لبنان ٢٤:
2025-04-01@07:34:52 GMT

في رسالة الصوم.. يونان تمنى للبابا الشفاء

تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT

 وجه بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي اغناطيوس يوسف الثالث يونان رسالة الصوم الكبير 2025، وجاء فيها: "في مستهل رسالتنا وتأملنا بمناسبة زمن الصوم الكبير، نبتهل إلى الله كي يمن بالشفاء العاجل والتام على قداسة الحبر الأعظم، البابا فرنسيس، الذي يتلقى العلاج في المستشفى في روما".

الصوم الكبير زمن مقدس، توصينا أمنا الكنيسة أن نمارسه ونلتزم به، فهو زمن التوبة أي العودة النادمة إلى الله، بتطهير القلب وإعداده لاستقبال النعمة الإلهية، في مسيرة رجاء وثقة وصبر.

والصوم، لكونه "انقطاعا" عن الطعام لفترة محددة من اليوم، تمتد من منتصف الليل حتى الظهر، ثم "قطاعة" تقوم على الاكتفاء بتناول الأطعمة الخالية من المنتجات الحيوانية، فهو وقت ملائم لإعادة النظر في نهج حياتنا الروحية، مستنيرين بهدي تعاليم الكتاب المقدس، فنمتلئ من فيض كلمة الله المحيية، مواظبين على الصلاة، وساعين إلى التوبة، وممارسين أعمال الخير والتقوى والتقشف، لنعود فرحين إلى أبينا السماوي: "إرجعوا إلي بكل قلوبكم" (يوئيل2: 12). وهكذا نبلغ فصح الرب يسوع وقيامته الخلاصية: "لأننا في الرجاء نلنا الخلاص، ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء، لأن ما ينظره الإنسان كيف يرجوه أيضا؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا ننتظره بالصبر" (رو8: 24-25)."

ثانيًا: مؤسسين على الرجاء

تابع: "في عالمنا اليوم هناك شعور وكأن كل شيء يتدهور على الأصعدة كافة، ويسيطر الإحساس باليأس والإحباط على قلوب الكثيرين! وإذا ألقينا نظرة على تاريخ البشرية، لا بد وأن نقر بأن الدنيا لطالما كانت تتقاذفها أنواع من الأزمات المجتمعية والأخلاقية والسياسية من فترة إلى أخرى. وفي تاريخ بشريتنا المرهق بظلمة الخطيئة، نجد الأفراد والشعوب يصارعون الشر والظلم والمعاناة من الطغاة، سعيا لحياة عادلة وكريمة. ونحن المؤمنين بمحبة أبينا السماوي وبعنايته بنا، نثق بأن الرب يسوع، الإله المتأنس الذي حل بيننا واتخذ بشريتنا، أعطانا الرجاء مفتاحا لسر الخلاص الذي تممه، هذا السر الذي يفوق كل إدراك بشري. فإذا قبلناه بإيمان  ثابت ورجاء لا يتزعزع، لا شيء يغلبنا، بل نخرج دائما منتصرين مهما عصفت رياح الأزمات، لأننا وضعنا ثقتنا بغلبة مخلصنا الإلهي الذي وعدنا أنه سيبقى معنا إلى المنتهى".

أضاف: "الرجاء - بالمعنى المسيحي - لا يعني التمسك بوهم إمكانية تغير الأشياء في المستقبل، إنما هو الحقيقة الأصدق التي نؤمن بها وندرك أنها ستتحقق، في حين لا نراها بالعين المجردة. الرجاء ليس الأمل بشيء يمكن أن نختبره بشريا، ثم تصدمنا الخيبة!، لأن "الرجاء لا يخيب صاحبه" (رو5: 5)، والإنسان الذي يؤسس حياته على الرجاء ويتسلح به، هو المنتصر دوما، إذ لا يمكن أن يخسر بمنطق الله وعهده. وهذا ما حدا قداسة البابا فرنسيس إلى الدعوة لعيش هذه السنة اليوبيلية 2025 كسنة رجاء في وسط بحر عالمنا الذي تتلاطمه عواصف الشر والأنانيات البشرية من كل جانب، واثقين بوعد الرب لنا بالخلاص والحياة الأبدية".

