سوريا.. ما زال الشعب يريد إسقاط النظام
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
سوريا.. ما زال الشعب يريد إسقاط النظام
مهما عرفت البلاد من انحطاط لأوضاعها وأصابها من أنماط الردّة استبدادية أو حربية فإن الشعوب، عند أول فرصة سانحة، تعاود الانتفاض لا محال.
ستتواصل سيرورة الثورة، ما دامت قائمةً الأسباب البنيوية العميقة التي تسببت في انفجار البركان العربي بتفاعلها مع السياسات النيوليبرالية التي فاقمت نتائجها.
أوضاع اقتصادية ومعيشية لا تني تتدهور بينما تتوسع باستمرار الفجوة الهائلة القائمة بين الحكام العرب ومحاسيبهم من جهة، وسواد الشعب العامل في الجهة المقابلة.
الحرب الفتّاكة والمدمّرة أشعلها الذين فضّلوا «حرق البلد» على رحيل الأسد، وسعّرها بأموالهم من تعمّدوا حرف الثورة السورية عن مسارها الديمقراطي إلى حرب طائفية.
جاءت عودة النظام إلى حظيرة أنظمة الاستبداد العربية تكريساً لقبول تلك الأنظمة بما آلت إليه الأمور وتوقفها عن تمويل الجماعات التي تعيّشت بل واغتنت، من حالة الحرب.
منذ بداية «الربيع العربي» لم تكن الانتفاضة الكبرى التي عمّت المنطقة بالعربية منذ 2011 إلا بداية سيرورة ثورية طويلة لا بدّ أن تتواصل عبر الزمن مهما عرفت من انتكاسات.
* * *
استقرّت الأمور في الداخل السوري منذ بضع سنوات على قاعدة هيمنة نظام آل الأسد، مدعوماً من القوات الإيرانية وتوابعها ومن القوات الروسية، على نحو سبعين في المئة من أراضي البلاد.
وذلك بشبه تعايش سلمي مع سائر مناطقها: الجولان الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967؛ ومناطق الشمال الشرقي التي تسيّرها القوى الكُردية منذ أن بدأت الحرب الأهلية، وقد باتت مدعومة من قوات أمريكية منذ عام 2014؛ والمناطق الشمالية التي احتلها الجيش التركي بدءًا من عام 2016؛ ومنطقة إدلب الواقعة تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» حصراً منذ عام 2017.
ولا شك في أن استقرار الأمور هذا، وإن كان دوامه مستحيلاً، إنما كان ويبقى أفضل بكثير من إعادة اشتعال الحرب الفتّاكة والمدمّرة التي تسبّب فيها أولئك الذين فضّلوا «حرق البلد» على رحيل الأسد، وسعّرها أولئك الذين بأموالهم تعمّدوا حرف الثورة السورية عن مسارها الديمقراطي الأصلي وتحويلها إلى حرب طائفية تحت رايات دينية، بحيث انتقلت من صراع ضد همجية السلطة إلى صدام بين الهمجيات في حالة قصوى من «حرب الجميع على الجميع» التي وصفها فيلسوف القرن السابع عشر الإنكليزي توماس هوبس، في كتابه الشهير «اللفياثان».
وقد جاءت عودة نظام بشار الأسد إلى حظيرة الأنظمة الاستبدادية العربية تكريساً لقبول سائر تلك الأنظمة بما آلت إليه الأمور وتوقفها عن تمويل شتى الجماعات التي تعيّشت، بل واغتنت، من حالة الحرب.
إن هذه التطورات، وقد أعادت النظام السوري إلى شيء من الحالة الطبيعية ولو بحدود جليّة، والمقصود هنا حالة تطغى فيها احتياجات الحياة الاقتصادية على مقتضيات تفادي الموت قتلاً، إنما أعادت البلاد في الوقت نفسه إلى دينامية الثورة الاجتماعية والديمقراطية التي قطعها انحطاط الثورة التدريجي منذ ما يناهز عشر سنوات.
