موقف النخب الحداثية التونسية من الإسلام السياسي الشيعي
تاريخ النشر: 28th, February 2025 GMT
بصرف النظر عن الأصول المشرقية للعديد من السرديات السياسية الكبرى المتنازعة (خاصة السردية الإسلامية بفروعها الإخوانية والوهابية والتحريرية، والسردية القومية بفرعيها الناصري والبعثي)، يبدو أن "المشرق" -باعتباره المقابل الفكري لمرجعية التحديث في السردية البورقيبية، أي سردية الدولة-الأمة التي ترى في تونس أمّة برأسها- قد كان وما يزال يُمثل نقطة تظهر فشل تلك السردية التأسيسية أو على الأقل هشاشتها، وكذلك نقطة محورية في تجذير الانقسامات الداخلية بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين.
فرغم تحرك الجميع "دستوريا" تحت سقف الدولة الوطنية بالمعنى البورقيبي الويستفالي للدولة-الأمة، فإن الانتماء إلى هويات جماعية تتجاوز الانتماء "القُطري" -بالإضافة إلى تأثيرات دول المشرق في الشأن المحلي قبل الثورة وبعدها- هو أمر لا يحتاج إلى برهان.
يلاحظ المتابع للشأن التونسي أن مفهوم "الإسلام السياسي" في السجال العمومي يكاد ينحصر في الدلالة على الإسلام السياسي ذي المرجعية الإخوانية. وهو أمر يمكن ردّه إلى أهمية حركة النهضة بعد الثورة وما، أحدثه دخولها إلى الحقل السياسي القانوني من شرخ بنيوي في ذلك الحقل "اللائكي" والمتجانس من جهة "تحييد" المرجعية الدينية، بل رفضها في إدارة الشأن العام. فهذه الحركة، على خلاف حزب التحرير أو التنظيمات الوهابية العلمية والجهادية، لم تتحرك ضد الحقل السياسي القانوني -مثل التنظيمات الوهابية التي تعتبر الديمقراطية مقولة كُفرية فضلا عن علاقتها المؤكدة بملف الإرهاب- أو على هامشه -مثل حزب التحرير ذي الوزن الشعبي المحدود والعلاقة الملتبسة بالإرادة الشعبية وبنوازع الانقلاب بعد "التمكين"- ولذلك كانت هذه الحركة هي المستهدف الأساسي من "وصم" الإسلام السياسي في استراتيجيتي الاستئصال الناعم والاستئصال الصلب.
لقد حرصت النخب "الحداثية" المهيمنة على وسائل إنتاج المعنى وتداوله بين عموم التونسيين على عدم إدخال التخصيص على عبارة "الإسلام السياسي". فرغم أن حركة النهضة هي حركة إسلامية سنّية، فإن توصيفها بهويتها "الطائفية" سيكون ضرّه أكثر من نفعه على خصوم النهضة، فخيار "العلمنة" لم يستطع فصل الوعي الجمعي التونسي عن تاريخه ومخياله السُّنيين. ولذلك سيكون من المفيد عدم ربط النهضة بالتراث السني الذي تحتكره المؤسسة الدينية الرسمية المتحالفة تاريخيا مع السلطة، أو على الأقل "المدجنة" من طرف الجهاز الأيديولوجي لتلك السلطة في لحظتيها الدستورية والتجمعية.
إن اعتراف السرديات "الحداثية" بالانتماء السُّني لحركة النهضة سينقل السجال العمومي إلى مناطق ليس من مصلحة "القوى الديمقراطية" -أي القوى اللائكية الرافضة لوجود حزب ذي مرجعية دينية- أن تتحرك فيها، من مثل علاقتها الملتسبة بالإسلام السياسي الوهابي ومحور الثورات المضادة، وعلاقتها الأكثر التباسا بالإسلام السياسي الشيعي أو التشيع السياسي والعقدي.
رغم سلبية موقف النخب "الحداثية" من الإسلام السياسي السني انطلاقا من مبدأ الفصل بين الدين والسياسة، بل رغم إصرارهم "نظريا" على أن القضية الفلسطينية هي قضية صراع ضد الإمبريالية وذراعها الوظيفي الصهيوني وليست صراعا دينيا، فإنّ هذا الموقف يتغير بصورة جذرية فيما يتعلق بالإسلام السياسي الشيعي، أو ما تحرص تلك النخب على توصيفه بـ"محور المقاومة". وإذا كان "محور المقاومة" هو محور ما بعد طائفي -بحكم انتماء مكوناته إلى الجناحين السني والشيعي على حد سواء- فإن مساندة "الحداثيين" لهذا المحور ترتبط أساسا بالمكّون الشيعي فيه.
