مما كان يرويه الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال سارّ أنه كان كلما استيقظ صباحا وأخذ في حلق ذقنه، تذكر النبأ السعيد الذي صار نسيا منسيا لدى الجميع من طول التعود. فما هو النبأ الذي يظل منسيا، رغم أنه يتجدد باستمرار، والذي كان الفيلسوف الحر الخارج على جميع المذاهب والتصنيفات (والمتوفَّى قبل عامين من الغزو الروسي لأوكرانيا) يرى من واجبه أن يتذكره كل يوم، وأن يذكّر به الأوروبيين كلما سنحت الفرصة؟ إنه السلام! يا قوم أوروبا الغربية تعيش في سلااااام! أوروبا الغربية التي كان تاريخها كله طوال القرون حروبا في حروب تعيش منذ عام 1945 أطول فترة سلام في تاريخها.
والرأي عندي أنها أطول فترة سلام في تاريخ البشرية بأسرها. ذلك أن «الباكس رومانا» الذي دام 180 عاما، لا يُعتدّ به حقا لأنه كان سلاما إمبراطوريا مسلحا مفروضا على الشعوب بالقهر، ولأنه لم يكن يمنع دوام الغارات والغزوات المحلية بين القبائل والأهالي. وحتى مع أخذ هذا السلام الروماني في الحسبان، فإن المؤرخين يقدرون أن البشرية أمضت 92 في المئة من تاريخها في الحرب والاقتتال.
أما دول أوروبا الغربية فقد تعلمت درس التاريخ وقررت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تتحرر من لعنة الحروب. صحيح أن الدول الاستعمارية منها ظلت تخوض حروبا عدوانية على شعوب القارات الأخرى. ولكن منذ أن تدخل الرئيس أيزنهاور لإحباط العدوان الثلاثي على مصر، قررت دول أوروبا الغربية أن تُسخر جهودها للإعمار والتنمية والازدهار.
وليس مصادفة أن معاهدة روما، المُنشِئة للمجموعة الأوروبية، قد وُقّعت عام 1957، أي بعد عام فقط من فشل العدوان الثلاثي وتكرّس ميزان القوى العالمي الجديد.
أما الغاية من المجموعة (التي بدأت بستة أعضاء لتصير بعد عقود اتحادا من 27 عضوا) فقد لخصتها، عند إنشائها، قولة صحافية بليغة: أن تكون حصنا ضد كل من الماضي الألماني والحاضر الروسي.
أي أن دول أوروبا الغربية قد تكتلت لمنع تكرار العدوانية الألمانية ولردع احتمال العدوانية الروسية. وقد كان تكتلها في الأساس اقتصاديا تنمويا. ومما يسّر هذا المسعى التكاملي المدروس، الذي لا نظير له في التاريخ، أن ألمانيا الغربية تحولت إلى ديمقراطية ليبرالية وتمكنت في ظرف عشرة أعوام فقط، أي بحلول 1955، من إعادة بناء اقتصادها الذي دمرته الحرب تدميرا شبه كلي.
مشهد سوريالي ما كان لِيخطر حتى في روايات الخيال العلمي: الولايات المتحدة وروسيا وكوريا الشمالية من جهة، وبقية العالم في الجهة المقابلة! فرنسا وبريطانيا في خندق، والولايات المتحدة والمجر ونيكاراغوا (وإسرائيل طبعا) في الخندق المواجه
ومن أسباب نجاح المجموعة الأوروبية في صيغتها الأولى أنها استوفت أفضل شروط التجانس: فقد كانت كل دولها الأعضاء ديمقراطيات ليبرالية ذات اقتصاد حر مزدهر في كنف دولة الرعاية الاجتماعية الكافلة للعيش الكريم لجميع الفئات، بمن فيهم المرضى والمسنون والمتقاعدون والعاطلون. وقد تطور البناء الاتحادي الأوروبي ليتخذ شكل «ديمقراطية تعاونية» فريدة بين دول كانت متعادية تاريخيا وسياسيا وأمم كانت متباغضة ثقافيا ومذهبيا (بفعل سلسلة الحروب الدينية من القرن 16 إلى القرن 19) فضلا عن اعتداد كل منها بذاتيته القومية. وليس من المستغرب أن تتعثر خطوات البناء وتتعقد بما ينذر بالتهافت أو الانهيار. فهذا البناء الاتحادي مناقض لطبائع الأشياء (!) مثلما كان يقول ميتران. ذلك أنه يروم تحقيق دوام الائتلاف والانسجام بين أمم متباينة العقليات والحساسيات، أي أنه يريد أن يحقق بالإرادة السياسية الواعية أقصى وأعزّ ما تحول دونه، بل وتعمل ضده، الطبائع النفسية الثابتة.
