مشهدان متناقضان في لبنان، وما أكثر المشاهد التي تتداخل فيها المشاعر المختلفة. المشهد الأول هو الحفل الغنائي للفنان المصري عمرو دياب، وما تخلله من مظاهر البذخ و"الفخفخة" والثياب البيضاء الناصعة. أمّا المشهد الثاني فهو انقطاع التيار الكهربائي في مطار بيروت، وما تمّ تداوله من تأفف المسافرين، وصولًا ومغادرة"، من "الفطيس" بفعل غياب ما لا يمكن الاستغناء عنه في مثل هذه الأيام التي لا ترحم، وقد تمّ الاستعانة بأنوار "السللوليرات" تلمسًا للطريق في مطار، لا نزال نصرّ على وصفه بأنه "دولي".
إنه بلد المتناقضات، بحلوه ومرّه. هذا هو لبنان الأمس واليوم وغدًا. لا شيء تغيّر ولا شيء سيتغيّر. ولأن فيه كل هذه التناقضات والأضداد فهو باقٍ وصامد ولن ينهار، ولكن ليس إلى أمد طويل، وعلى رغم ما يُقال بأنه لو حصل في أي بلد آخر ما مرّ به لبنان من تجارب قاسية لكان انهار منذ الأيام الأولى، ولما استطاع أن يبقى صامدًا في وجه الأعاصير، التي يواجهها لبنان كل يوم، وبكل لحظة. ففي لبنان دور عبادة ومزارات بقدر ما لدى شعبه من ايمان وورع. وفيه أيضًا من النوادي الليلية وأماكن السهر ما لا يمكن إحصاؤها. وهذا ما يجعل لبنان مميزًا وفريدًا. وهذا ما يجعله قبلة الذين يقصدونه، الذين يعترفون بأن ما يجدونه في هذا البلد من سحر خفّي لا يجدونه في أجمل البلدان، التي تتوافر فيها كل أساليب الراحة والرفاهية، وهي غير متوافرة في لبنان، الذي يفتقر إلى الكثير مما لدى الآخرين من إغراءات سياحية. ولكن وعلى رغم كل هذا "التعتير" المعشعش في كل زاوية من زوايا لبنان فإن الذين يقصدونه، صيفًا وشتاء، يعشقونه حتى الثمالة، ولا يجدون له بديلًا. وقد يكون ما فيه من نواقص هو ما يجذب السياح وما يجعلهم ينبهرون أمام ما يصادفونه في تجولاهم وترحالهم من تصميم لدي الكبير والصغير على العيش بفرح وسلام، على رغم الظروف القاسية والصعبة، وربما الخطيرة. ولكن هذا النوع من التوصيف الايجابي يجب ألا يعفي المسؤولين من مسؤولياتهم، وهي كثيرة في مثل هذه الأيام التي تزدحم فيها الهموم وتتكدّس المشاكل فوق بعضها البعض، منذرة بما هو أعظم وأعتى مما يعيشه اللبنانيون مذ أن قرّر الخارج أن يقدّم مصالحه على مصالحهم، وأن تكون أولوياتهم في آخر"اجنداته" واهتماماته.
فالمسؤولون الحقيقيون عندنا، وإن كانت تسمية "مسؤولية" قد أصبحت "مبهبطة" على البعض ولم تعد تناسب مقاساتهم، يعرفون ما الذي يجري في الخارج، وما يُرسم من برامج إقليمية غير واردة فيها كلمة لبنان في الوقت الحاضر، لا من قريب ولا من بعيد، في انتظار أن تنجلي مشاريع ترميم العلاقات بين الرياض وطهران على وقع المحادثات النووية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. ولأن هؤلاء المسؤولين يعرفون ما يجري من وراء الأكمات، يتصرّفون على أساس السعي بما هو متوافر وممكن إلى التقليل من الأضرار قدر الإمكان، وعدم ترك الأمور تتفاقم أكثر مما هي عليه، وذلك قبل أن تضيع "الطاسة"، ويدخل لبنان في فوضى لا يعود يُعرف معها مَن مع مَن، ومَن ضد مَن، وتتفاقم الأمور في شكل دراماتيكي، بحيث لا تعود المعالجات بالمراهم تفيد. فما يتخّوف منه هؤلاء المسؤولون، وقد قرعوا جرس الإنذار أكثر من مرّة، قد يصبح واقعًا لا مناص من الهروب منه، وقد يؤخذ اللبنانيون المأخوذون ببهرجة المهرجانات والحفلات والسهرات الفنية على حين غفلة.
فما يمكن معالجته اليوم، وإن يكن على طريقة "داوني بالتي كانت هي الداء"، قد يصبح في الغد متعذرًا، إن لم نقل مستحيلًا، وذلك لما ستكون عليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والتي يمكن تشبيهها بأحجار "الدومينو"، التي ستتهاوى تباعًا بمجرد سقوط الحجر الأول. المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
الأوهام البصرية وخدع العقل هل يمكن تفاديها؟
تجذب الأوهام البصرية اهتمام الكثير من الجماهير الذين يجدون فيها متعة كبيرة، والأمر كذلك بالنسبة للعلماء الذين يحاولون تفسير عمل الدماغ مع المعطيات البصرية، وتستطرد دراسة حديثة منشورة في دورية "ساينتفك ريبورتس" مسألة قدرة البشر على تجاوز هذه الأوهام البصرية دون الانزلاق فيها، وتوضح نتائج الدراسة أن الأمر ممكن للغاية، لكن وفقا لضوابط.