فالبعد المقاوم لحماس -باعتبارها حركة ذات مرجعية إخوانية- لم يشفع لها عند بناء موقف من الانقلاب العسكري المصري الذي اتهم الحكومة المصرية الشرعية -أي إخوان مصر- بالتخابر معها، كما لم يشفع لها في الموقف من النظام الطائفي البعثي في سوريا الذي أغلق مقرات الحركة وأعدم العديد من قياداتها، ولا عندما تصدّرت بعض الأصوات "الحداثية" المحسوبة على "العائلة الديمقراطية" في تونس -مثل رئيسة الحزب الدستوري الحر- لتصنيف حماس، المنتمية لما تسميه بـ"التنظيم العالمي للإخوان المسلمين"، حركة إرهابية.
لقد دفعت المقاومة الفلسطينية -خاصة بعد طوفان الأقصى- النخبَ "الحداثية" إلى "تحييد" موقفها السلبي من الإسلام السياسي السني في تعبيرته "الإخوانية". ولمنع أي مكاسب لحركة النهضة في صورة حصول انفراجة سياسية، كان على تلك النخب "تعويم" التعاطف الشعبي الجارف مع المقاومة الفلسطينية "الإخوانية" في إطار هوية أكبر هي "محور المقاومة"، مع التركيز على الدور المركزي للمكوّن الشيعي فيه.
وقد يكون علينا في هذا الموضع أن نؤكد أنّ موقف النخب الحداثية من "الإسلام السياسي الشيعي" لا يقبل الاختزال في أنه المقابل الفكري للإسلام السياسي السُّني، أو في أنه يمثل حليفا للقوى الرافضة لمشروع "أخونة" الدولة. فعلاقة النخب "الحداثية" بالسرديات الشيعية تجد جذرها في النظام التعليمي ذاته، وفي الموقف "النقدي" من التراث السني باعتباره التراث المهيمن على التاريخ التونسي.
لقد مثّل الشيعة دائما -في السرديات الحداثية- مشاريع ثورة على سلطة الغلبة والقهر، ومشاريع تمرد على الفهم "الزائف" للتاريخ المؤسس للوعي الجمعي السُّني، وهو ما يجعلهم أقرب فكريا إلى المناهج الحداثية المشككة في السرديات السُّنية "الرسمية". كما أن البعد "الثوري" -الحقيقي أو المتخيل- في التراث الشيعي يوفر للنخب "الحداثية" (خاصة اليساريين والقوميين) نوعا من الإشباع النفسي المرتبط بمساندة المقهورين ومنازلة القوى الإمبريالية، وهو إشباع يُغطّي على كل تلك التقاطعات الموضوعية والتحالفات الاستراتيجية مع أعداء المقهورين ووكلاء القوى الامبريالية في محور التطبيع والثورات المضادة، خاصة السعودية والإمارات ومصر.
ولذلك فإن "التشيع السياسي" ليس مجرد خيار سياسي سياقي مشروط بالموقف من "الإسلام السياسي" محليا وخارجيا، بل هو خيار يرتبط -من جهة أولى- بنسق معرفي "حداثي" يتعارض جوهريا مع التراث السني أو على الأقل لا يجد ما يُقنع عقله ويشبع احتياجاته النفسية فيه، كما أنه خيار يرتبط -من جهة ثانية- برهانات ومشاريع سياسية لا يمكن فصلها عن التأثيرات الإقليمية المتداخلة في هندسة المشهد التونسي.
ليس "التشيع السياسي" -وأحيانا التشيع العقدي- في جوهره مجرد مشروع "نخبوي" مقاوم للتسنن السياسي، وليس أيضا مجرد "غطاء أيديولوجي" لمصالح شخصية وقضايا صغرى لا علاقة لها بالقضايا الكبرى، كما يزعم بعض الطائفيين المدافعين عن صفاء/تجانس متخيل للفضاء السني. إن "التشيع السياسي"، رغم تملص النخب "الحداثية" من هذا التعبير الذي يتعارض مع مرجعيتهم العلمانية ويشكك فيها، هو خيار تلتقي فيه النخبة "الحداثية" بالإسلام السياسي الشيعي لكن دون أن تتماهى معه. إنه التقاء "موضعي" لا يمكن أن يحجب التناقضات الفكرية والسياسية العميقة بين طرفيه.
