كيف أصبحت العدالة الجنائية الدولية بين وهم القانون ويقين السياسة؟
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
أثير- د. عبد الله الحبيب عمار المحجوب، كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس
فكرة ضرورة معاقبة المتهمين بجرائم الحرب والجرائم ضد السلام وضد الإنسانية فكرة قديمة متجددة، وكانت محلا لاهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر الزمن، بالنظر إلى سمو ونبل مطلب تحقيق العدالة الجنائية الدولية، باعتباره المبدأ والغاية الكبرى من غايات القانون والنظم والشرائع.
كل تلك المحاكمات طغت عليها اعتبارات سياسية أبعدتها عن جادة معايير العدالة ليتوج بها المنتصر انتصاره على المهزوم. فحينما يكون الخصم هو الحكم، وحين يكون إقرار المسؤولية مفترضا قبل ثبوتها، وحين تكون التهم والعقوبات قد تم إعدادها من الخصم، وحين يكون الافتراض القائم هو أن المسؤولية عن جرائم الحرب والسلام هي فقط أفعال يمكن إسنادها لقادة دول مهزومة دون المنتصرة في الحرب، وحين تكون المصالح السياسية للدول المنتصرة فوق كل اعتبار، عندها وحينها فقط يمكن التساؤل عن أي عدالة جنائية دولية نتحدث؟، وبأي معيار نقيس؟ وإن لم يكن هناك بد من قول إزاء ذلك إلا أن السياسة كانت حاضرة ولعبت دورا سلبيا ضد منطق القانون والعدالة. فهل الجرائم المرتكبة وقت الحرب كانت فقط من جيوش دول مهزومة في الحربين؟ أم أن جيوش الحلفاء أيضا كانت قد ارتكبت جرائم من ذات النوع تستحق المساءلة والعقاب؟ ولعل استخدام القنبلة الذرية ذات التدمير الشامل في العام 1945 ضد مدينتي هيروشيما وناغازاكي التي أودت بحياة ما يقرب من 200,000 من السكان كانت من أهم الوقائع التي أغفلتها السياسة.
تلك التجارب لم يكن فيها لمبادئ العدالة والقانون أي حظ يذكر، لا من حيث الاعتداد بمبدأ استقلالية وحيادية المحكمة، ولا حيادية واستقلال أعضائها، التي هي من أهم ضمانات المحاكمة. أمام هذه الانتقادات وغيرها، لم يعد أي معنى للحديث عن هذه المحاكمات بأنها مثالٌ للعدالة الجنائية الدولية، إلا إن كان هناك معنى لحديث الظمآن عن السراب بأنه قد ارتوى من مائه حتى التضلع. هذا بالطبع ليس دفاعا عن الجرائم المرتكبة ولا عن مرتكبيها بقدر ما هو دفاع عن نواميس العدالة ومعاييرها.
المحاكم الجنائية الخاصة المشكلة بقرارات من قبل مجلس الأمن في مناسبات عديدة هي مثل آخر على طغيان السياسة على منطق العدالة والقانون. فهذه المحاكم بنيت على دوافع ومعايير سياسية لتحقيق مصالح دول ذات امتياز سياسي في مجلس سياسي للأمم المتحدة. المحكمة الجائية الدولية الدائمة المنِشأة بموجب اتفاق روما 1998 تئن هي الأخرى من وطأة الطغيان السياسي لمجلس الأمن وتدخله فيها بتوجيهها وتوظيفها سياسيا لخدمة مصالح سياسية لدول معينة بالمجلس. لقد منح نظام المحكمة سلطتين استثنائيتين على درجة عالية من الخطورة لمجلس الأمن تم توظيفهما سياسيا في مجال نظام الادعاء أمام المحكمة، الأمر الذي قوض استقلالية المحكمة وحيادها. السلطة الأولى هي سلطة الإحالة بموجب المادة (13) من ميثاق المحكمة، والثانية هي سلطة إرجاء التحقيق وإيقافه. وقد تم تبرير السلطة الأولى بأن مجلس الامن يحيل الحالة متصرفًا بموجب الفصل السابع إذا شكلت الحالة تهديدا للأمن والسلم الدوليين، وهذا بحد ذاته اعترافٌ بتدخل سلطة سياسية في عمل هيئة قضائية، بحيث إن لمجلس الأمن وحده ولاعتبارات سياسية بجثة سلطة تقدير ما إذا كانت الحالة المعروضة أمامه تهدد أو لا تهدد الأمن والسلم الدوليين بموجب المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة لتقرير إحالتها أو عدم إحالتها للمدعي العام للمحكمة. فالعبرة -حسب ما دلل عليه الواقع والممارسة-ليس بموضوعية الحالة وظروفها، بل