لا تُشكّل الحكومة الموازية في السّودان والموقّع على ميثاقها مؤخّرًا في نيروبي انقسامًا سياسيًّا بالمعنى المعروف، ولكنها تعكُس أيضًا انقسامًا قبليًّا وعِرقيًّا وثقافيًّا تسبّب ضمن عوامل أخرى في هذه الحرب بالسودان، بحيث لا يُمكن أن يُحسم الصراع بمستوياته المتعددة على المستوى العسكري فقط، ولكن لا بدّ من التعامل مع تجلّياته القبليّة والثقافية.
على الرَّغم من المشاركات الرّمزية في هذه الحكومة من قوى سياسية غير "دارفوريّة"، ولكنّها في ظنّي تحالفات مؤقتة لن تصمد كثيرًا، نظرًا لارتباطها بمصالح وصفقات مالية أكثر من كونها تعبيرًا عن مشروع سياسي متماسِك، حيث لن يصمد في الأخير خلف مشروع قائد قوات "الدعم السريع" إلّا هؤلاء المنتمون إلى مشروعه الجِهوي والقبَلي.
هذا الانقسام كان مِعْوَل إضعاف للمكوّن المدني والقوى السياسية السودانية بشكل عام، تحت مظلّة تفاعلات ثورة ديسمبر/كانون الأول السودانية منذ عام 2018 وحتّى اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، بحيث أصرّ الدارفوريّون خصوصًا وقوى ما يُسمّى بالهامش عمومًا، على أن يضمنوا حقوقًا سياسية على أساس عِرقي، وذلك على حساب الوثيقة الدستورية ذات الطابع القومي التي وقّعتها القوى الثورية مع المكوّن العسكري في أغسطس/آب 2019.
في هذا السّياق، موقف رئيس "حزب الأمّة" ذي الطابع القومي تاريخيًا الذي انحاز على أساس قبَلي لقوات "الدّعم السريع" وحكومتها، ليس متفرّدًا، ذلك أنّ وزراء ومستشارين وولاة شاركوا في الحكومات القومية السودانية، ولكنّهم لم يعتبروا ذلك تمثيلًا كافيًا للإقليم الدارفوري أو لهويتهم خصوصًا إذا كانت من أصولٍ زنجية، كما نستطيع أن نلمح راهنًا حالة حبور غير معلن بكلمات ولكنّه ملاحَظ على الوجوه لدى قطاع من النّخب الدارفورية مع كل نصر تُحقّقه قوات "الدّعم السريع" في مناطق الشرق والوسط بالسودان، ليس كتعبير عن انحياز سياسي أو قبَلي فقط، ولكن أيضًا ربما ما يمكن وصفه بحالة رد اعتبار نفسي على الفظائع التي ارتكبها نظام البشير ضدّ الدارفوريين في حرب الصّراع على السلطة مع التّرابي عام 2003، وهي ورقة حاول البشير في أيامه الأخيرة أن يستخدمَها بتحميل الغرب الدارفوري مسؤولية الثورة على نظامه السياسي، ولكنّه قوبل بروح قومية سودانية، حيث تمّ رفع شعار "يا عنصري يا مغرور... كل البلد دارفور"، ولكنّ هذا الشعار لم يكن سوى حالة مؤقتة الأبعاد العِرقية والقبَلية إلى جانب الأسباب السياسية في الصّراع العسكري السوداني، تشير إلى أنّ خطورة الحكومة الموازية من شأنها أن تُعقِّد المشهد السوداني، وتُسفر عن امتداد للصّراع العسكري لسنوات مقبلة وهو تطوّر يدفع إلى التقدير أنّ السودان ذاهب إلى أحد سيناريوَيْن؛ إمّا تشظٍّ كامل في حالة اندلاع صراعات جهوية وقبَلية في مناطق أخرى على التراب الوطني السوداني، أو انقسام إقليم دارفور مع عدم امتلاكه لشروط الاستقرار أيضًا.
التساؤل هنا؛ هل يمكن أن ينجوَ السودان من هذه المآلات المفزعة، وعلى من تقع مسؤولية إنقاذه من مصير بائس مؤثّر سلبًا في العرب عمومًا ومصر خصوصًا؟.
في ظنّي أنّ تحقيق الجيش لانتصارات عسكرية خصوصًا في العاصمة، وقدرته على السيطرة على وسط السودان وصولًا إلى حدود كردفان ودارفور، يمكن أن يفتحا الطريق أمام إدراكٍ جديد أمام القادة خصوصًا الفريق عبد الفتاح البرهان، بشأن ضرورة التسوية السياسية، وذلك في ضوء تعقيدات هذا الصّراع على المستوى الاجتماعي والثقافي، وضرورة إنهائه حفظًا لحياة المدنيين السودانيين من ناحية، والحفاظ على كامل التراب الوطني السوداني من ناحية أخرى.
على أنّ هذه الخطوة لو حدثت من جانب قائد الجيش في هذه المرحلة فلن تكون كافية، فالمطلوب وعيٌ اجتماعيٌ يقود حزمة من التدخلات والمجهودات الأهلية والمدنية الموازية لجهود إنهاء الحرب على المستوى العسكري.
في هذا السّياق، ربما تكون هناك مسؤولية ملقاة على عاتق النّخب الثقافية السودانية، وذلك في إدارة حوارات بشأن التوسّع في نشر ثقافات قبول الآخر، ورفض الاستعلاء العنصري، والتأكيد على الروابط الاجتماعية بين السودانيين، في مقابل سرديّات التقسيم والتهميش والتعالي، بحيث تكون البوابة الكبرى لهذا الأداء هو الاعتراف بالتنوّع العِرقي الثقافي السوداني على النحو الذي مارسته كلّ من المغرب والجزائر مع "الأمازيغ".
إنّ هذه المجهودات في حالة الوعي بها من جانب المثقفين السودانيين والنّخب المستقلة، وكذلك ممارستها، ربما تقود إلى حالة اندماج وطني مطلوب لتأسيس دولة يمكن أن تملك شروط الاستقرار السياسي، وبالتالي تخطو خطوات طال غيابها بشأن تنمية متوازنة ومستدامة.
(خاص "عروبة 22")
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: خصوص ا
إقرأ أيضاً:
زادتها الحرب أضعافا.. معاناة لا مثيل لها لمرضى السرطان بالسودان
وتناولت الحلقة الـ27 من برنامج "عمران" واقع مرضى السرطان في السودان، وسلطت الضوء على معاناتهم على المستويين العلاجي والمالي، وغياب الدعم الحكومي وقلة المستشفيات المتخصصة في علاج الأورام.
ويبرز الطفل عامر من بين مرضى السرطان، إذ يعاني من ورم في الرأس تسبب له بشلل كامل، ويخضع إلى جلسات علاجية، لكن من دون أي تحسن على حالته بعد 29 جلسة متتالية.
تقول والدة الطفل إنها عانت الأمرين في رحلة تشخيص طفلها المصاب بالسرطان، ومروره على أطباء عدة، مشيرة إلى أنه أصبح لا يقدر على حركة أطرافه في غضون شهرين.
واسترجعت حالة ابنها، إذ كان يلعب بشكل طبيعي ويذهب إلى المسجد، ثم أصيب بالشلل تدريجيا، ولكن حالته تدهورت أكثر بعد الفشل في الحصول على حجز سريع لدى الطبيب.
وأوضحت أن طفلها كان يمشي على قدم واحدة ثم فقد القدرة كليا على المشي، وصولا إلى شكواه من ألم الرأس، مما أدى لاحقا إلى عدم قدرته على رفع رأسه.
وبشأن كيفية معرفة إصابته بالسرطان، قالت الوالدة إن صورة الأشعة أظهرت ورما في المخ، ليخضع بعدها إلى جلسات علاجية بعد تعذر إجراء العملية في مستشفى مروي للأورام.
ويبلغ عامر من العمر 10 سنوات، وهو في الصف الثاني، ويُمني النفس بأن يصبح معلما للغة العربية عندما يكبر، وفق حديثه مع مقدم البرنامج سوار الذهب.
إعلان رحلة عذاببدوره، قال رجل طاعن في السن إنه جاء من أقصى شمال دارفور، وقطع مسافة طويلة للوصول إلى مروي شمالي البلاد، في مشوار استغرق 6 أيام كاملة.
ووفق حديثه، فإن مرضى السرطان وأهاليهم يأتون من مناطق بعيدة إلى مروي بغرض العلاج، في رحلة قد تستغرق عاما ونصف العام، مما يضطرهم إلى الإقامة تحت الأشجار والاستظلال بها.
وأوضح أن الأهالي يفضلون الإقامة تحت الشجر بسبب غلاء الإيجار في مروي، إضافة إلى أنه لا يمكن تحمل تكاليف الإيجار والعلاج في آن واحد.
ويعد مستشفى مروي الوحيد المتخصص في علاج الأمراض المزمنة، ولكن قدرته الاستيعابية لا تمكنه من علاج هذا العدد من المرضى من كافة أنحاء البلاد.
وبسبب الحرب، تم إغلاق مركزي الأورام الكبيرين في الخرطوم وود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة الجنوبية، ولم يتبق إلا جهاز واحد للعلاج الإشعاعي في مستشفى مروي شمالي السودان.
وسلطت الحلقة الضوء على حالة ثالثة، تعود إلى طفل قدم من ضواحي الفاشر، إذ يعاني من عدم نزول الأكل إلى بطنه منذ 5 أشهر، وكان يعتقد الأطباء بأنه مصاب بألم في المعدة، قبل اكتشاف إصابته السرطان.
ولا توجد إحصائية حديثة لأعداد مرضى السرطان في السودان، وأشارت آخر إحصائية -صدرت عن وزارة الصحة في أغسطس/آب 2022- إلى وجود 20 ألف حالة إصابة نشطة بالمرض، 8% منها لأطفال.
ويحذر أطباء سودانيون من أن "محدودية الوصول إلى خدمات علاج الأورام خلال الحرب الحالية يعرض حياة أكثر من 40 ألف مريض سوداني بالسرطان للخطر".
29/3/2025