هذا وما كللنا نؤكد منذ بداية ما عُرف باسم «الربيع العربي» أن الانتفاضة الكبرى التي عمّت أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية منذ عام 2011، إنما لم تكن سوى بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد، لا بدّ من أن تتواصل عبر الزمن مهما عرفت من انتكاسات وانتصارات مضادة للثورة، ما دامت قائمةً الأسباب البنيوية العميقة التي تسببت في انفجار البركان العربي بتفاعلها مع السياسات النيوليبرالية التي فاقمت نتائجها.
فها أن سوريا تقدّم لنا خير إثبات لديمومة السيرورة، وهو إثبات ينضاف إلى الموجة الثورية الثانية التي شهدتها المنطقة في عام 2019، بل يزيد عنها قوة من حيث إن سوريا هي البلد الذي بلغت فيه هزيمة الثورة حدّها الأقصى والأكثر مأسوية.
فنرى سوريا اليوم بالرغم من كل مآسيها تعود إلى سلوك الدرب الكلاسيكي للانفجار الثوري كما شهدته معظم ساحات الانتفاضات بدءًا من «الربيع العربي». ويقوم السيناريو الثوري الذي بات معهوداً لدينا على مبادرة النظام القائم بإشعال نار الغضب الشعبي متجاوزاً قدرة الشعب على التحمّل، من خلال تطبيق إجراءات تقشفية تهدف إلى تقليص دور الدولة الاجتماعي طبقاً للوصفات التي يرشد إليها صندوق النقد الدولي منذ عقود عدة.
ففي منتصف الشهر الجاري، أزال النظام السوري الدعم الحكومي عن أسعار الوقود بما أدّى إلى ارتفاعها إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وقد ترافق الأمر بمزيد من انهيار العملة السورية وبالتالي مزيد من التهاب أسعار شتى المواد الغذائية، فضلاً عن الأدوية وغيرها من مستلزمات الحياة.
ولم يلطّف الأمر بتاتاً القرار الرئاسي برفع الحد الأدنى للأجور (الذي يبلغ أقل من 15 دولاراً بالشهر بسعر صرف السوق) ومضاعفة أجور موظفي الدولة (لاحظوا كيف أن القرارات البغيضة تصدر عن مجلس الوزراء والقرارات التي يعتقدون أنها ستملئ الناس غبطة وفرحاً تصدر عن الرئاسة). فقد فاق اشتعال الأسعار، وبكثير، الصدقة الرئاسية، التي جاء مفعولها عكسياً بالتالي إذ رأى فيها الرأي العام شتيمة واستجهالاً له.
فجاءت النتيجة على النحو المعهود: هبّة جماهيرية عمّت منطقة حوران، أي الجنوب السوري من تخوم الأردن إلى مشارف دمشق. فلم تنحصر الهبّة في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية، كما حصل في مناسبات سابقة خلال الأعوام القليلة الماضية بما فسّره بعض الناس تفسيراً طائفياً بغية التقليل من شأنه، بل انتشرت إلى محافظة درعا بما فيها مدينة نوى التي وقفت إلى جانب مدينة درعا في طليعة الثورة في عام 2011، وقد دفعت المدينتان ثمناً باهظاً لتمرّدهما. لا بل امتد الحراك الجديد إلى جوار العاصمة وحتى إلى المنطقة الساحلية، بما فيها مدينتا اللاذقية وجربة.
وإذا لم تشهد سوريا حتى الآن تظاهرات عملاقة كالتي عمت معظم المدن السورية في عام 2011 (بالمناسبة، قال بشار الأسد لمحطة «سكاي نيوز عربية» أن عدد المتظاهرين في عام 2011 «لم يتجاوز مئة ألف ونيف في أحسن الأحوال وفي كل المحافظات»!) فإن الحراك الجديد يتضمن عصياناً مدنياً وإضراباً عاماً، في حوران على الأقل. وقد عادت شعارات عام 2011 إلى الصدارة، لاسيما هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» والمطالبة برحيل رأس الدولة.
أما العبرة مما يجري في سوريا اليوم فهي أنه مهما عرفت البلدان من انحطاط لأوضاعها ومهما أصابها من أنماط الردّة، سواء أكانت على نحو استبدادي أم حربي، فإن الشعوب، عند أول فرصة سانحة، تعاود الانتفاض لا محال إزاء أوضاع اقتصادية ومعيشية لا تني تتدهور بينما تتوسع باستمرار الفجوة الهائلة القائمة بين الحكام العرب ومحاسيبهم من جهة، وسواد الشعب العامل في الجهة المقابلة.
