د. عبدالله الغذامي يكتب: لسان الثقافة
تاريخ النشر: 1st, March 2025 GMT
للثقافة لسانها الخاص وهناك مواقف تكشف عن هذا اللسان المخبوء من تحت ألسنة المتحدثين، نجده في أمثلة للأحاديث والوقائع المرتجلة، ويشبه ما سماه فرويد بسقطات اللسان، ولكنه أكثر من مجرد سقطات، وإنما هو من فعلِ ما سميناه (المؤلف المزدوج)، أي الثقافة حين تتسلّل عبرنا لتشاركنا قولنا وكتاباتنا.
ونستدعي هنا موقفاً جرى في البرلمان البريطاني زمن رئاسة تيريزا مي رئاسة الحكومة (2019)، حيث واجهها أحد نواب المعارضة محيلاً إليها بقوله: هذه المرأة الغبية، مما فجر غضباً ثقافياً هائلاً، امتّد للإعلام بكل وسائله، وهنا يتكشف النسق الثقافي بأعلى درجاته، وأشد معانيه هو وصف المرأة بالغباء، الذي يحيل لتاريخٍ ممتّد عبر الأزمنة والثقافات، من حيث حشر المرأة بصفات الجهل، بينما العقل للرجل، ولها كل صفات السلب كالحماقة، ومنها قولهم إن الرجل كلما كبر، زاد حكمةً، وكلما كبرت المرأة، زادت حماقةً، ولو أن النائب مثلاً قال عن زميلٍ له هذا الرجل الغبي لظلّت الجملة عاديةً، ومجرد شتيمة شخصية، ولن تُحمل على أنها تعني جنس الرجال، على عكس جملة (هذه المرأة الغبية) التي تتجاوز الذاتي لتشمل الجنس، وإن جاءت لغوياً بصيغة الإفراد عبر اسم الإشارة لكن حالات استقبالها كشفت مدى تجذر سياقها الثقافي، أي أننا أمام نسقٍ ثقافي متجذّر، وهي التي فجرت الغضب العارم ضد جملة النائب المتورط ثقافياً.
ومثل ذلك المثل المشهور (قطعت جهيزةُ قول كل خطيبٍ)، وهذه جملة في ظاهرها مجرد جملة إخبارية، وقد يتبدى عليها الثناء بما أن هذه المرأة تفوقت على الفحول من الخطباء، وكسرت بلاغتهم وأسكتتهم، ولكن إذا تتبعنا سيرة هذه الجملة، فسنرى أنها جملة نسقيّة، وعلامة ذلك أن الميداني أورد هذه المثل ليعلق عليه بتعليقين متواليين، أولهما شرحٌ للمقولة وهذا تصرفٌ علمي خالص العلمية، ولكنه يختم حديثة بجملةٍ تكشف البعد النسقي لها، إذ يشير إلى أن هذا المثل يصف حماقة من يقطع أحاديث الرجال، ومن هنا تصبح جهيزةُ حمقاءَ ويسري المعنى ليعزّز هذه التوصيفات للمرأة.
وهنا نكتشف مدى قوة لسان الثقافة، الذي يقوم مقام المؤلف المزدوج، ولم يستطع الميداني تمرير المقولة دون التأويل الثقافي لها كما حدث مع جملة (المرأة الغبية) التي ما كان لها أن تمر دون تأويل ثقافي لها.
وهذه كلها صيغٌ ثقافية تعني أن البشر كائناتٌ سرديةٌ يتصرفون ويفكرون وفق أنظمة ذهنيةٍ قسرية، وهي التي تحرك مشاعرهم اللغوية وردود فعلهم في حروب كلامية عنصرها إقصائي ومكوّنها طبقي، ومهما تعلموا يظلون نسقيين رغم علميتهم ورغم عقلانيتهم، لأنهم تحت سلطة أنساقٍ مضمرةٍ سابقة عليهم، وقد تولدوا فيها ويستمرون معها، وهي فيهم ومن ثم يستمرون في إعادة إنتاجها.
