإشكال الرئيسي للملف الطاقي بالمغرب يختصر أولا في ضعف الإرادة للرقي به إلى المستوى الاستراتيجي الذي يليق به، وكذا في تحديد الدور الذي يراد لقطاع الطاقة أن يقوم به في العملية التنموية بالمغرب.
يفسر د محمد نجيب بوليف ضعف تموقع المغرب الطاقي الاستراتيجي لهشاشة العرض، وقلة الموارد الطاقية الوطنية، وسوء التدبير المرتبط بضعف الاستكشاف والتنقيب والإمكانات الموفرة. فالمغرب لم يفلح منذ عقود في جلب الاستثمارات الضرورية في قطاع الطاقات الأحفورية، رغم الإمكانات الطبيعية المتاحة، والاحتياجات الكبيرة لتوفير هذا النوع من الطاقة، إذ لم يستطع جلب الشركات الكبرى المعروفة في هذا المجال، وبقي العاملون في هذا القطاع "صغارا" من الهواة، ضعيفي الخبرة والقدرات المالية، وليسوا من الصنف الذي يمكن أن يعول عليه لخلق "طفرة نوعية" دائمة في مجال الاستكشاف.
الانتقال الطاقي" لا يمكن أن يعتبر هدفا في حد ذاته، بل هو نتيجة "حتمية" لتطور واقع طاقي متميز بتفاعلات سلوكية وطبيعية / جغرافية وجيوـ استراتيجية مختلفة.كما يفسر ذلك أيضا بضعف انخراط الرأسمال الوطني في هذا المجال وعدم "مغامرته" للاستثمار، نظرا لضرورة الرأسمال الكبير وتواجد عناصر المخاطرة والمجازفة وطول وقت الحصول على مردودية، مفضلا بذلك منطق "الريع" والعمل في سلاسل القيمة النهائية لقطاع الهيدروكربونات، والمتعلقة بالتجارة، الرابحة دائما.
ويعزو المؤلف تراجع وضع المغرب الطاقي أيضا إلى تأخر مؤشرات استهلاكه الطاقي العام والفردي وكثافته الطاقية الإنتاجية عن مستويات الدول الصاعدة. ويرى المؤلف أن هذا الوضع ليس راجعا فقط للبنية الاقتصادية والاستهلاكية التي لا زالت حبيسة منطق لا يرى في الطلب الطاقي مكونا من مكونات النمو، بل تعود أيضا إلى محاولة المغرب الارتباط بالتوجهات الهيمنية الغربية، فالغرب -كان ولازال-له قدرة على تمرير سلوكيات ومواقف تخدم مصالحه، ومنها إلحاحه على ضرورة خفض الاستهلاك الطاقي الفردي، وكذا الاستهلاك الطاقي الضروري للإنتاج، والحرص على عدم الاستهلاك المضر بالبيئة، إلخ، مما يجعل الدول "النامية"، ومنها المغرب، مضطرة للالتزام بها وتطبيقها.
ويلمح المؤلف في خلاصة أخرى إلى إشكال ثالث يخص ضعف ارتباط التدبير الطاقي بمجالات النمو، مما يجعله مجردا ومقصودا لذاته. وقد خلص المؤلف لهاته النتيجة من خلال استقرائه لمختلف نتائج "الاستراتيجية الطاقية الوطنية" التي لم تستطع منذ 15 سنة أن تثبت عل أهداف قارة. وهذا ما رجح للمؤلف بان الانتقال الطاقي بالمغرب هو أقرب للضرورة منه للاختيار الواعي الراشد، ويدلل على ذلك بكون المغرب لم يوفر الطاقة بأسعار تنافسية، ولم يطور نجاعته الطاقية بما يلزم، ولم يحقق التنمية المستدامة المتوخاة والشمولية، ولم يمكن مواطنيه من "إشباع طاقي" ملائم، كما لم يستطع أن يحسم في مردودية وقابلية الطاقات المتجددة لكي تكون البديل الذي سيمكن من "الانتقال الطاقي" الموعود.
وهكذا يقرر المؤلف في كتابه خلاصة مركزية يعتبر فيها "الانتقال الطاقي" لا يمكن أن يعتبر هدفا في حد ذاته، بل هو نتيجة "حتمية" لتطور واقع طاقي متميز بتفاعلات سلوكية وطبيعية / جغرافية وجيوـ استراتيجية مختلفة. كما أنه لا يمكن أن "يفرض" استجابة لـ "توصيات" دولية أو ل "توجيهات" دول صديقة، أو لشروط "منظمات مالية".. فهو اختيار "قاصد" و"هادف"، نابع من إمكانيات البلد وأولوياته، وعملية إرادية متحكم في بلورتها وأهدافها وتنزيلها، وهو إرادة أولا، وتخطيط ثانيا، ووضع للوسائل ثالثا، ثم تنزيل محكم رابعا.