فأغلب النخب التي تدافع عن "محور المقاومة" هي ذاتها النخب التي ترتبط بعلاقات استراتيجية مع عدو المقاومة الأساسي: محور التطبيع. ولكنّ هذه التناقضات يتم تجاوزها والدفع بها إلى خلفية المشهد -سواء في العلاقة بإيران أو بمحور التطبيع- بحكم اتفاق الجميع على معاداة الإسلام السياسي "الإخواني" خارج المقاومة الفلسطينية، كما هو الشأن في سوريا أو مصر أو تونس أو ليبيا. إن تعقد المشهد "المشرقي" فيما يتصل بالقضية الفلسطينية وأهمية المكون الشيعي في محور المقاومة؛ هو واقع كان يجب أن يتحول "نظريا" إلى مناسبة لكسر الاصطفافات الطائفية -بما فيها تلك الاصطفافات الطائفية المُعلمنة في السرديات اليسارية والقومية- ولكنه تحوّل في سرديات التنافي والصراع الوجودي إلى مناسبة أخرى لتأزيم المشهد العام وتعميق انقساماته على قاعدة هوياتية بائسة، وهي قاعدة لا يبدو أن أغلب النخب "العلمانية" و"الإسلامية" في تونس مستعدة للتحرك خارجها في المدى المنظور.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تونس المقاومة العلمانية مقاومة تونس علمانية اسلامي ايديولوجي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة محور المقاومة حرکة النهضة أو على
إقرأ أيضاً:
عولمة النجومية وفصام النخب العربية.. دور القيم الذوقية والوجودية (1)
نعالج في هذه المحاولة مسألتين تعللان ما سننسبه إلى القيم الذوقية (مجال الفنون) والقيم الوجودية (مجال ما بعد التاريخ أو الدين ومجال ما بعد الطبيعة أو الفلسفة) التي هي موضوع هذه المحاولة بالقصد الأول وما سننسبه إليهما من دور رئيسي في أنواع القيم الثلاثة الأخرى (الرزقية والعملية والنظرية وتفاعلاتها المتبادلة) التي هي موضوعها بالقصد الثاني.
وسنعتمد في علاجنا منهج التحليل التراجعي من العلة إلى المعلول أو من الشرط إلى المشروط لأن القصد هو تشخيص الداء ووصف الدواء علنا بذلك نسهم في التنبيه إلى بعض شروط الشفاء:
1 ـ المسألة الأولى نظرية خالصة: لماذا يعد تحرير القيم الذوقية والوجودية شرط استئناف الحضارة العربية الإسلامية دورها التاريخي الكوني الإيجابي وشرط تحرير الإبداعات الثلاثة الأخرى تقديما للإبداع الرمزي فيهما على الإبداع الفعلي للوجود الإنساني من حيث هو تحقيق شروط استخلاف الإنسان النظري المجرد والمطبق واستخلافه العملي المجرد والمطبق؟
"لماذا يعد تحرير القيم الذوقية والوجودية شرط استئناف الحضارة العربية الإسلامية دورها التاريخي الكوني الإيجابي؟ وشرط تحرير الإبداعات الثلاثة الأخرى...؟"2 ـ المسألة الثانية عملية خالصة: وإذا كان ذلك كذلك فكيف نحرر القيم الذوقية والوجودية من سلطان القيم الرزقية والعملية ومن الدورة الجهنمية التي فرضتها عليها عولمة النجومية التي سيطرت على النخب العربية إلى حد بات فيه جل النخب العلمانية لا يستحون من العودة إلى الوطن راكبين الدبابات الغازية بعقلية المستعمر الذي يخرب ويدمر سواء بمنطق اجتثاث الصحوة الإسلامية المزعومة ظلامية (الجنرالات وسعدي سعد في الجزائر) أو اقتلاع النهضة العربية المزعومة دكتاتورية (عملاء الاستعلامات وجلبي في العراق)؟
فالمعلوم أن الكلام على اعتبار التحرير بهذا المعنى شرطا في استئناف الدور التاريخي الكوني الإيجابي يفترض أن تحرير ضربي القيم التي هي موضوع المحاولة بالقصد الأول هدفه تحديد الغايات. أما تحرير الضروب الثلاثة التي هي الموضوع بالقصد الثاني فهدفه تحرير الأدوات. ويمكن للتحريرين الغائي والأداتي أن يمكنا الأمة من استئناف دورها الكوني لارتباطه بالرسالة التي أسست وجود الأمة ذاته وبقائها فضلا عن المحافظة على الدور الكوني حتى في أضعف مراحل تاريخها.