*د. جلبير الأشقر كاتب وأكاديمي من لبنان
المصدر | القدس العربيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: سوريا ثورة الشعب السوري إسقاط النظام الربيع العربي القوات الروسية بشار الأسد الحكام العرب منذ عام عام 2011 فی عام
إقرأ أيضاً:
تقرير: أكثر من 30 ألف طفل سوري قتلوا منذ مارس 2011
أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل ما لا يقل عن 30 ألفا و293 طفلا سوريا منذ مارس/آذار 2011، منهم 225 طفلا قضوا جراء التعذيب، بينما لا يزال نحو 5300 طفل قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري.
جاء ذلك في تقريرها السنوي الـ13 عن الانتهاكات ضد الأطفال في سوريا، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للطفل.
وأكد التقرير، الذي يمتد على 39 صفحة، أن الأطفال في سوريا واجهوا تصاعدا كبيرا في حجم ونوعية الانتهاكات الجسيمة من قبل جميع أطراف النزاع.
وأسهمت هذه الانتهاكات في خلق بيئة غير آمنة تهدد أبسط حقوق الأطفال الأساسية وحياتهم اليومية.
فقد تعرّض الأطفال لأنواع متعددة من الانتهاكات التي طالت البالغين أيضا، بدءا من القتل والتشوهات الدائمة الناجمة عن الإصابات، مرورا بالاعتقال التعسفي الذي شمل مئات الأطفال، وانتهاء بالاختفاء القسري الذي تسبب في ترك آلاف الأطفال مجهولي المصير، بعيدين عن عائلاتهم لسنوات.
أطفال سوريون على الحدود السورية اللبنانية هربا من الحرب في لبنان (الفرنسية) تعذيب وعنفبالإضافة إلى ذلك، وثّق التقرير ممارسات التعذيب بأساليب متعددة، والتجنيد القسري لصالح الأطراف المتنازعة، والعنف الجنسي الذي يُعد من أبشع الانتهاكات. كما شملت الانتهاكات الحرمان من التعليم والخدمات الصحية الأساسية.
وقد رصد التقرير استمرار الانتهاكات الجسيمة بحق الأطفال خلال عام 2024 على يد مختلف أطراف النزاع، حيث شملت هذه الانتهاكات القتل، الإصابات الخطيرة، التشويه، التجنيد القسري، الاعتقال التعسفي، الاختفاء القسري، والتعذيب. تؤكد الحوادث المسجلة تفاقم المعاناة اليومية للأطفال وتزايد الآثار المدمرة للنزاع على حياتهم ومستقبلهم.
وأفاد التقرير بأنّه منذ عام 2018، وثّقت الشبكة قيام النظام السوري بتسجيل مختفين قسريا كمتوفَّين في السجلات المدنية دون تقديم أي توضيحات بشأن سبب الوفاة أو تسليم الجثث إلى ذويهم.
وكشفت وثائق جديدة لعام 2024 عن تسجيل ما لا يقل عن 50 طفلا مختفيا قسريا كمتوفّين في السجل المدني بين عامي 2018 و2024.
قوانين وانتهاكاتعلى الرغم من وجود ترسانة من القوانين الدولية المصممة لحماية حقوق الأطفال، أكد التقرير استمرار الانتهاكات بحقّهم في سوريا منذ أكثر من 13 عاما.
ودعا التقرير جميع أطراف النزاع إلى الالتزام بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، وبما ورد في اتفاقية حقوق الطفل ووقف استهداف الأطفال ومناطقهم السكنية.
وجّه التقرير نداء إلى المجتمع الدولي ومجلس الأمن لاتخاذ إجراءات عاجلة تشمل فرض عقوبات على الأفراد والجهات المسؤولة عن الانتهاكات ضد الأطفال.
كما أوصى التقرير بمجموعة إضافية من الإجراءات لتحسين أوضاع الأطفال المتضررين وضمان حقوقهم الأساسية، مع التشديد على أهمية المساءلة الدولية للجهات المنتهكة.