ولكن الحقيقة أن الازدهار الأوروبي ما كان ليتحقق ،والسلام الأوروبي ما كان ليستمر والحصن الاتحادي «ضد الحاضر الروسي» ما كان ليصمد لولا الحماية العسكرية الأمريكية المضمونة بمقتضى معاهدة الناتو. إلا أن هذه الضمانة قد انْتَقضت بمجيء ذلك الرجل الأمريكي الذي لا يعرف الصديق من العدو والذي يظن أن السياسة الدولية برمّتها ما هي إلا حكاية بيع وشراء تتخللهما مساومات بازارية وابتزازات مافيوزية. وقد تجلت خطورة الشرخ الذي أصاب قلب العالم الغربي، بانحياز الولايات المتحدة للعدو الروسي وتألّبها ضد الحليف الأوروبي، في مشهد التصويت على قرار الجمعية العامة المطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
مشهد سوريالي ما كان لِيخطر حتى في روايات الخيال العلمي: الولايات المتحدة وروسيا وكوريا الشمالية من جهة، وبقية العالم في الجهة المقابلة! فرنسا وبريطانيا في خندق، والولايات المتحدة والمجر ونيكاراغوا (وإسرائيل طبعا) في الخندق المواجه.
قلائل هم الذين يرون أن هذا الصدع قابل للرأب، بل الرأي الراجح أنه إيذان ببدء انهيار معمار الأمن التضامني الغربي، وربما انفجار النظام الدولي بأسره.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السلام الغربية العالمية امريكا الغرب العالم السلام مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أوروبا الغربیة ما کان
إقرأ أيضاً:
الرئيس عون: اجراء الإصلاحات هو توجه العهد الذي حددته في خطاب القسم
استقبل رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون قبل ظهر اليوم في قصر بعبدا، رئيس جمعية "لابورا" الاب طوني خضرا مع وفد، ضم ممثلين عن "اتحاد أورا" المؤلف من اربع جمعيات: "لابورا" والاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة و"أصدقاء الجامعة اللبنانية" و"نبض الشباب"، "المؤتمر المسيحي الدائم"، تجمع "لبنانيون من اجل الكيان"، فريق المحامين في اتحاد "أورا"، فريق "المشروع الزراعي"، فريق "الاستثمار في المناطق"، ومندوبي الأحزاب والجامعات والكنائس في "لابورا" ومجلس أمنائها المؤلف من 13 كنيسة.
في مستهل اللقاء، تحدث الاب خضرا، فأكد "الوقوف الى جانب رئيس الجمهورية ودعمه لقيادة البلاد الى بر الأمان وتحقيق آمال اللبنانيين بإعادة الوطن الى جميع أبنائه"، وقال: "نثق انكم ستبقون العماد جوزاف عون الذي عرفه اللبنانيون ابن المؤسسة العسكرية، مؤسسة الشرف والتضحية والوفاء"، واكد ان "المجموعات الممثلة في اللقاء اليوم تعمل من اجل هدف واحد، وهو الحفاظ على لبنان الرسالة والتنوع والحضارة وتجذر أبنائه".
وعدد الاب خضرا التحديات التي تواجهها الجمعية، وهي: "اختلال التوازن في وظائف الدولة، التغيير الديموغرافي الخطير في الدولة حيث خسر المسيحيون وغير المسيحيين من حضورهم فيها، تحدي إيجاد مشاريع استراتيجية وعملية للشباب لكي يبقوا في وطنهم ويعودوا اليه، تحدي تحقيق انماء متوازن لوقف نزيف النزوح من الريف الى المدينة، تحدي الحد من خسارة الأرض سواء عن طريق البيع او الإهمال وتحدي إعادة الامل بالغد بعد سنوات من اليأس والإحباط، وهو امل بدأ يعود بوصول فخامتكم الى سدة الرئاسة".