ولسان الثقافة يظل تحت لسان البشر، وللثقافة حيلها في التخفي والإضمار عبر لسانها المخفي، ولكنه يمتلك القدرة على فرض معناه ومن ثم احتلال الأذهان في الإرسال والاستقبال معاً. وما تخفيه اللغه يختلف عما تبديه، وربما هو الأخطر والأكثر تحدياً.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
د. نزار قبيلات يكتب: تأثيل الرّمسة الإماراتية وعام المجتمع
في الجهود الكبيرة التي يقدّمها سَدنة العربية في علم المعاجم والدلالة، تجدر الإشارة إلى أن مجامع اللغة العربية ما انفكت تعمل بدأب وهمّة عاليتين؛ فالمعجم التاريخي الذي صَبر عليه مجمع اللغة العربية في الشارقة يعدُّ كنزاً عربياً كبيراً ليس لنا وحسب بل وللأجيال القادمة، فالمجتمعات العربية على امتدادها كياناتٌ ثقافيةٌ متنوعة، تحمل إرثاً مادياً ومعنوياً ضارباً في التاريخ، واللغة وضروبها من أهمّ هذه المشكلات الثقافية، وهي بذلك تتطلّب وعلى الدوام رصداً وتحقيقاً مستمرين في تطور الدّلالة وانزياحاتها، وذلك من خلال تأثيل اللّهجة عبر دراسة السياقات غير اللّغوية التي أتت على بنية الكلمة الصرفية والصوتية فأزاحتها لاحقاً نحو استعمالٍ لغوي رديف أو متشابه، بمعنى أن ردّ الكلمات إلى أصلها الفصيح هو مُماحكة تاريخية تتطلّب معرفةً عميقة في فقه اللغة وفي علم السيميائيات (علم العلامات)، في الواقع ومع هذا التجدد والانفتاح مازالت هناك حاجة دائمة لبذل المزيد من الجهود للجمع والرصد والتحقيق من الجذور اللغوية، ومن شواهدها التي تتباين ربما ليس عبر الزمن، بل تؤدي التضاريس والمناخ أيضاً دوراً مهماً في تلك الانزياحات اللّطيفة في كل اللهجات العربية عبر صَيرورة الزمن، وهي جهود اعتمدت على ما وفّرته الحوسبة اللغوية اليوم، والتي عملت على جمع ما يُمكنها من ألفاظٍ وعبارات التصقت بمقام لغوي، وبمناسبات إنسانية تخصّ المجتمع الحاضن لها.
في المجتمع الإماراتي كغيره من المجتمعات العربية ثَمّة ألفاظ فرضها استعمالها الإنساني لأنها تشير إلى مستمسكات مادية دخلت نطاقَ المجتمع، فقام مجتمع اللغة ومن أجل استخدامها بتعريبها تبعاً لنظامِه الصوتي وللبناء الصرفي الذي يعهده فطرياً، ولا بد من الإشارة هنا إلى مُعجم الألفاظ العاميّة في دولة الإمارات العربية وللجهود الكبيرة المبذولة في هذا المضمار، فردّ العديد من الألفاظ إلى أصلها الفصيح جهدٌ معجمي يتطلب أيضاً بيان مرجع الكلمة الذي تم الاقتراض منه، فهناك ألفاظ مهجورة يجري استدعاؤها من خلال الحكايات والأمثال الشعبية التي تلقى اهتماماً أكاديمياً ومؤسساتياً مهماً اليوم، كما أن الدّراسات اللّسانية الحديثة تجد في المدوّنة الشعبية مصدراً ثرياً للبحث في دلالات هذه التشكلات اللهجوية، وفي القوّة الخطابية التي تؤديها في حواراتنا اليومية، فما انفك المَثل الشعبي في دولة الإمارات متداولاً حتى على ألسنة الجيل الجديد، وبالتوازي مع ذلك هناك دراسات علمية رصينة تبحث فيه وتُحِيله إلى سياقات تاريخية يتجدد حضورها في كل موقفٍ لغوي، ما يعني أصالة التماسك المجتمعي والحضاري في الدولة، وما يؤكده أيضاً هو حضور الشعر الشعبي الإماراتي في التداولية اليومية، فمازال الشعر الشعبي في الإمارات يلقى استحساناً وانتشاراً واسعين، وعليه فإن الرّمسة الإماراتية كضربٍ لغوي أصيل يسهل استيعابه وفهمه، لأنه في الواقع ابن المجتمع الأصيل وربيبه، فجمالية الرمسة الإماراتية صادرة من إيقاعها الجمالي المنسجم مع الجذر العربي، وهو ما أثبته النظر في تلك المعاجم الخاصة به، فمازالت هناك مراجع مكتوبة وتسجيلات شفاهية محفوظة في الأرشيف الوطني، تبين كيفية التهجئة والنطق، وكذا الصلات الأصيلة المستقرة في المجتمع الإماراتي.
أستاذ بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية