منذ أن رفع ترامب قلمه الذي اعتاد أن يوقع به قراراته الغريبة بإزاء مكتبه الفخم ليقارن بين مساحة إسرائيل التي بدت له صغيرة جدّا بالنسبة إلى مساحة الشرق الأوسط، أصبحت مخاوف توسعها لتقضم مساحات من دول عربية مجاورة حقيقة ماثلة، وغدا مشروع دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات مطروحا للتنفيذ، حتى يخرج من دائرة الحلم الصهيوني إلى فضاء العلاقات الدولية والسياسة الخارجية بين الولايات المتحدة والدول العربية.



لا يكتفي ترامب بالتخيلات الوهمية، إنه يفضل عليها حقائق الواقع الذي يصنعه بأسلوب فج معهود ووقاحة لا يستحي أن يفرضها طريقة عقلانية، على العالم أن يرضى بها حتى وإن لم تكن معقولة، فهو لا يؤمن بالعقل من الناحية الأسلوبية بل بما يحكمه من موازين ربح وخسارة.

وطالما يؤمن ترامب بغلبة "الحقّ اليهودي" على ما سواه من المُثل، فإنّ الإنسان اليهودي الذي يسيطر على المال في أمريكا أكبر اقتصاد في العالم لا يمكن مقارنته بما عداه من البشر الذين عليهم أن يرضوا بحظهم في الترتيب العرقي، ويفسحوا الطريق أمام أسياد العالم حتى يحصلوا على ما يريدون من أراضي تكفي تعدادهم السكاني فأراضيهم شاسعة جدا، حتى ولو أدى ذلك إلى تساقط الآلاف من بينهم فهم بمئات الملايين.

كان تنفيذ إسرائيل لعملية التهجير في سياق مخاتلتها للسلطة الفلسطينية عبر وهم "الأرض مقابل السلام"، عبارة عن هدف استراتيجي لطموح استعماري توسعي رصدت له وسائل تكتيكية الغرض منها فرض الواقع الإسرائيلي بالتدريج حتى لا يشعر الفلسطينيون بوقوعه فجأة، على غرار سياسات جدار الفصل العنصري وقضم الأراضي والاستيلاء عليها وإحلال المستوطنين وتفتيت الضفة وحصار غزة، وتعقيد يوميات الفلسطينيين بين العمل ومشاغل الحياة التي جعلتها المعابر والحواجز والمنافذ مهينة وشبه مستحيلة
بالنسبة لإسرائيل فإنّ تنفيذها لما يفكر به ترامب اليوم بدأ قبل ثلاث عقود، وتحديدا منذ اعترافها المخادع بسلطة أوسلو وبحق الفلسطينيين بدولة مستقبلية في إطار وعود زائفة، وإن كانت قد حاولت طرح مشاريع للتهجير قبل هذا التاريخ في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات في سيناء، بل إنّ احتلالها للأراضي الفلسطينية وتوسعها عليها كان يجري بالموازاة مع تهجير الفلسطينيين وإجبارهم على اللجوء في أصقاع العالم.

لقد كان تنفيذ إسرائيل لعملية التهجير في سياق مخاتلتها للسلطة الفلسطينية عبر وهم "الأرض مقابل السلام"، عبارة عن هدف استراتيجي لطموح استعماري توسعي رصدت له وسائل تكتيكية الغرض منها فرض الواقع الإسرائيلي بالتدريج حتى لا يشعر الفلسطينيون بوقوعه فجأة، على غرار سياسات جدار الفصل العنصري وقضم الأراضي والاستيلاء عليها وإحلال المستوطنين وتفتيت الضفة وحصار غزة، وتعقيد يوميات الفلسطينيين بين العمل ومشاغل الحياة التي جعلتها المعابر والحواجز والمنافذ مهينة وشبه مستحيلة، وكل ذلك كان يصب في اتجاه "تطفيش" الفلسطيني بعد أن ييأس من إمكانية تغير أوضاعه نحو الأفضل.

طوفان الأقصى لم يكشف مسكّن "الكيان السياسي" الوهمي الذي كانت إسرائيل تحقنه في وريد الشعب الفلسطيني المنوَّم على هدهدات اتفاقيات أوسلو فحسب، بل إنه أحدث صدمة كبيرة على مستوى الوعي الجمعي المخدّر ما جعله يشعر بالكمّ الكبير من وخزات إبر المهدّئ وألمها على كامل جسده، لقد جعلته تلك الحُقن يستسلم لواقع إسرائيلي على أرض فلسطينية يريد أن يسحبها من تحت أقدامه بعد أن يقتلعه منها كما يفعل بأشجار الزيتون.