كما أنه من المعلوم أن الكلام على كيفية التحرير يفترض أن شروطه التاريخية قد أينعت وحان قطافها. فلم يبق إلا الجهد الفكري لتأويلها تأويلا يجعلها تحول كل التناقضات التي تعوقها حاليا إلى محفزات. ورغم أنها من حيث الطبيعة مجرد عوارض خارجية فإنها من حيث الوظيفة أصبحت أهم المكبلات التي تعوق محركات الوجود العربي الإسلامي. وهدفنا أن نحولها إلى محفزات. ذلك أن النخب يمكن أن تكون من المحركات إذا توفرت فيها شروط التحرر من الاستيلاب لتصبح مبدعة في مجالات القيم الخمسة فلا تكون النجومية النخبوية مستندة إلى آليات مغشوشة تعطي الريادة والقيادة لمن غلبت عليهم البلادة والقوادة.
وطبعا فهدف بحثنا هو تعيين الشروط التي نراها متحققة وتحديد كيفيات تأويلها وترتيبها بصورة تحقق التحرير عامة وتحرير النخب بصورة خاصة. إن تكبيل القيم الذوقية وتكبيل القيم الوجودية متواليان في الظهور التاريخي بعكس تواليهما في سلسلة العلل.
فتكبيل القيم الوجودية هو الذي أفسد الثورة المحمدية بإفساد القيم الذوقية والقيم الرزقية والقيم النظرية والقيم العملية كما أثبتنا في غير موضع. وقد ركزنا هنا على القيم الذوقية والوجودية لأنهما موضوع المحاولة الرئيسي.
فهدفنا الأول فيها هو فهم علل إخراج الفنون الجميلة من حياة الأمة الروحية ومن فكرها. ما العلة التي جففت ذوق الوجود الحساني فلم يبق عند المسلمين من الأذواق المصاحبة للبعد الظاهر من الحياة إلا الذوق الغذائي والجنسي من غير ملطفاتهما الفنية؟ لِمَ ارتد العربي والمسلم إلى الغرائز الحيوانية الفجة التي لم يهذبها فن جميل ولا ذوق سليم عدى بذاءات المترفين؟ ولم بات المسلم عامة والعربي خاصة غاطسين في شبه حياة بهيمية لا تتجاوز الأكل والسفاح كما يتبين من حياة مترفيهم الذين ذبل منهم الذوق والعقل وانتفخ منهم البطن والكفل؟
وهدفنا الثاني هو اكتشاف العلة التي أخرجت كل التجارب الروحية من فكر الأمة النظري (الديني والفلسفي) ومن حياتها الروحية فجف ذوق الوجود الوجداني ولم يبق من الأذواق ما لا يرقى للبعد الباطن من الحياة إلا نفس الذوقين وإن بالسلب بزعم التعفف عن الحياة المادية من غير ملطفات الشهوة الحيوانية السلبية في الفكر الصوفي المنحط فارتد الإنسان العربي والمسلم إلى عدمية الفعل التاريخي والاستسلام للامبالاة الوجودية التي يزعمونها خلوة صوفية وهي هروب من المسؤولية في تعمير الإرض شرط أهلية الاستخلاف فيها؟
"كيف نحرر القيم الذوقية والوجودية من سلطان القيم الرزقية والعملية، ومن الدورة الجهنمية التي فرضتها عليها عولمة النجومية التي سيطرت على النخب العربية...؟"لذلك فلا يمكن أن نتصور المسلمين قادرين على استئناف دورهم من غير حياة هذين النوعين من القيم. ومن اليسير أن يلاحظ القارئ الفصامين اللذين تعاني منهما النخب في الوطن العربي سواء أخدناه مفتت الأقطار بوصفها محميات الاستعممار كما هو الشأن في علاج هذه النخب الأعرج قضايا العصر من المنظور القطري العاجز أو أخذناه من منظور المجال الثقافي الواحد الذي شرع في التوحيد السلبي بينها بحسب منطق اللحظة التاريخية منطقها الذي يفرضه ما يسعى إليه العدو الأمريكي من توحيد لمجال استعداده لعماليق القرن الجديد بالاستحواذ على منابع الطاقة وثروات الأرض زرعيها ومعدنيها فضلا عن احتلال أفضل قاعدة أرضية قريبة منهم جمعيا . لكن تفسير هذين الفصامين لم ينل حظه من العناية والعلاج النظري لأنه لم يربط بما أصاب أسلوبي عمل الفكر البشري المضاعفين من عطل نتج عن التنافي بينهما من منظور أشباه النخب التي لم تغص إلى أعماق وحدة العقل المبدع رغم اختلاف الأساليب: أسلوب الفلسفة أو العقل ببعديه النظري (علوم الطبيعة) والعملي (علوم الأخلاق) وأسلوب الدين ببعديه النظري ( العقيدة ) والعملي (الشريعة).