ولفت إلى أن "ها هو القديس مار يعقوب السروجي يؤكد أن الصوم ينشئ رجاء متى اقترن بالرحمة والدموع، فيفيض بالمحبة: «ܐܳܘ ܨܰܝܳܡܳܐ ܚܠܽܘܛ ܒܶܗ ܒܨܰܘܡܳܐ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܘܕ̈ܶܡܥܶܐ܆ ܕܒܳܬܰܪ ܕ̈ܶܡܥܶܐ ܐܺܝܬ ܗ̱ܘ ܣܰܒܪܳܐ ܠܰܬܝܳܒܽܘܬܳܐ. ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܘܚܽܘܒܳܐ ܒܳܥܶܐ ܨܰܘܡܳܐ ܡܶܢ ܦܳܪ̈ܽܘܫܶܐ܆ ܕܰܕܠܳܐ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܠܳܐ ܡܶܬܩܰܒܰܠ ܡܶܢ ܕܰܝܳܢܳܐ»، وترجمته: "أيها الصائم أمزج بصومك الرحمة والدموع، فبعد الدموع هناك رجاء للتوبة. الصوم يقتضي الرحمة والمحبة من الفطنين، إذ دون الرحمة لا يقبل من الديان" (من باعوث أي طلبة مار يعقوب السروجي، صلاة صباح الثلاثاء من الأسبوع الأول من الصوم، كتاب الفنقيث، الجزء الرابع، صفحة 92-93)".

ثانيا، الرجاء لا يستسلم في الصعاب

وإعتبر أن "الرب يدعونا  إلى عيش الرجاء على الدوام، وبشكل خاص في زمن الصوم الكبير، فمهما ضعفنا وشعرنا أننا عاجزون وفقدنا الأمل بإمكانية أن تتغير الأمور وتتحسن، ندرك أنه مع الله لا شيء مستحيل، هو الذي خلق الكون من العدم، وباستطاعته أن يخلق من الظلمة نورا، ومن الموت حياة، فالذي يضع رجاءه بالرب لا يخزى أبدا. لأنه، وعلى حد تعبير قداسة البابا فرنسيس، "بقوة محبة الله في يسوع المسيح، يحمينا الرجاء الذي لا يخيب (را. رو5: 5). الرجاء هو مرساة النفس، الأمينة والراسخة. وبالرجاء، الكنيسة تصلي حتى "يخلص جميع الناس" (1تيم2: 4)، وتنتظر أن تكون في مجد السماء متحدة بالمسيح عريسها" (نسير معا في الرجاء، رسالة الصوم لعام 2025)".

أضاف: "يخبرنا الإنجيل المقدس عن أعمى أريحا (را. مر10: 46-52)، ابن الرجاء، الذي كان ينتظر لفترة طويلة على قارعة الطريق، يغمر الرجاء نفسه أنه سيأتي يوم وتتغير حياته إلى الأفضل. وعندما سمع بقدوم يسوع، أبصر بعين القلب أن خلاص الرب قريب، وصرخ صراخا عظيما مرات عدة، لأن الناس حاولوا إسكاته. إن إصرار هذا الضرير النابع من رجائه العميق والمميز بالصبر، جعل يسوع يتوقف ويدعوه إلى الوسط ويحقق له مبتغاه بأن يبصر. لقد انتظر هذا الأعمى بصبر وثقة، متسلحا بالرجاء والتسليم لمشيئة الله".

وأكد انه "في مسيرة صومنا، يرافقنا الرب بنعمه، وينير حياتنا، فلا نخاف من ظلمة العالم، بل نجدد ثقتنا كاملة بقدرته الإلهية، ونسلم له ذواتنا برجاء لا يتزعزع، أنه لا بد أن تبزغ شمس القيامة من عتمة الموت، وتمنح خلاصا في الوقت المناسب لكل إنسان يضع رجاءه بالرب، لأن "نصيبي هو الرب قالت نفسي، من أجل ذلك أرجوه" (مراثي إرميا3: 24). من هنا، وعلى حد قول قداسة البابا فرنسيس، إن الرجاء المسيحي لا يستسلم في الصعاب، فهو يرتكز على الإيمان، ويتغذى من المحبة، ويسمح لنا بأن نستمر في الحياة (را. مرسوم الدعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025)".