ويقع الإنسان في الوهم البصري بسبب اعتماد الدماغ على ربط سياقات معينة في تحليل الصور والمشاهد المرئية، فالعين لا تتناول المجسمات والأشياء على حدة، بل يركز الدماغ على جميع العناصر في الصورة. ومثال على ذلك "وهم إبنجهاوس" الذي سُمِّيَ نسبة لعالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس.
وبالنظر إلى الصورة السابقة، يتضح بأن ثّمة مجموعتين من الدوائر الرمادية، ينتصف كلّ مجموعة دائرة برتقالية، وللوهلة الأولى لا تبدو الدائرتان متساويتين على الرغم أنهما متطابقتان تماما، وذلك بسبب تأثير الأجسام -الدوائر الرمادية- على الصورة بالمجمل، ويُعزى ذلك إلى أن الدماغ يحلّل الأجسام ضمن سياقاتها، فلا يدركها بمعزل عن محيطها.
وتختلف طريقة إدراك الأوهام البصرية من شخصٍ لآخر بناء على عدة عوامل، فقد أظهرت الدراسات أن النساء أكثر تأثرا بهذه الأوهام مقارنة بالرجال، ويُرجَّح أن السبب في ذلك هو اعتمادهن بشكل أكبر على المعلومات السياقية والاستطرادية.
إعلانوبالمثل، لا يدرك الأطفال الصغار هذه الأوهام على الإطلاق، نظرا لأن أدمغتهم لم تتعلّم بعد كيفية تفسير الإشارات السياقية والتعمّق فيها.
كما تلعب العوامل العصبية والثقافية دورا مهمّا في هذا السياق، فالأفراد المصابون بالتوحّد أو الفصام يميلون إلى رؤية الأوهام البصرية بشكل أقل، لأنهم يركّزون بشكل أكبر على العناصر الفردية بدلا من محيطها.
والأمر ينطبق كذلك على مستوى المجتمعات، فالأشخاص المنتمون إلى الثقافات الآسيوية الشرقية، مثل اليابان، التي تميل إلى تبنّي الإدراك الشمولي، يكونون أكثر عرضة للأوهام البصرية مقارنة بذوي الثقافات الغربية التي تركز غالبا على الأشياء المعزولة، كما هو الحال في بريطانيا على سبيل المثال، وفقا لمخرجات الدراسة.
ويفترض الكثير من الباحثين أن التأثر بالأوهام البصرية والوقوع فيها سمة فطرية لدى البشر لا يمكن التحكم بها، غير أن ما أظهرته الدراسة الحديثة تدحض هذا الافتراض، إذ تشير إلى أن التدريبات قد تقلل من اعتماد الدماغ على الإشارات البصرية المضللة.
وفي الدراسة قُورن بين مجموعتين، واحدة تشمل على أخصائيين في مجال الأشعة، وأخرى تشمل طلابا يدرسون الطب وعلم النفس.
وتبيّن أن أخصائيي الأشعة كانوا أقل عرضة للأوهام البصرية بشكل ملحوظ، ويُعزى ذلك -على الأرجح- إلى السنوات الطويلة من التدريب المكثف، والتي تمكنهم من التركيز على التفاصيل الحرجة في فحوصات التصوير الطبي مع تجاهل العناصر الخلفية المشتتة.
وتضمنت الدراسة عرض أشكال مختلفة من "وهم إبنجهاوس" على المشاركين، وفي إحدى التجارب، كانت الدائرة البرتقالية على اليسار -في الصورة- أصغر من نظيرتها على اليمين، لكن معظم الأشخاص رأوها على العكس من ذلك.
إعلانومع ذلك، تمكّن أخصائيو الأشعة من تحديد الأحجام الحقيقية بدقة أكبر، مما يدلّ على أن تدريبهم البصري ساعدهم في التغلب على الخدعة البصرية. ومن اللافت أن أخصائيي الأشعة في بداية تدريبهم لم يُظهروا هذه الميزة، مما يشير إلى أن القدرة على تجاوز هذه الخدع البصرية تتطور مع مرور الوقت واكتساب الخبرة.
التعلم ممكنوتقترح الدراسة أن خاصية التعلم والتطور في هذه السمة لا تقتصر على مجال واحد بعينه، فمثلا لا يؤدي إتقان لعبة الشطرنج بالضرورة إلى تحسين مهارات حل المشاكل في مجالات أخرى. وعلى النقيض، فالتدرب والتعلم في مجال معيّن -مثل علم الأشعة- قد يعزّز القدرات البصرية الإدراكية بشكل عام، بما في ذلك مقاومة الأوهام البصرية.
ويفتح هذا الاكتشاف آفاقا جديدة في العديد من المهن التي تعتمد على الإدراك البصري الدقيق، ويتساءل الباحثون عن مدى جدوى إيجاد تدريبات خاصة مماثلة لما وُجدت في الدراسة للطيارين والجراحين والمتحرين في الأمن والمباحث.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد يؤدي تطوير برامج متخصصة لتعزيز الإدراك البصري إلى تحسين الأداء في هذه المجالات الحيوية. وعلاوة على ذلك، يدرس الباحثون حاليا ما إذا كان تدريب الأشخاص على الأوهام البصرية نفسها يمكن أن يعزز مهارات الإدراك، تماما كما تقوّي التمارين البدنية العضلات.
ويشير الباحثون إلى أن الأمر يتطلب تدريبا مكثفا ومنهجيا، ومن الممكن أن تكون نتائج هذه التدريبات محمودة في تحسين قدرة الأفراد على مواجهة المعلومات المرئية المضلّلة، وتحسين الإدراك البصري سواء في الحياة اليومية أو في بيئات العمل.