محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT
بعد أن فقد بصره وهو ابن ثلاث سنوات سأل والده: "متى النهار يطلع يا بابا؟"، فبكى الأب بحرقة وقال "سترى بقلبك يا بني أكثر مما ترى بعينيك"، لم يعرف الأب وقتها أن صوت ابنه سيكون كالشمس في تاريخ مصر، لا يبدأ النهار إلا بسماعه عندما تشير عقارب الساعة إلى تمام السابعة صباحا.
إنه الشيخ محمد رفعت -رحمه الله- الذي تلاحم صوته مع نسيج الوعي المصري ووجدانه، فأراد الله أن يحيا صوت الشيخ رفعت في مناسبتين، الأولى طوال العام عند الساعة السابعة صباحا عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، هذا الوقت الذي يتعلق بذاكرة كل مصري أثناء ذهابه إلى المدرسة ونزوله إلى عمله صباحًا، إذا سمع صوت الشيخ رفعت أدرك أن الشمس قد أشرقت إيذانًا بميلاد يوم جديد مصحوب بصوت الشيخ محمد رفعت.
وأما الثانية فطوال شهر رمضان المبارك مع أذان المغرب، هذا الأذان الذي إن سمعه المصريون في أي وقت استشعروا بنسمات شهر الصيام، ارتبط أذان الشيخ محمد رفعت بالإعلان عن وقت الإفطار كل يوم في رمضان، فأصبح له خصوصية يتفرد بها عن أي أذان آخر.
الشيخ محمد رفعت هذا الصوت الملائكي الخالد الذي تجددت فيه معجزة القرآن، إلا أن التسجيلات التي وصلتنا لم توفه حقه، ذلك لأن أغلب التسجيلات كانت قديمة تحتاج إلى ترميم وإصلاح، فغير المونتاج الصوتي شيئا من حقيقة صوت الشيخ رفعت، والأمر الثاني أن التسجيلات بدأت في فترة مصاحبة المرض لهذا الصوت، كما قال موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في إحدى لقاءاته إن تسجيلات الشيخ محمد رفعت تحمل تأثير مرضه وكأنك تسمع صوتا جميلا لكن عليه مسحة من المرض، وذكر أن تسجيل سورة مريم هو الذي يعطي بعضا من صوت الشيخ رفعت في اكتماله وشبابه ومقدرته.
في حي المغربلين بمنطقة الدرب الأحمر ولد الشيخ محمد رفعت سنة 1882 لأب يعمل ضابط شرطة بقسم الخليفة، وأم طيبة ترعى بيتها وتقوم على شئون الزوج والأولاد، واسم محمد رفعت هو اسم مركب أما والده فاسمه محمود رفعت وهو اسم مركب أيضًا، ولأن كل إنسان منا يسير إلى قدره المكتوب في الحياة، فقد واجه الشيخ محمد رفعت مصيره في الحياة مبكرا، المأساة الأولى عندما فقد بصره وهو في الثالثة أو الرابعة من عمره، والمأساة الثانية عندما فقد والده وهو ابن تسع سنوات.
ولأن في المنع عطاء، وفي كل محنة منحة، فكانت المأساة الأولى هي سبب العطاء الأعظم في حياة الشيخ محمد رفعت بعد أن قرر والداه أن يهباه للقرآن، وأتم حفظ القرآن وتجويده وهو طفل صغير في مسجد فاضل باشا، والذي عين فيه قارئا للسورة يوم الجمعة إلى أن أقعده المرض، وأما المأساة الثانية فكانت السبب في أن يتحمل الشيخ رفعت مسئولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وخالته وأخيه الأصغر بعد أن أصبح هو العائل الوحيد لهم، وظل على هذا الحال حتى ذاع صيته وأصاب سحر صوته كل من سمعه وتأثر به.
الشيخ محمد رفعت هو معجزة القرن العشرين في تلاوة القرآن الكريم، كان لصوته مفعول السحر على مستمعيه، فلا تسمع تلك الصيحات أثناء تلاوته كما يحدث في السرادقات مع قراء اليوم، ولكن طريقة قراءة الشيخ رفعت بما فيها من هيبة ووقار وإبهار كانت تجعل المستمعين لا يحركون ساكنا، يخشعون رهبة وإجلالا لعِظم ما يُقرأ عليهم.
تقليد الشيخ رفعت يحتاج لإمكانيات صوتية خاصة ولطبقة صوت اختص بها الله الشيخ رفعت، فيصعب جدا تقليده، تمتع الشيخ رفعت بصوت ماسي حاد جدا رنان كأنه الياقوت والمرجان، وبصوت عميق عريض جدا كأنه زئير الأسد في أدنى طبقات صوته، والعجيب أن في علو صوت الشيخ رفعت وهبوطه لا يشعر المستمع بأنه ينتقل بين القرار والجواب فهو يقرأ بطريقة السهل الممتنع، يلون الآيات بصوته وبما يناسب كل آية، فالموهبة وحدها لا تكفي، ولكنها تحتاج لذكاء يوظفها بطريقة صحيحة، والشيخ محمد رفعت وهبه الله من الذكاء الفطري والبصيرة الربانية ما جعله يقرأ القرآن بوعي وتدبر وذكاء.
عاش الشيخ محمد رفعت واهبًا حياته لخدمة القرآن الكريم ينشر صوته في كل مكان ويلبي الدعوات بعفة نفس خدمة للقرآن، لم يكن طالب مال ولا شهرة أو جاه، ترك لأبنائه ساعة يد وروشتة طبيب ومصحفًا، كما أخبر بذلك ابنه الأكبر محمد رحمه الله، وأصيب الشيخ رفعت بمرض الزغطة الذي اتضح أنه سرطان الحنجرة، فتوقف عن القراءة سنة 1943 بعد أن حبسه المرض وهو يقرأ ولم يخرج صوته في بعض الآيات فسكت ثم غادر المسجد وسط بكاء كل الحاضرين، وظل يعاني من هذا المرض الذي فشل الطب في علاجه، كان راضيا صابرا ولم يسخط، وفي يوم التاسع من مايو سنة 1950 أخذ يردد (الحمد لله) ويسأل زوجته عن أولاده، ويقول (الحمد لله) ثم فاضت روحه إلى رب العالمين، ليترك لنا صوتا لم ينطفئ يومًا، هذا الإرث الذي يشهد له بما قدمه في حياته لخدمة القرآن وإيصال رسالته، رحم الله قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: محمد رفعت الشيخ محمد رفعت قرآن المغرب المزيد الشیخ محمد رفعت بعد أن
إقرأ أيضاً:
رمضان.. شهر القرآن
يقبل علينا ضيف مبارك، اختصه الله من بين كل الأشهر ليكون موسم البركات العظيمة، والمنح والجوائز والأعطيات التي يقدمها الله لعباده الصائمين، فهو شهر الصيام والقيام وقراءة القرآن، وقد أنزل الله جل جلاله في هذا الشهر المبارك قرآنه العظيم، فقال تعالى في سورة البقرة: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" وجاء إنزال القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل ليبين المولى عز وجل هذا الارتباط الوثيق بين رمضان والقرآن، فهو شهر القرآن، يقبل فيه الصائمون إلى الله عز وجل بقلوب مخلصة، ويقدمون بين يديه أنواع القربات وصنوف الطاعات طمعا في نيل رضاه، ونيل نعيمه في الدنيا والآخرة.
وكما أن الإنسان مطالب بتأدية العبادات إلى الله والتقرب إليه في جميع شهور السنة، إلا أن هذا الشهر افترضه الله علينا، ليعيد بوصلة القلوب إلى بارئها، ويهيئ لها موسما يكون العبد فيها في عبادة دائمة فهو منذ طلوع الفجر يدخل في عبادة الصيام، ويرصع هذه العبادة ويحليها بمجموعة من العبادات والقربات وأولها قراءة القرآن والصلاة والصدقة، وبذل وجوه الخير، حتى ترتاح النفوس وتصفو القلوب، وصفاء هذه القلوب لا يحصل إلا بقراءة النور الإلهي المتمثل في هذا الدستور العظيم، الذي أنزله الله هداية للناس.
فالقرآن الكريم يزيل صدأ القلوب ويجعلها صافية نقية تستقبل الأنوار الإلهية، وتحيا بها، ولك أن تتصور أن جبريل عليه السلام كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة يدارسه القرآن ويعرض عليه هذا الكتاب الكريم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ"، فهذا الاقتران بين إنزال القرآن في هذا الشهر، وفي مدارسة القرآن من قبل جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم، لهو دلالة واضحة بأن شهر الصيام هو شهر القرآن.