رابعًا، الرجاء عبور من العبودية والحزن إلى الحرية والفرح

تابع: "زمن الصوم هو الوقت المقبول للإصغاء إلى كلمة الله كي تنقي قلوبنا وترشدنا وتقدسنا، إنه مسيرة روحية ترافقنا فيها النعمة الإلهية وتقوينا، مسيرة الحنين إلى الملكوت الأبدي، حيث الحرية الحقيقية والسعادة الدائمة. إنه الزمن المقبول للتوبة، أي العودة الصادقة إلى حضن أبينا السماوي وتجديدنا الروحي المستدام، من خلال السير مع يسوع في متاهات صحرائنا، لنعيش معه فرح الفصح (العبور) وغلبة القيامة الممجدة".

وقال: "يروي سفر الخروج كيف أن الله لم ينس شعبه، بل سار معه وقاده من خلال موسى من برية العبودية إلى أرض الحرية، زارعا فيه محبة الله ومحبة الإخوة. إلا أن هذا الخروج كان طويلا وشاقا، دام أربعين سنة، شابها الكثير من التحسر على الحياة في أرض العبودية، والعودة إلى الوراء. لكن إزاء كل ذاك الضعف، بقي الله أمينا لعهده، فأخرج الشعب الذي وضع رجاءه به، وأوصله إلى أرض الميعاد. من هنا، أصبح الصوم المسيحي علامة روحية على الخروج من العبودية إلى الحرية، من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء وبنات الله، عبر اللقاء بالرب يسوع القائم من بين الأموات. إنها دون شك لمسيرة تعتريها أتعاب وتجارب وسقطات تتبعها المعاناة، ولكنها مسيرة ينفحها الرجاء بالرب يسوع الذي يريد لنا، نحن تلاميذه، الفرح لا الحزن، والحياة لا الموت. وقد نهج لنا بذاته درب الحياة هذه، والحياة بملئها، إذ تخلى عن مجده و"وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (في2: 8)".

وأشار إلى ان "في الصوم تغلب الروح ضعف الجسد، إذ تحثنا أن نتحرر من ربقة العالم وهمومه، كي نعود فنتأمل مليا وجه المسيح المصلوب طوعا بدافع محبته للبشر. لذا نحتاج في هذا الزمن إلى التخلي والتحرر من النزعة الاستهلاكية والأنانية والتذمر، ومن القلب المنغلق على الله والذات والآخر، لا سيما الأكثر حاجة. ولنتذكر ما كتبه يوحنا في رسالته أننا لا نستطيع الإدعاء بمحبة الله الذي لا نراه إن كنا لا نمارس محبة القريب الذي نراه! (را. 1يو4: 20-21)".

وتوجّه بالقول: ""ليكن زمن الصوم، لكل مؤمن بالرب يسوع، خبرة متجددة لمحبة الله التي أعطانا إياها بالمسيح، محبة نوصلها بدورنا للقريب، وللمتألمين والمحتاجين. هكذا فقط نستطيع أن نشارك بالملء في فرح القيامة" (من رسالة قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر لزمن الصوم 2007). يدعونا يسوع إلى التحرر من أنانيتنا التي تخدعنا بمختلف التبريرات، وإلى التجرد الذي يقودنا للإتحاد به، هو الطافح حبا بنا على خشبة الصليب، فتعمر حياتنا بالإيمان وتفيض بالرجاء وتتألق بالمحبة. منه نستمد النعمة والقوة كي نتابع مسيرة صومنا، مهما ازدادت ظلمات الحياة، وننطلق متهللين بنور القيامة، لأن جوهر الصوم هو التجدد بالروح من العلى، من "محبة الله التي انسكبت فينا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5)".