ولعل هذه الاستفاقة هي ما حدا بإسرائيل لأن تكشف عن حقيقة خطتها وتفضح عن نيتها المبيتة في تهجير الفلسطينيين، بعد أن كشرّ اليمينيون المتطرفون عن أنيابهم وأظهروا حقيقتهم في وضع يدهم على كلّ شبر من فلسطين انتقاما من مفجّري عملية الطوفان، ليتحوّل تفكيرهم الجاد منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من خطّة "تهجير بالتقطير" إلى البحث عن خطة لترحيل شامل وممنهج لجميع فلسطينيي الضفة والقطاع في مدة زمنية قصيرة جدا، وليس من المستبعد أن يحدث الشيء نفسه مع فلسطينيي الداخل إذا ما نجحت معهما.

الاستفاقة هي ما حدا بإسرائيل لأن تكشف عن حقيقة خطتها وتفضح عن نيتها المبيتة في تهجير الفلسطينيين، بعد أن كشرّ اليمينيون المتطرفون عن أنيابهم وأظهروا حقيقتهم في وضع يدهم على كلّ شبر من فلسطين انتقاما من مفجّري عملية الطوفان، ليتحوّل تفكيرهم الجاد منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، من خطّة "تهجير بالتقطير" إلى البحث عن خطة لترحيل شامل وممنهج لجميع فلسطينيي الضفة والقطاع في مدة زمنية قصيرة جدا
على المستوى الإقليمي حرص الكيان الصهيوني على جرّ مزيد من الدول العربية نحو تطبيع علاقاتها معه، ليس فقط كمحاولة للقفز على خطة السلام التي اشترطت حل الدولتين، وبالتالي خلق بيئة إقليمية جديدة ترضخ لواقع إسرائيلي جديد، بل أيضا حتى ترضى الدول المطبعة بتبعات هذا الواقع والتي من بينها اضطرار الفلسطينيين إلى اللجوء خارج أراضيهم المحتلة من أجل فرضه.

وبالتالي لم يكن تطبيع تلك الدول العربية في أحدث موجة من موجاته فقط عبارة عن مد علاقات طبيعية مع الكيان الصهيوني، بل إنه دفع بكل دولة تبنته لأن تنشغل بقضاياها الأمنية بعيدا عن الأخرى، إنه شرّ مضاعف لمشروع الدول القومية الذي أنتجه الاستعمار، وعلى هذا الأساس فإنّ مفعول علاقات التطبيع هو مكمل لما أحدثته اتفاقيات "سايكس بيكو" والحدود المتوارثة عن الاستعمار من تمزيق في جسد الأمة العربية.

غير أنّ العائق أمام هذا المخطط هو سلاح المقاومة بالدرجة الأولى وسكان غزة والضفة لكونهم الحاضنة الشعبية ورصيد المقاومة للتجنيد، فالتهجير يروم تفكيك هذه المعادلة بما يؤدي إلى تجفيف منابع الصمود والحيلولة دون حصول المقاومة على رافد من القوة البشرية وإسناد لوجستي لطالما ضمنه لها سكان غزة، ومن ثمّ كشف الغطاء عنها، وعمليا حتى لو بقيت المقاومة لوحدها بعد التهجير فإنها ستقاتل دون مشروع دولة في ظل غياب الشعب.

وإذا كانت عملية تسليم حماس لسلاحها أو تحييده، كما يسعى إليه ترامب ونتنياهو، يعني آليا تصفية القضية الفلسطينية، فإنّ التهجير الذي يعتبر مرحلة سابقة عنها، يعتبر أعلى مراحل التطبيع، قياسا على عبارة لينين "الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية"، فهو لن يتمّ إلّا بتنسيق مع دول الجوار المطبعة التي لن توافق فقط على استقبال الكتلة البشرية المهجرة قسرا من غزة والضفة على أراضيها، بل إنها ستتواطأ في عملية طرد السكان إن لم تقم بتنسيق الجهود وتسهيل العملية مع جيش الاحتلال.

كيف لم يدر بخلد المطبعين منذ زيارة السادات لتل أبيب إلى غاية عقد اتفاقيات أبراهام أنّ من يذعن للتطبيع سيقبل في النهاية بالتهجير؟ لو أنّ الثور لم يفرّ من حظيرة البقر لما ذهبت بعد عام وراءه الحظيرة مثلما أخبرنا الشاعر أحمد مطر، أما وقد وقعت الفأس في الرأس وطبّع من طبّع فلا أقل من أن تعود جميع الثيران إلى الحظيرة ويوقن كلّ من بها أنّ التهجير لن يوقفه سوى يقينٌ صادق بجدوى سلاحٍ وذخيرة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب إسرائيل الفلسطينيين تهجير إسرائيل فلسطين تهجير ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بعد أن

إقرأ أيضاً:

القومي لحقوق الإنسان يطلق المؤتمر الدولي لمواجهة تهجير الفلسطينيين في غزة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

انطلقت فعاليات المؤتمر الدولي لرفض جريمة التهجير القسري ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحتل ودعم صمودهم، الذي ينظمه المجلس القومي لحقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، بالشراكة مع الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان في فلسطين، ومركز الميزان لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، واتحاد المحامين العرب، والتضامن الإفريقي الآسيوي.

يشارك في المؤتمر 80 من قادة المنظمات الحقوقية والبرلمانيين والإعلاميين والمفكرين من مختلف الدول، بهدف التصدي لسياسات التهجير القسري في غزة، وطرح آليات قانونية وإنسانية لمواجهتها على المستوى الدولي.

يرتكز المؤتمر على محاور رئيسية تناقش التداعيات القانونية والإنسانية للتهجير القسري التي تتمثل في دعم الاستجابة الإنسانية وتعزيز المساعدات، وضمان استمرار تدفق المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة ودعم صمود السكان، وتفعيل دور وكالات الأمم المتحدة، لا سيما وكالة الأونروا، في تقديم الدعم اللازم لنحو 60% من سكان غزة والضفة الغربية، تعزيز المساءلة الدولية والمحاسبة الجنائية، وتفعيل اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين وتحميل الاحتلال مسؤولية الأضرار التي لحقت بالسكان الفلسطينيين، ودعم المحكمة الجنائية الدولية في ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات بحق الفلسطينيين، وتوفير الأدلة والوثائق القانونية اللازمة لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب، إعادة إعمار غزة والتصدي لسياسات التدمير الممنهج، دعم المبادرات المصرية لإعادة إعمار غزة، بما يتيح للفلسطينيين إعادة بناء القطاع واستعادة مقومات حياتهم.

كما تتضمن محاور المؤتمر حشد الجهود الدولية لمواجهة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تقويض سبل العيش في غزة ومنع وصول المساعدات الإنسانية، تقرير المصير وإنهاء الاحتلال، التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود يونيو 1967، ضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، ورفض أي محاولات لفصل غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.

يشارك في المؤتمر ممثلون عن المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ومنظمات المجتمع المدني العربية والدولية، إلى جانب دبلوماسيين من السفارات العربية والأجنبية في القاهرة، وبرلمانيين وإعلاميين، ما يعكس اهتمامًا متزايدًا بمواجهة سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي تستهدف اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وطمس هويتهم الوطنية.

وسيؤكد المؤتمر على ضرورة تحرك المجتمع الدولي لمناهضة التهجير القسري للفلسطينيين ورفض كافة أشكال التطهير العرقي، مع التشديد على الالتزام بالقرارات الدولية التي تضمن حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف، وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير، وإقامة دولتهم المستقلة، وعودة اللاجئين إلى ديارهم.

مقالات مشابهة

  • السيسي ورئيس وزراء بريطانيا يؤكدان سرعة البدء في إعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين
  • مسيرات في الأردن رفضاً لمخططات تهجير الفلسطينيين
  • "فتح": مصر أحبطت مخطط تهجير الفلسطينيين بحزم وحسم
  • فتح: مصر أحبطت مخطط تهجير الفلسطينيين بحزم وحسم
  • القومي لحقوق الإنسان يطلق المؤتمر الدولي لمواجهة تهجير الفلسطينيين في غزة
  • مصر والأردن تُسقطان مخطط تهجير الفلسطينيين بـ«الدبلوماسية الهادئة»
  • ما الذي حققه نتنياهو من تعطيل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين؟
  • تهجير الفلسطينيين وموقف مصر.. ثوابت راسخة
  • أبو الغيط: تهجير الفلسطينيين مرفوض قولًا واحدًا