وتمنى الاب خضرا على الرئيس عون "إيلاء الاهتمام الخاص بموضوع التوازن في الدولة لانه يشكل صمام الامن والأمان الحقيقيين. فهناك محاولات خطيرة لضرب هذا التوازن خصوصا في الجمارك وقوى الامن الداخلي"، طالبا "متابعة السهر على احترام القوانين واعتماد معايير الكفاية في وظائف الدولة وليس على الواسطة والزبائنية الدينية والسياسية والمناطقية، ونحن على يقين بانكم تسهرون على ذلك".
وطالب الاب خضرا بـ"دعم المؤسسات النقابية والمنتجة في الدولة، كي لا تبقى حكرا على المستفيدين من السياسيين والطائفيين، بالإضافة الى إعادة هيكلة الإدارة العامة لتصبح منتجة وفاعلة، وقد اعددنا الخطط لذلك وننتظر تشكيل لجنة مشتركة لنعمل معا على هذا الموضوع، وبجامعة لبنانية حاضنة للجميع متطورة، تخرج قادة ووزراء ونوابا وعلماء ومتخصصين على مستوى الوطن وطموحات شعبه، وبتطبيق صحيح للدستور اللبناني يعيد انتظام الأداء السياسي على أسس التوازن في الأدوار والصلاحيات".
ورد الرئيس عون مرحبا بالوفد، مؤكدا ان "لبنان طائر بجناحين المسيحي منه والمسلم، الذي يتعذرعليه الطيران اذا ما كسر احد اجنحته"، وشدد على "ضرورة تمسك الشباب والشابات اللبنانيين بجذورهم والتشبث بالأرض من خلال إقامة المشاريع الزراعية والاستثمار فيها وانمائها"، ونبه من "تلاشي ثقافة الإرادة الصلبة لحساب قيام ثقافة الاستسلام لدى الشباب اللبناني، وهي ثقافة سنعمل على تغييرها"، واعتبر ان "الحق لا يصان الا من خلال التمسك به والعمل على جعله غير قابل للتجزئة".
وإذ دعا الرئيس عون الى "انخراط الشباب والشابات اللبنانيين في المؤسسة العسكرية والدولة اللبنانية لما تمثله من فرص تساهم في تعزيز ثقافة التمسك بالأرض"، لفت الى ان "مهمة الوفد بما يمثله من نبض الشباب في لبنان، ان يرشدهم ويوجههم الى هذه الخيارات، والفرص مفتوحة امامهم"، وتساءل: "في المقابل، لماذا لا يريد اللبناني ان يعمل في وظائف وقطاعات من حقه العمل بها وترك الفرص المتوافرة ليشغلها عمال أجانب؟".
وختم مؤكدا أن "مهمتي في موقعي هي خدمتكم وخدمة الشعب اللبناني وإصلاح الأخطاء في كل القطاعات، لكن عليكم انتم القيام أيضا بدوركم تجاه الشباب اللبناني لما فيه خير ومصلحة البلد"، مجددا تأكيد "الدور الرئيسي للقضاء في إعادة النهوض بلبنان من جديد".
الى ذلك، استقبل الرئيس عون وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والمدير المعاون لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي – "UNDP" HAOLIANG XU ومديرة مكتب بيروت BLERTA ALIKO، حيث هنأ المسؤول الاممي رئيس الجمهورية بانتخابه واطلعه على المشاريع التي ينوي البرنامج القيام بها في لبنان، مشددا على "أهمية الإصلاحات والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد"، لافتا الى ان "توافر هذه العناصر يؤمن تمويلا للاستثمار"، مؤكدا "جهوزية برنامج الأمم المتحدة للعمل مع رئاستي الجمهورية والحكومة على تنفيذ الإصلاحات المنشودة ومضمون خطاب القسم والبيان الوزاري للحكومة".
ورحب الرئيس عون بالمسؤول الاممي، شاكرا "ما يقدمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي - UNDP من مساعدات للبنان ودعم لمؤسساته واداراته"، مقدرا خصوصا "ما قدمه للجيش اللبناني ولافراده من دعم ومساعدة".
واكد الرئيس عون ان "اجراء الإصلاحات هو توجه العهد الذي حددته في خطاب القسم بهدف إعادة الثقة بالدولة اللبنانية ومؤسساتها في الداخل والخارج"، شاكرا "المساهمة التي يمكن ان يقدمها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في هذا السياق".
وفي قصر بعبدا، مدير الشؤون الإدارية والمالية في وزارة الخارجية والمغتربين السفير كنج الحجل.