خامسًا، الصوم مسيرة مكللة بالغلبة الإلهية

أضاف: "ليس الصوم مجرد ممارسة تقوية لفريضة، بل هو مسيرة روحية ملؤها الرجاء بالإنفتاح على تدبير الخلاص الذي تممه الرب يسوع. رجاء يتطلب منا أن نشارك مخلصنا في الشهادة لمحبته المبررة أينما دعانا، فنواجه تحديات العالم وإغراءاته، ونتغلب بنعمته على تجارب الحياة. وكم هو جميل أن يتلازم الصوم مع الصلاة الحارة والملحة، لأن الصلاة هي الجناح الثاني للصوم، وفيها نكلم الله أبانا، ونرفقها بتوبة صادقة مقرونة بمصالحتنا البنوية معه، وبالسعي الجاد لبناء علاقات المحبة مع القريب دون شروط. وفي الصوم، نتغذى بكلام الرب في الكتاب المقدس بنوع خاص: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز119: 105). فكلمة الله ترشدنا في درب صومنا، وتعزينا في ضعفنا، وتذكرنا بأن رجاءنا ثابت في الرب وليس في طعام العالم، إذ أن الصوم الحقيقي يهدف إلى الأكل من "الطعام الحقيقي" أي العمل بمشيئة الآب (را. يو4: 34). ويكتمل هذا الغذاء بالتقرب المتواتر من سر الإفخارستيا، لتناول جسد الرب ودمه الأقدسين، وهكذا نحيا الأمانة لمواعيد معموديتنا".

وأةضح أن "الصائم لا يعيش الصوم كحزن أو حرمان، بل كمسيرة نحو الفرح، لأنه يثق أن الله، الذي هو "ستره وترسه" (را. مز119: 114)، يقوده إلى مجد أعظم: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز126: 5). الصوم هو مدرسة نتعلم فيها كيفية الثقة بحكمة الله، متيقنين أن الحياة مع الله تتطلب الصبر، وأن الأمور العظيمة لا تأتي فورا، بل تستوجب انتظارا مليئا بالإيمان. وحين نصوم، ندخل في اختبار روحي يجعلنا نضع ثقتنا بالكامل في الله، حتى عندما يهدد الشر عالمنا وتكتنفه الظلمات. فلنسر زمن الصوم هذا بفرح غامر وبرجاء وطيد، مقتدين بأمنا مريم العذراء، والدة الله، التي سلمت حياتها بين يدي ابنها الوحيد، ربنا وإلهنا يسوع المسيح، رغم ظلمة الآلام والموت، مؤمنة برجاء وثقة بانتصاره الأكيد".

أخيراً،  خاتمة:

في هذا الزمن المقدس، نصلي ضارعين إلى الرب كي يؤهلنا أن نسير معه مسيرة إيمان نختبر فيها أمانته ومحبته الفائقة، مستجيبين لدعوته لنا، بكامل الحرية البنوية. وهكذا نتحرر من كل ما يبعدنا عنه، ونتنقى، فنتجدد ونصل بيقين الرجاء إلى الفصح والقيامة. ومع مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، نرفع صلاتنا: «ܗܰܒ ܠܰܢ ܛܳܒܳܐ ܕܰܟܝܽܘܬ ܠܶܒܳܐ ܒܨܰܘܡܳܐ ܢܰܩܕܳܐ܆ ܥܰܡ ܚܽܘܫܳܒ̈ܶܐ ܫܦܰܝ̈ܳܐ ܕܠܶܒܳܐ܆ ܕܰܒܗܽܘܢ ܐܰܟܚܰܕ ܢܰܦܫܳܐ ܘܦܰܓܪܳܐ܆ ܒܪܶܗܛܳܐ ܫܰܠܡܳܐ܆ ܢܰܘܕܽܘܢ ܠܳܟ ܡܳܪܝ ܥܰܠ ܡܰܘܗܰܒܬܳܟ»، وترجمته: "أيها الصالح امنحنا طهارة القلب بصوم نقي، مصحوبا بأفكار قلوبنا الصافية، كي يشكرك النفس والجسد كلاهما، يا رب، بكمال المسيرة، على موهبتك".

ختاما، نسأل الله أن يتقبل صومكم وصلاتكم وتوبتكم وصدقتكم، ويؤهلنا جميعا لنحتفل بفرح بعيد قيامته المجيدة من بين الأموات. ونمنحكم، أيها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبتنا الأبوية. ولتشملكم جميعا بركة الثالوث الأقدس: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. والنعمة معكم".

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

حين صام السياسيون في إنجلترا دفاعًا عن المرأة

في شهر رمضان المبارك يصوم المسلمون وفق ما حددته الشريعة، لكن ماذا عن الصوم السياسي؟.. في الحقيقة يصوم الناس عن السياسة أحيانًا، إما لملل وصد عنها، أو خوف من ممارستها، أو رغبة في نيل استراحة منها، لبعض الوقت، يستغرقونه في تقييم تجاربهم السالفة، والاستعداد لتجارب جديدة، قد يتجاوزون فيها إخفاقاتهم وخيباتهم، وإما لاكتئاب يصيب نفس الفرد، وقد يتحول إلى حالة عامة تصيب المجتمع.

