أثير- د. عبد الله الحبيب عمار المحجوب، كلية الحقوق، جامعة السلطان قابوس

فكرة ضرورة معاقبة المتهمين بجرائم الحرب والجرائم ضد السلام وضد الإنسانية فكرة قديمة متجددة، وكانت محلا لاهتمام الفلاسفة والمفكرين عبر الزمن، بالنظر إلى سمو ونبل مطلب تحقيق العدالة الجنائية الدولية، باعتباره المبدأ والغاية الكبرى من غايات القانون والنظم والشرائع.

وقد شهد تاريخ العلاقات الدولية عددا من المحاكم الجنائية الدولية التي طغت عليها المصالح السياسية للدول على حساب مصلحة العدالة والقانون، فالدول المنتصرة الأطراف هي التي أسست لمحاكمة امبراطور ألمانيا غوليوم الثاني عن التهم المنسوبة إليه بجرائم ضد السلام وجرائم الحرب، حيث وضعت شرط المسؤولية ابتداءً في معاهدة فرساي عام 1919 قبل أن تكون هناك محاكمة حقيقية، والتهم الموجهة إليه وغيره من القادة الألمان وكذلك العقوبات وهيئة المحكمة العسكرية تم إعدادها من الخصم المنتصر ضد الخصم المهزوم. أما عن تجربة محاكمات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أجرتها الدول المنتصرة ضد قادة الدول المهزومة (محاكمات نورمبرغ وطوكيو) لم تكن هي الأخرى بمنأى عن غياب منطق العدالة وحضور السياسة. ففيما يتعلق بألمانيا، فإنه وبموجب عدد من التصريحات لقادة دول الحلفاء وبموجب اتفاقية لندن عام 1945م فقد تمت المحاكمة بعد تشكيل محكمة عسكرية من تلك الدول المنتصرة لمحاكمة المتهمين الألمان عن الجرائم المرتكبة بمناسبة الحرب. أما فيما يتعلق باليابان، فإنه في العام 1946م أصدر القائد العام لقوات الحلفاء في اليابان قرارا بإنشاء محكمة عسكرية لمحاكمة المتهمين اليابانيين بجرائم الحرب، وذلك استنادا إلى اتفاق سابق في مؤتمر بوتسدام بين الرؤساء ترومان وستالين وتشرشل بشأن المحاكمة التي عقدت بالفعل وأصدرت أحكامها.

كل تلك المحاكمات طغت عليها اعتبارات سياسية أبعدتها عن جادة معايير العدالة ليتوج بها المنتصر انتصاره على المهزوم. فحينما يكون الخصم هو الحكم، وحين يكون إقرار المسؤولية مفترضا قبل ثبوتها، وحين تكون التهم والعقوبات قد تم إعدادها من الخصم، وحين يكون الافتراض القائم هو أن المسؤولية عن جرائم الحرب والسلام هي فقط أفعال يمكن إسنادها لقادة دول مهزومة دون المنتصرة في الحرب، وحين تكون المصالح السياسية للدول المنتصرة فوق كل اعتبار، عندها وحينها فقط يمكن التساؤل عن أي عدالة جنائية دولية نتحدث؟، وبأي معيار نقيس؟ وإن لم يكن هناك بد من قول إزاء ذلك إلا أن السياسة كانت حاضرة ولعبت دورا سلبيا ضد منطق القانون والعدالة. فهل الجرائم المرتكبة وقت الحرب كانت فقط من جيوش دول مهزومة في الحربين؟ أم أن جيوش الحلفاء أيضا كانت قد ارتكبت جرائم من ذات النوع تستحق المساءلة والعقاب؟ ولعل استخدام القنبلة الذرية ذات التدمير الشامل في العام 1945 ضد مدينتي هيروشيما وناغازاكي التي أودت بحياة ما يقرب من 200,000 من السكان كانت من أهم الوقائع التي أغفلتها السياسة.

تلك التجارب لم يكن فيها لمبادئ العدالة والقانون أي حظ يذكر، لا من حيث الاعتداد بمبدأ استقلالية وحيادية المحكمة، ولا حيادية واستقلال أعضائها، التي هي من أهم ضمانات المحاكمة. أمام هذه الانتقادات وغيرها، لم يعد أي معنى للحديث عن هذه المحاكمات بأنها مثالٌ للعدالة الجنائية الدولية، إلا إن كان هناك معنى لحديث الظمآن عن السراب بأنه قد ارتوى من مائه حتى التضلع. هذا بالطبع ليس دفاعا عن الجرائم المرتكبة ولا عن مرتكبيها بقدر ما هو دفاع عن نواميس العدالة ومعاييرها.