والعلة الأساسية في إهمال هذا العلاج هي وهم التنافي بين هذين الأسلوبين والبدائل الزائفة الساعية إلى التخلص من ثنائية أسلوب الإدراك البشري: بالرد المتبادل بينهما الذي هو الحد الأدنى من نفي المردود للإبقاء على وحدانية المردود إليه.
لذلك فنحن نشرع في هذا العلاج آخذين مأخذ الجد الأسلوب الديني لتحديد القيم وادوار النخب المتكلمة باسمها رغم انتساب محاولتنا إلى الأسلوب الفلسفي. وهدفنا في المحاولة هو تفسير الآليات التي تتحكم في نجومية النخب وربطها باطارين قاهرين لا يمكن من دونهما فهم دور النخب عامة والنخب العربية الحالية خاصة لفهم علاقة الفصام الذي أصابها بآليات النجومية في الرأيين العامين العربي الإسلامي والأوروبي الأمريكي:
1 ـ أولهما هو إطار الحرب النفسية التي تعينت في استراتيجية الإعلام والتدخل الأمريكيين لتوجيه مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في كل مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص.
2 ـ والثاني هو ردود الفعل في مجالي الإعلام وإصلاح مؤسسات إبداع القيم ورعايتها وتبادلها في مجتمعات العالم عامة وفي المجتمعات الإسلامية والعربية على وجه الخصوص.
وسنركز على تفسير الفصامين مقتصرين على النخب العربية نموذجا منحطا من النخب الإسلامية أولا ولمعرفتنا بتفاصيلها ثانيا فضلا عن كونها ما تزال النواة الرئيسية في الثقافة الإسلامية بسبب لسان القرآن حسب تصورنا لما بقي لها من دور في تاريخ البشرية الكوني. وذلك لعلتين موجبة وسالبة. وكلتاهما ليس للنخب العربية الحالية فيها يد.
فأما العلة الموجبة فهي دور الثقافة الإسلامية الناطقة بالعربية عامة ودور اللسان العربي خاصة في تراث كل المسلمين. ومعنى ذلك أن العلة الموجبة لا يدين بها دور الثقافة العربية في الثقافة الإسلامية بشيء للنخب العربية الحالية بل العكس هو الصحيح أي أن النخب العربية التي قد يسمع لها أحيانا لا يسمع لها إلا بقدر مواصلتها للثقافة الإسلامية الأولى. وتلك هي العلة في كثرة الطحالب الطفيلية من النخب العربية عامة والعلماني منها على وجه الخصوص الطحالب التي تتاجر بهذه الثقافة (كباعة الآثار المسروقة من المتاحف والمؤلفات من المكبات) بخطاب قابل للنفاق في السوق الغربية تأييدا للموقف الغربي من الثراث العربي.
"لا يمكن أن نتصور المسلمين قادرين على استئناف دورهم من غير حياة هذين النوعين من القيم... الفصامين اللذين تعاني منهما النخب في الوطن العربي... تفسيرهما لم ينل حظه من العناية."والمعلوم أنه لا أحد من الغرب يمكن أن يسمع لما يقولونه عن الفكر الغربي من سخافات لا تتجاوز ما يلتقتونه من سوق "الثيات الملبوسة أي الفريب. وسواء كان من يسمع لهم يدري أو لا يدري فإن ما يقولونه عن الفكر العربي أكثر سخافة مما يقولونه عن الفكر الغربي لكن تأييد الأحكام المسبقة يحقق بعض القبول لغير المقبول بحسب المعقول.
وأما العلة السالبة لأهمية النخب العربية والتي ليس للنخب العربية فيها يد كذلك فأمرها بين حتى للغافلين والمغفلين: إنها علة سعي أمريكا للاستحواذ على الوطن العربي لما فيه ولموقعه فضلا عن وجود إسرائيل. فاسرائيل وأمريكا لا تحاربان الأمة الإسلامية لأنها تعتبر النخب العربية الحالية تحديا فكريا أو علميا أو تقينا كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى النخب الأوروبية والصينية واليابانية والهندية. إنما التحدي علته أن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهم (عروبة القرآن والسنة والتراث الديني الإسلامي) وماديا (كون الوطن العربي يوجد في ملتقى القارات الثلاث التي أبدعت كل الحضارات وكون محرك الحضارة المادي أو الطاقة جلها والرمزي أو المشاعر كلها توجد فيه).