وفي الحديث السابق الذي رواه ابن عباس دلالات عظيمة لخصال الخير التي يتصف بها خير البرية، فوصفه عليه الصلاة والسلام بأنه كان أجود الناس بالخير، فهو أجود الناس قاطبة، وكان أجود من الريح المرسلة في سرعتها وعموم خيرها وعد تقطعها، فكان عليه الصلاة والسلام جوادا كريما لا يباريه أحد في هذا الأمر، وهذا يدلل على فضل الصدقة في رمضان، فهو شهر تضاعف فيه الحسنات وتغفر فيه السيئات، وتغل فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران، فهو خير محض، وموسم لمضاعفة الأجور.
وقد اختص الله عز وجل هذا الشهر العظيم بأن جعل فيه ليلة "القدر" التي هي خير من ألف شهر، وقد أنزل الله عز وجل فيها القرآن الكريم مكتملا من اللوح المحفوظ إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، وهي ليلة خير من ألف شهر، ففيها فضل العبادة في الأجر يعدل ما يقوم به العابد في ألف شهر، ولو قمنا بحساب ألف شهر فهو يوازي أكثر من 83 سنة من العبادة، فلك أن تتصور لو وفقت إلى قيامها وتلاوة القرآن فيها وحرصت على لزوم أنواع العبادات فيها حتى طلوع الفجر، فإنك تنال بها أجر عبادة أكثر من 83 سنة، فالخاسر من يفوت على نفسه فرصة هذه الليلة، وخاصة أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حصرها في الليالي الوترية من العشر الأواخر من شهر رمضان، فعلى المسلم أن ينتهز هذه الفرص ويسعى لنيل أجرها، فهو لا يدري هل يصادف رمضان في العام القادم، أم يعاجله ريب المنون؟
فعلى الإنسان أن يكون له ورد يومي من قراءة القرآن وتدبر معانيه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأن يتمثله في حياته كلها، وقد فهم الصحابة والصالحون ارتباط القرآن الكريم بشهر الصيام، فكانوا يقضون أيام رمضان ولياليه وهم بصحبة القرآن الكريم لا يكاد يفارقهم، فرويت عنه القصص العجيبة، فقد كان الصحابي الجليل أبو النورين عثمان بن عفان يقرأ القرآن كاملا في ركعة واحدة، وكان بعض الصحابة والتابعين يقرؤه في ركعتين، فكانوا يختمون القرآن 30 ختمة في شهر رمضان، وذلك لما علموه من تنزل الرحمات والبركات والأجر العظيم من خلال هذه العبادة العظيمة.
كما ينبغي عليه أن يضع خططا له ولعائلته وأقلها أن يضع خطة لحفظ سورة البقرة في رمضان، بالإضافة إلى الورد اليومي من القراءة، ولو حفظ 10 آيات يوميا من هذه السورة المباركة، فإنه لن ينقضي رمضان إلى وقد أتم حفظها، فلو قسمنا عدد آيات سورة البقرة التي هي 286 آية على عدد أيام رمضان فإنه يستطيع حفظ السورة في 29 يوما، وسيكون هذا الحفظ بمثابة الدافع والحافز لإتمام حفظ القرآن الكريم كاملا، فمن استطاع أن يحفظ أطول سورة في القرآن يستطيع أن يحفظ ما سواها، وذلك يحصل بالتخطيط والإقدام على العمل، ومداومته، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم فضل قراءة القرآن والحث على قراءة البقرة وآل عمران وحفظهما وبركة سورة البقرة في الحديث الصحيح الذي قال فيه وورد في روايات متعددة قال: "اقرَؤوا القُرآنَ؛ فإنَّه يَأتي شَفيعًا يومَ القيامةِ لصاحبِه، اقرَؤوا الزَّهراوَينِ: البَقرةَ وآلَ عِمرانَ؛ فإنَّهما يَأتِيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامتانِ، أو كأنَّهما فِرقانِ مِن طَيرٍ صَوافَّ يُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤوا سورةَ البَقرةِ؛ فإنَّ أخذَها بَركةٌ، وتَركَها حَسرةٌ، ولا تَستطيعُها البَطَلةُ".