المحاكم الجنائية الخاصة المشكلة بقرارات من قبل مجلس الأمن في مناسبات عديدة هي مثل آخر على طغيان السياسة على منطق العدالة والقانون. فهذه المحاكم بنيت على دوافع ومعايير سياسية لتحقيق مصالح دول ذات امتياز سياسي في مجلس سياسي للأمم المتحدة. المحكمة الجائية الدولية الدائمة المنِشأة بموجب اتفاق روما 1998 تئن هي الأخرى من وطأة الطغيان السياسي لمجلس الأمن وتدخله فيها بتوجيهها وتوظيفها سياسيا لخدمة مصالح سياسية لدول معينة بالمجلس. لقد منح نظام المحكمة سلطتين استثنائيتين على درجة عالية من الخطورة لمجلس الأمن تم توظيفهما سياسيا في مجال نظام الادعاء أمام المحكمة، الأمر الذي قوض استقلالية المحكمة وحيادها. السلطة الأولى هي سلطة الإحالة بموجب المادة (13) من ميثاق المحكمة، والثانية هي سلطة إرجاء التحقيق وإيقافه. وقد تم تبرير السلطة الأولى بأن مجلس الامن يحيل الحالة متصرفًا بموجب الفصل السابع إذا شكلت الحالة تهديدا للأمن والسلم الدوليين، وهذا بحد ذاته اعترافٌ بتدخل سلطة سياسية في عمل هيئة قضائية، بحيث إن لمجلس الأمن وحده ولاعتبارات سياسية بجثة سلطة تقدير ما إذا كانت الحالة المعروضة أمامه تهدد أو لا تهدد الأمن والسلم الدوليين بموجب المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة لتقرير إحالتها أو عدم إحالتها للمدعي العام للمحكمة. فالعبرة -حسب ما دلل عليه الواقع والممارسة-ليس بموضوعية الحالة وظروفها، بل بما يحققه تكييفها بأنها ترقى إلى مستوى التهديد ومن ثم إحالتها للمحكمة من مكاسب سياسية. فالمحكمة بهذا المعنى لم تعد إلا أداة لخدمة مصالح سياسية لدول معينة في المجلس على حساب الحق والعدالة. أما السلطة الأخرى الممنوحة لمجلس الأمن بموجب المادة (16) من نظام المحكمة فهي سلطة إيقاف التحقيق أو إرجائه في أي مرحلة من مراحل الدعوى، ولا شك بأن ذلك من شأنه الإخلال بجدية الدعوى مع ما يترتب على ذلك من نتائج سلبية، طالما أن الدعوى قد يتوقف أمر تحريكها أو السير فيها أو إيقافها على قرار سياسي من هيئة سياسية. وأكثر من ذلك، وفي استغلال سياسي فاضح للمحكمة من بعض الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن والداعم الأكبر للمحكمة تمكنت من إعفاء عساكرها -بوسائل مختلفة- من الخضوع لولاية المحكمة بغض النظر عن الجرائم المرتكبة والتي تختص المحكمة بالنظر فيها. بسبب هذا الطغيان السياسي لمجلس الأمن وتدخله في عمل المحكمة تم حرمان الكثير من الضحايا وأقاربهم من طرق باب عدالة المحكمة الجنائية الدولية، ولذات السبب تم تقديم الكثير من المتهمين قرابين على مذبحة العدالة. حينما تملك جهة سياسية حق الاتهام والإحالة والتحكم بمصير الدعوى في أي مرحلة من مراحلها، لم يبق من مسوغ لتبرير العدالة الجنائية الدولية بعد فقدان أهم ضماناتها، ألا وهي استقلالية المحكمة… سوى وهم العدالة أمام يقين السياسة. وإذا استطاع المرء الغاء الشعور بالبحث عن العدالة حينها يبدو من السهل النظر اليها العدالة بأنها مجرد مغامرة تنسج خيوط قوانينها ليتخبط فيها الضعفاء ويعصف بها الأقوياء.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

هآرتس: هذه هي الادعاءات الجنائية التي تلاحق مكتب نتنياهو

قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إن مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يواجه 3 تحقيقات، يتعلق أحدها باتهامات بالابتزاز، وآخر بالتلاعب بمحاضر الاجتماعات في وقت مبكر من حرب غزة، والثالث بتسريب معلومات استخباراتية.

وتساءلت الصحيفة عن مدى ترابط هذه التحقيقات وهل تشكل خطرا على المستقبل السياسي لنتنياهو.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: هذا ما يجب معرفته عن تاريخ دعم ترامب لإسرائيلlist 2 of 2واشنطن بوست: في شمال غزة.. مجتمع بأكمله بات الآن "مقبرة"end of list التلاعب بالمحاضر

وتحقق الشرطة منذ عدة أشهر -حسب الصحيفة- في شكوك مفادها أن مسؤولين في مكتب رئيس الوزراء حاولوا التلاعب بمحاضر مناقشات مجلس الوزراء التي عقدت أثناء الحرب على غزة، فضلا عن نصوص المكالمات الهاتفية التي أجراها صناع القرار، بما في ذلك نتنياهو، في الأيام الأولى للحرب.

وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أنه تم إجراء تغييرات على محاضر مناقشة مجلس الوزراء حول استعدادات إسرائيل لجلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية في لاهاي، إلا أنه لم يتم استجواب أي شخص حتى الآن، كمشتبه به في التورط في التلاعب بالمحاضر.

ونشأت الشكوك بعد أن اتصل آفي جيل، السكرتير العسكري السابق لنتنياهو بالمدعي العام جالي بهاراف ميارا قبل أكثر من 6 أشهر، بعد أن نبهه مسؤولون في مكتب رئيس الوزراء إلى أن زملاء له حاولوا التلاعب ببعض المحاضر في نهاية العديد من الاجتماعات السرية، وذلك ما نفاه المكتب ووصفه بأنه "كذبة كاملة، وهو أمر لم يحدث قط".

الابتزاز

وتضيف الصحيفة أنه خلال الأسبوع الماضي، أفادت تقارير أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أُبلغ قبل بضعة أشهر، بأن مكتب رئيس الوزراء يمتلك مواد شخصية تتعلق بضابط كبير في مكتب السكرتير العسكري الذي عمل مع مكتب رئيس الوزراء حتى وقت قريب.

ويجري التحقيق في الشكوك حول قيام مسؤولي مكتب رئيس الوزراء بابتزاز الضابط للحصول على محاضر الأيام الأولى للحرب والتلاعب بها، ووصف مكتب رئيس الوزراء التقارير بأنها "حملة شعواء أخرى ضد مكتب رئيس الوزراء أثناء الحرب، ونشر أكاذيب لا أساس لها من الصحة على الإطلاق".

وتساءلت الصحيفة عن احتمال وجود صلة بين التلاعب بالمحاضر والابتزاز، وردت عليه بالإيجاب، وقالت إن هناك شكوكا حول قيام أشخاص في مكتب رئيس الوزراء بابتزاز الضابط الكبير الذي خدم في مكتب السكرتير العسكري لمكتب رئيس الوزراء من أجل الوصول إلى الوثائق التي يزعم أنهم أرادوا تغييرها، والتي لم يكن من المفترض أن يكون موظفو مكتب رئيس الوزراء على علم بمحتواها على الإطلاق.

المعلومات المسربة

هناك شبهة أخرى قيد التحقيق حاليا وهي أن معلومات استخباراتية حساسة تم تسريبها من الجيش الإسرائيلي إلى مكتب رئيس الوزراء، ومن ثم تقديمها إلى وسائل الإعلام الأجنبية.

ويشتبه في أن أشخاصا داخل المؤسسة الدفاعية قاموا بشكل غير قانوني باستخراج هذه المعلومات من أنظمة الجيش وتسليمها إلى إيلي فيلدشتاين، الذي عمل متحدثا باسم مكتب رئيس الوزراء.

ويعتقد أن هذه المعلومات تم التلاعب بها ثم شقت طريقها إلى وسائل الإعلام الدولية بطريقة تخدم رواية مكتب نتنياهو، وقد اعتقل 4 أشخاص على ذمة القضية، هم فيلدشتاين و3 أشخاص لم تكشف أسماؤهم.

وتشير الشكوك في القضايا الثلاث ظاهريا -حسب الصحيفة- إلى موظفين من مكتب نتنياهو، وإلى نمط من محاولة التلاعب واستخدام المعلومات الحساسة من أجل خلق رواية تخدم رئيس الوزراء، مع أنه لا توجد أدلة في هذه المرحلة تربط نتنياهو بشكل مباشر بهذه التحقيقات.

مقالات مشابهة

  • كيف تعاملت الدولة مع المتورطين في تضليل العدالة.. القانون يجيب
  • إسرائيل تشكك بحيادية قاضية في المحكمة الجنائية الدولية
  • مسؤولة أممية: استخدام "إسرائيل" التجويع محظور بموجب القانون الإنساني
  • مسؤولة أممية: استخدام إسرائيل التجويع محظور بموجب القانون الإنساني
  • هذه غرامة عدم إستعمال الإنارة أوالإشارة 
  • عمرو دياب.. هل ستمحو المحكمة الجنائية مظهره المعتاد أمام جمهوره
  • قانون الإيجار القديم|تعديلات جديدة من المحكمة الدستورية تحقق العدالة للمستأجرين والملاك.. وخبير يكشف مميزاته
  • الجنائية الدولية تحقق مع مدعي المحكمة العام بـسوء السلوك الجنسي
  • التحقيق في قضية مدعي المحكمة الجنائية الدولية بسبب مزاعم تحرش
  • هآرتس: هذه هي الادعاءات الجنائية التي تلاحق مكتب نتنياهو