بما يحققه تكييفها بأنها ترقى إلى مستوى التهديد ومن ثم إحالتها للمحكمة من مكاسب سياسية. فالمحكمة بهذا المعنى لم تعد إلا أداة لخدمة مصالح سياسية لدول معينة في المجلس على حساب الحق والعدالة. أما السلطة الأخرى الممنوحة لمجلس الأمن بموجب المادة (16) من نظام المحكمة فهي سلطة إيقاف التحقيق أو إرجائه في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ولا شك بأن ذلك من شأنه الإخلال بجدية الدعوى مع ما يترتب على ذلك من نتائج سلبية، طالما أن الدعوى قد يتوقف أمر تحريكها أو السير فيها أو إيقافها على قرار سياسي من هيئة سياسية. وأكثر من ذلك، وفي استغلال سياسي فاضح للمحكمة من بعض الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن والداعم الأكبر للمحكمة تمكنت من إعفاء عساكرها -بوسائل مختلفة- من الخضوع لولاية المحكمة بغض النظر عن الجرائم المرتكبة والتي تختص المحكمة بالنظر فيها. بسبب هذا الطغيان السياسي لمجلس الأمن وتدخله في عمل المحكمة تم حرمان الكثير من الضحايا وأقاربهم من طرق باب عدالة المحكمة الجنائية الدولية، ولذات السبب تم تقديم الكثير من المتهمين قرابين على مذبحة العدالة. حينما تملك جهة سياسية حق الاتهام والإحالة والتحكم بمصير الدعوى في أي مرحلة من مراحلها، لم يبق من مسوغ لتبرير العدالة الجنائية الدولية بعد فقدان أهم ضماناتها، ألا وهي استقلالية المحكمة… سوى وهم العدالة أمام يقين السياسة. وإذا استطاع المرء الغاء الشعور بالبحث عن العدالة حينها يبدو من السهل النظر اليها العدالة بأنها مجرد مغامرة تنسج خيوط قوانينها ليتخبط فيها الضعفاء ويعصف بها الأقوياء.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
عضو «صحة الشيوخ»: المسؤولية الطبية ضمانة لتحقيق العدالة في المنظومة
أكد النائب محمد صلاح البدري، عضو لجنة الصحة بمجلس الشيوخ، أن مشروع قانون المسؤولية الطبية يمثل نقلة نوعية في تطوير المنظومة الصحية، إذ يهدف إلى تحقيق التوازن بين حقوق المرضى ومكتسبات الأطباء، وضمان العلاقة العادلة بين مقدم الخدمة ومتلقيها، بما يتماشى مع القواعد الدستورية والقانونية.
مشروع قانون المسؤولية الطبيةوأوضح البدري، في بيان له اليوم، أنه كان يأمل إلغاء الحبس الاحتياطي للأطباء، إلا أن القانون في النهاية يتوافق مع مواد الدستور في هذا الشأن، منوها بأن القانون يعكس رؤية متكاملة لتنظيم العمل الطبي، إذ يضع إطارا واضحا للمسؤولية القانونية للطبيب، ما يضمن حماية المرضى من الأخطاء الطبية ويعزز شعورهم بالثقة في الخدمات الصحية المقدمة، مؤكدا أنه في الوقت نفسه يمنح الأطباء ضمانات قانونية لحمايتهم أثناء أداء عملهم، بشرط الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية.
ولفت إلى أن القانون يُشكِّل خطوة حاسمة نحو تحسين بيئة العمل الطبي، من خلال توفير الحماية القانونية للأطباء الملتزمين الذين يعملون وفقاً للضوابط المهنية، مؤكدا أن تلك الضمانات ستسهم في تقليل القلق لدى الأطباء وتتيح لهم التركيز على تقديم أفضل الخدمات للمرضى، مما يعكس التزام الدولة بتطوير القطاع الصحي.
التعامل مع القضايا الطبيةوشدد البدري على أن هذا القانون لم يقتصر فقط على حماية الأطراف المختلفة، بل يسعى أيضاً إلى وضع معايير وضوابط للمساءلة بما يضمن الشفافية والعدالة في التعامل مع القضايا الطبية.
ودعا جميع العاملين في القطاع الصحي إلى دعم القانون والعمل على إنجاحه، مشيراً إلى أنه يمثل أساساً قوياً لبناء منظومة صحية متكاملة تقوم على الإنصاف والاحترام المتبادل، لافتا إلى أن القانون يساهم في تعزيز مكانة الطبيب المصري وتحسين الخدمات الطبية المقدمة للمواطنين، مشيداً بجهود الدولة في إرساء قواعد العدالة في قطاع الصحة بما يخدم صالح الجميع.