ولعل ما قوى أثر هذين الإطارين الخاصين بالنخب العربية في حدود دورها في الثقافة الإسلامية فضلا عن هاتين العلتين ظاهرتان كونيتان لا مرد لهما ظاهرتان تمثلان في الوقت نفسه علامة منزلة الوطن العربي السلبية والايجابية في التاريخ الكوني:
1 ـ فأما المنزلة السلبية فيمكن استنتاجها من الحقيقة التاريخية التي بدأت بعد تكون الدولة الإسلامية. فكل القوى التي سعت إلى تأسيس نظام طغياني عالمي حاربت المسلمين عامة والعرب خاصة لأنها اعتبرتهم عائقا أمام مشروعها. ذلك أن تمكين الإسلام العرب والمسلمين من تحقيق دار الإسلام حيث هي الآن جعلهم رقما ضروريا في المعادلة التاريخية الكونية بحكم كونهم رقما ضروريا في ما يستمد من المكان وثرواته المادية والزمان وثرواته الروحية أي من معين مقومات الوجود البشري فضلا عن تعريف القرآن المسلمين بكونهم الشاهدين على العالمين وعدم اعترافه بالتفاضل بين الشعوب إلا بالتقوى (الحجرات 13) واعتبارهم أخوة (النساء 1) تحريرا للبشرية من العرقيات والطائفيات والطبقات وحتى الجنسيات لأنها من الآيات وليست من السلبيات.
2 ـ وأما المنزلة الإيجابية فيمكن استنتاجها من حقيقة تاريخية مناظرة للحقيقة التاريخية الأولى. فكل محاولات التحرر العالمية من الطغيان العالمي القادم من الغرب بدأت باستئناف العرب دورهم في تكوين قاعدة الصحوة الإسلامية المادية والروحية ( بدءا بالقضاء على بقايا الاستعمار البيزنطي المسيحي في ملتقى القارات الثلاث منطلقا لتكوين دار الإسلام الحالية وختما بالحرب مع أمريكا وتوسطا بكل ما حصل بين الحروب الصليبية وحروب التحرر من الاستعمار ). ذلك أن تحقيق رسالة الإسلام التحريرية يشترط أمرين يتألف منهما معنى الشهادة على العالمين بالجهاد من أجل:
1 ـ التصدي لإفساد الطبيعة (استغلال الطبيعة استغلالا فاحشا) وإفساد الثقافة (استغلال الثقافية استغلالا فاحشا).
"إن العرب لا يزالون قلب العالم الإسلامي رمزيا... رغم كون ذلك يحصل رغما عن أنوفهم... والعلة السالبة لذلك هي سعي أمريكا للاستحواذ على الوطن العربي لما فيه ولموقعه."2 ـ والتصدي للظلم والعدوان (حماية المستضعفين اقتصاديا) وللعنصرية والمفاضلة بين الشعوب في الأرض (حماية التعدد السلالي والثقافي).
وبذلك فإن بحثنا سيتألف من ثلاثة فصول متعددة الفقرات:
1 ـ أولها يمهد لمسألتي البحث فيعالج مقدمات التأسيس النظري لدراسة آليات تكون النخب عامة والنجومية خاصة تخصيصا بالنخب العربية في اللحظة الراهنة مع التركيز على دواعيها وأزوفها.
2 ـ والثاني يعالج آليات النجومية في أولى النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الوجودية (معاني الحياة وقيمتها) مع التركيز على توضيح نظرية مجالات القيم الخمس: مجال القيم الذوقية (الفنون الجميلة) ومجال القيم الرزقية (الاقتصاد) ومجال القيم النظرية (العلوم وتطبيقاتها) ومجال القيم العملية (السياسة والقانون وتطبيقاهما) ومجال القيم الوجودية (الفلسفة والدين).
3 ـ والثالث يعالج آليات النجومية في ثانية النخبتين المقصودتين بالذات في المحاولة أعني النخبة الذوقية مع التركيز على استخراج بذرات نظرية الفن الإسلامية من حيث إن الفن هو البعد الرمزي من الفعل التاريخي الشامل بأبعاده القيمية الخمسة التي سنشير إليها في الفصل الثاني من هذا البحث.