فالملل قد يحلّ بعد أن يمرّ الناس بمرحلة فيضان سياسي، تجعلهم يثرثرون ويتحركون في كل اتجاه، ويطلقون الأفكار من عقالها فتتضارب وتتزاحم في الرؤوس، وهم يتطلعون إلى أن تأخذهم إلى ما يسهم في تحسين شروط الحياة، لكنها قد ترتد بهم إلى الخلف، وتلقي بهم في صحاري التيه والضياع، فيبقى بين القول والفعل حاجزٌ عالٍ سميك أصم، يجعل الكلمات تتناحر، فيفني بعضها بعضًا، أو تتصادم فتندفع إلى الدوران في مكانها بلا هدى، وقد تهبط إلى أعماق ليس لها قرار، وتأخذ معها الراحة والاستقرار.

أما الخوف فيأتي مع الاستبداد السياسي، الذي يجعل للكلام في السياسة ثمنًا باهظًا، فالمستبدون يفضلون لمحكوميهم أن ينصرفوا عن التفكير في أحوالهم، وإن فكروا فهم يحتفظون بما يدور في رؤوسهم لأنفسهم، فلا بوحَ، ولا تبادلَ للآراء، ولا نقاشَ ولا جدالَ، قد يسهم في فضح ما يجري، أو يولد رغبة في مساءلة المستبد أو محاسبته، وهو من يزعم طيلة الوقت أنه يعرف صالح الناس أكثر منهم، وعليهم أن يسلموا بهذا دون نقاش أو حراك.

إعلان

والاستراحة من السياسة قد تكون اختيارية لدى البعض، وإجبارية لدى آخرين. فهناك من الناس الذين يميلون بطبعهم، وبحكم أحوالهم وخلفياتهم التعليمية، إلى عدم الخوض في غمار السياسة، قولًا أو فعلًا، ومنهم من لا يدرك انعكاس السياسة على تفاصيل حياته الصغيرة والبسيطة والضيقة والذاتية، فيكف عن الحديث فيها، أو العمل بها، أو السعي إلى التفاعل مع محترفيها، من الحزبيين وقادة الحركات الاجتماعية والنشطاء السياسيين.

وهناك من يدركون هذا الارتباط، لكنهم يفضلون أن ينصرفوا مؤقتًا لتحسين أحوالهم الشخصية، مؤمنين بأن أي استقلال مادي يحققه الفرد، يسهم في صناعة اقتداره السياسي، ويجعل عوده أكثر صلابة في مواجهة عسف السلطة ومكرها، أيًا كان نوعها أو لونها أو حجمها، أو أوان وجودها، ومدى هيمنتها.

والصوم السياسي يتم التعبير عنه، بمفهوم المخالفة، في استطلاعات الرأي والدراسات التي تنشغل بقياس حجم "المشاركة السياسية" باعتبارها ركنًا مكينًا في الممارسة الديمقراطية.

فمثل هذه الاستطلاعات والدراسات تحدثنا عن عزوف الناس أو امتناعهم عن الممارسة السياسية بمختلف درجاتها، بدءًا من المشاركة في اختيار الاتحادات الطلابية، ومجالس إدارات العمارات السكنية، وأعضاء اللجان النقابية، وصولًا إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ومتابعة الأحداث السياسية العالمية، واتخاذ موقف إيجابي منها.

هذا العزوف أو الامتناع قد يكون نوعًا من "الصوم السياسي"، لا سيما عند أولئك الذين يعتقدون أن الانشغال بالشأن العام ترف أو لغو أو اعتراض على المشيئة والقدر، وذلك عند من يتمسكون بقول المسيح عليه السلام: "اعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، أو يؤمنون بقاعدة "طاعة ولي الأمر واجب" و"اطع السلطان وإن جلد ظهرك"، وحتى لدى من يغوصون في أعماق الأمور والأشياء فيرون أن القوة المحركة للفعل السياسي أكبر وأقوى من أن يؤثر فيها أولئك الذين يثرثرون ليل نهار في الشؤون العامة، متوهمين أن الحديث أو الحركات الفردية المتفرقة والمتنازعة بوسعها أن تغير موقفًا أو اتجاهًا، وتصنع حدثًا مؤثرًا وفارقًا في مسيرة الأمم.

إعلان

ويبقى تعبير "الصوم السياسي" حاملًا لمجاز واضح، يسحب ما يجري في طقوس الصوم وفروضه وشروطه، من امتناع وصبر وتحمل وتجنب وزهد، على الممارسة السياسية باعتبارها واحدة من الشهوات المحرمة أو الشرور الظاهرة، أو ما يجب أن تلاحقه اللعنات، مثلما عبر عن هذا العالم والفقيه المجدد الإمام محمد عبده ( 1849 ـ 1905) حين لعن السياسة وكل مشتقاتها اللفظية، لأنها في نظره ما دخلت شيئًا إلا أفسدته، وذلك بعد أن طلق طريق أستاذه الثائر الأبدي جمال الدين الأفغاني، ولعق مرارة الخسران المبين عقب فشل الثورة العرابية، وهو يعاني في سجنه ومنفاه، وآمن أن هي الأهم، فقال: "إني أعجب لجعل نبهاء المسلمين وجرائدهم، كل همهم في السياسة، وإهمالهم أمر التربية، الذي هو كل شيء، عليه يبنى كل شيء".

وهذا المجاز لم تبلوره قواميس السياسة ومعاجمها وموسوعاتها، وإن كان يمكن لمسه في واقع الناس، الذي يشي بأن الصوم عن السياسة يمكن أن يقع لدى فرد أو جماعة بعض الوقت. لكنه، في كل الأحوال، مجاز هروبي وسلبي، لأن السياسة ذائبة في أعطاف الحياة وجنباتها، شئنا أم أبينا.

وهناك من يقرب هذا المجاز ليطابقه مع الصيام بمعناه الديني والبيولوجي، حيث يحتاج السياسي إلى التقوى في التعامل مع الوظيفة، ومع المال العام، ومع خدمة الناس والتواصل معهم، والالتزام بالقانون، والكفّ عن النميمة السياسية.

وفي ظل هذا التقارب أو التطابق، هناك من يرى ضرورة أن تتحلى ممارسة السياسة مع الصيام بشروطه، فيكفّ أغلب الساسة عن الكذب والثرثرة والقدح في الخصوم أو المنافسين وهجائهم، والغش والتدليس وتضليل الناس.

وبذا "تصفد أدوات السياسة، وتكف عن الدوران، أو يلوذ أصحابها إلى خلوتهم، ويمارسون الطاعة الذاتية انتظارًا للعيد، موعد الإفطار النهائي"  كما يقول حسن الرواشدة.

ويتحول الصيام السياسي إلى فضيلة خاصة في أي بلد "يعاني من فوضى السجالات والكلام المجاني والوعود العرقوبية، وأحيانًا يكون نوعًا من الهروب إلى الأمام، أو تعبيرًا عن حالة الفقر التي تبرز أكثر في شهر رمضان، وأحيانًا يكون إشهارًا لمخاضات لم تحدد ولادتها بعد، أو لانسدادات لم تجد من القنوات ما يسمح لها بالانسياب" حسب الرواشدة أيضًا.

إعلان

وربما نجد سببًا في تجربة د. حسن جوهر، التي يعبر عنها قائلًا: "كتجربة متواضعة في العمل السياسي والنشاط الانتخابي تحديدًا أدرك تمامًا حجم توتر الأعصاب، والشغف من أجل كسب الأصوات ليس عبر طرح الأفكار والرؤى الخاصة للمرشح إنما بالقدح والذم والتقول على الآخرين، وقد تكون هذه طبيعة البشر، وهذه السلوكيات ثقافة مريضة استفحلت وتحولت إلى مرض عضال، ولكن لا خير فينا إن لم نتقِ شرور مثل هذه الآفات بحق بعضنا بعضًا، وبحق بلدنا الذي تحدق به كل الابتلاءات على الأقل في هذه الليالي المباركة من شهر رمضان المعظم أعاده الله على الجميع بالخير والسرور والأمن والأمان".

لكنّ الساسة المحترفين يرتابون في هذا المطابقة المجازية بين الصيام والسياسة، فها هو نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني يرد على دعوة من هذا القبيل قائلًا: "الصوم عن الكلام السياسي في الموضوع المتعلق بالشأن الحكومي، لا يعني إطلاقًا صومًا عن الكلام أو صمتًا حيال القضايا المطلبية والمعيشية للبنانيين عشية شهر رمضان المبارك، وعلى أبواب العام الدراسي الجديد .. كما أن الصوم عن الكلام لا يعني عدم قول الحقيقة في موضوع الإمعان في حرمان المتضررين جراء الحروب العدوانية الإسرائيلية، بعدم إعطائهم حقوقهم في التعويض عن الأضرار التي لحقت بمنازلهم، ومصادر رزقهم".

وهناك مجاز مقابل أو مضاد يحول "الصوم" إلى إستراتيجية سياسية، أو على الأقل "تكتيك" سياسي، بمنحه معانيَ جديدة تربطه بالنضال في سبيل العدل والحرية، أو بجعله التصرف المقابل للتنافس والصراع السياسي الضاري الذي يُظهر فيه السياسيون، كلَّ أوجه البطر والرخاء والرفاهية التي ينظمها مرشحو الانتخابات مثلًا؛ بغية الفوز، بشراء الأتباع والمناصرين والمؤلفة بطونهم.

فوفق حميد شهاب، فإذا "كان الصوم من الناحية الفيسيولوجية والنفسية نوعًا من التنظيف والتنقية، وبالتالي تجديد الجسم والروح وإعطاؤهما دفعةَ حيويةٍ ونشاطٍ للاستمرار، فإننا نجد نفس الميكانيزم في الصوم السياسي، أي الإضراب عن الطعام".

إعلان

وقد عرفت التجارب السياسية للأمم توظيف الصوم في النضال، فقد نظمت بعض الولايات الأميركية صومًا في معارك الاستقلال ابتداء من عام 1775، كان لها تأثير قوي على سلطة الاحتلال الإنجليزي، وصام المدافعون عن حق الانتخاب للمرأة في إنجلترا عام 1905.

ويبقى المثل الأشهر هو ما اتبعه المهاتما غاندي ابتداء من عام 1904 في نضاله بالصوم والزهد ضد الإنجليز أيضًا. وفي هذه الحالات الثلاث تحول ضعف الصوم إلى قوة روحية ونفسية عارمة، فكلما شعر الإنسان بضعف نفسي، صنع حيلًا دفاعية تمكنه من تحفيز نفسه كي يواصل المواجهة، مثلما يفعل الصائم حين يقاوم الجوع والعطش بتذكر أجر الصائم في الآخرة، أو حاجة جسده إلى بعض الجوع ليأكل الأشياء الضارة فيه، أو لصفاء الروح مع الجوع الذي كان يدركه المتصوفة، ولذا يسميهم البعض بـ "الجوعية"، أو حتى السعادةي المصحوبة باللذ يعيشها الصائم حين يجلس إلى الطعام بعد ساعات طويلة من الجوع..

وعند أصحاب هذا الاتجاه فإن الصيام ليس تعذيبًا للنفس بل إعلاناً لولادة الإرادة ضد الغريزة، وقد يصوم الإنسان مختارًا متضأمناً مع الجياع في وضع مناقض جدا لمواضعات الغريزة، وفي نقطة الصوم، وكما يقول خالص جلبي، تلتحم الفلسفة مع الدين والسياسة مع البيولوجيا، وتتحول علة الصوم، وهي التقوى، إلى تحفيز أو تحريض لآليات الضبط الذاتي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • البابا فرنسيس يدعو إلى اعتبار الصوم “فترة شفاء”
  • الأنبا توما يشارك حراس الإيمان زيارة بيت عانيا بأسيوط احتفالًا بعام الرجاء
  • بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك ينعى الأنبا باخوميوس
  • الرجاء يبلغ دور الـ16 من كأس العرش المغربي
  • أول رد فعل من رمضان بعد الموقف المحرج الذي جمعه مع ياسمين صبري
  • اليُتْمُ الذي وقف التاريخُ إجلالًا وتعظيمًا له
  • عبد الرحيم دقلو تمنى زوال حميدتي من المشهد
  • مسيرة إسرائيلية تلقي قنبلتين صوتيتين على تجمع للأهالي في ساحة بلدة يارون جنوبي لبنان
  • أكاديمية السينما تعتذر بعد إغفال اسم المخرج الذي اعتدت عليه إسرائيل
  • حين صام السياسيون في إنجلترا دفاعًا عن المرأة