ترجمة: حافظ إدوخراز

«الأنسولين»، انتظر الناس هذا الاكتشاف بشغف، وقبل إثبات دور هذا الهرمون واستخدامه كعلاج، لم يكن هناك أي أمل لمرضى السكري من النوع الأول في البقاء على قيد الحياة، باستثناء لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال (RNA) ضد مرض كوفيد 19، وقد كان من النادر أن تسفر الأبحاث عن منتج متاح للمرضى بهذه السرعة.

ولم تُمنح جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب أبدا بعد فترة وجيزة من اكتشاف ما، كما كان الحال عام 1923 بالنسبة للأنسولين. لا يزال أحد مكتشفي الأنسولين، الكندي فريدريك بانتينغ (Frederick Banting)، أصغر الحائزين على هذه الجائزة المرموقة.

نعرض في هذا المقال القصة المذهلة لهذا الاكتشاف، الذي نحتفل بعيده المائة هذا العام..

مرض قديم يجعل طعم البول حلوا

تشير النصوص الطبية القديمة التي عُثر عليها في عدة حضارات إلى وصف الأعراض الرئيسية لداء السكري كما يلي: العطش الشديد، وكثرة التبول، والطعم الحلو للبول. وقد ذكر المصريون القدامى ذلك في مخطوطة يعود تاريخها إلى عام 1550 قبل الميلاد عثر عليها في تابوت في مدينة الأقصر، بالإضافة إلى كتابات في الطب عند الهنود والصينيين. كما أشارت كتابات إغريقية وكتاب القانون للطبيب الفارسي ابن سينا إلى ملاحظات بخصوص مرضى يعانون من داء السكري. وفي القرن السابع عشر، قام طوماس ويليس، طبيب ملك إنجلترا تشارلز الأول، بالتمييز بين الأنواع المختلفة لداء السكري. غير أن المعرفة العلمية بهذه الحالة المرضية لم تبدأ حقا سوى في القرن التاسع عشر. وقد قام الكيميائي الفرنسي ميشيل أوجين شيفرول في عام 1815 بتحديد نوع السكر الموجود في بول مرضى السكري، ووجد أنه السكر نفسه الموجود في العنب والذي سُمّي بُعيد ذلك بـ «الجلوكوز». وفي عام 1855، بيّن الطبيب الفرنسي كلود برنار أن بإمكان الكبد أن ينتج الجلوكوز من الجليكوجين (glycogène). وبعد أربعة عشر عاما، أي في عام 1869، قام شاب ألماني يعمل في برلين، يدعى بول لانغرهانس في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه في الطب والتي كرّسها لدراسة البنكرياس من الناحية التشريحية، بتمييز أكوام من الخلايا الصغيرة في هذا العضو، لكن من دون أن يفهم وظيفتها.

وفي عام 1889، قام باحثان يعملان في مختبر الطبيب الألماني بغنهارت نونين بجامعة ستراسبورج، وهما الطبيب وعالم الفيزولوجيا الألماني أوسكار مينكوفسكي والطبيب الألماني يوزيف فون ميرينج ، بإجراء التجربة الأساسية التي مكّنت من تحقيق تقدم كبير، فقد نجحوا في استئصال البنكرياس عند كلب، مما سبّب لديه بيلة سكرية شديدة - زيادة حادة في تركيز الجلوكوز في البول-. ومن خلال تكرار التجربة على كلاب أخرى، أثبت مينكوفسكي أن إزالة البنكرياس يخلق نموذجا شبيها بمرض السكري. وعلاوة على ذلك، فإذا تمت زراعة قطعة من البنكرياس في بطن الكلب الذي استؤصل هذا العضو منه قبل ذلك، تختفي البيلة السكرية. واستُنتج بالتالي أن البنكرياس يحتوي على مادة قادرة على تقليل تركيز الجلوكوز المرتفع الذي لوحظ عند مرضى السكري.

غير أن مينكوفسكي وفون ميرينج لم يكونوا يدرون أي الخلايا تنتج هذه المادة في البنكرياس، ولم يُعرف مصدرها سوى بعد بضع سنوات فقط، في عام 1893، حينما اقترح إدوارد لاغيس الطبيب الفرنسي والأستاذ بكلية الطب في جامعة ليل، أن «جزر لانغرهانس» (الجزر البنكرياسية) كانت مصدر هذا «الإفراز الداخلي» للبنكرياس، وهو إفراز يتدفق في الدم وبإمكانه أن ينظم تركيز الجلوكوز في البول والدم. إننا مدينون أيضا لـلأستاذ لاغيس بمصطلح «الغدد الصماء» بالنسبة لهذا النوع من الإفرازات الداخلية.

وأُطلق على المادة التي تفرزها جزر لانغرهانس اسم «الأنسولين» لأول مرة في عام 1909 من قبل عالم الفيزيولوجيا البلجيكي جون دو ماير. وفي مطلع القرن العشرين هذا، اقترب العديد من الباحثين من اكتشاف الأنسولين، إما لأنهم وُفّقوا في استخلاص إفرازات بنكرياسية قادرة على تقليل تركيز الجلوكوز في البول أو الدم، أو لأنهم حاولوا إجراء تجارب على الإنسان. ومن بين هؤلاء الباحثين برز على وجه الخصوص، الفرنسي أوجين غليه، والألماني جورج تسوتسر، والأمريكيون إرنست سكوت ، وإسرائيل كلاينر، وجون ريموند مورلين - الذي اكتشف عام 1923 الهرمون الآخر الذي يفرزه البنكرياس، وهو الجلوكاجون (glucagon) – أو الروماني نيكولاس بوليسكو ، الذي عمل في باريس في مختبر الطبيب الأخصائي في داء السكري إتيين لانسرو. ولكن نظرا لأن مستخلصاتهم لم تكن نقية بما يكفي أو لأنها كانت مصحوبة بآثار جانبية خطيرة، فإن الدراسات الأولى على البشر لم تسفر عن أي نتائج.

ملحمة تورونتو

لم يكن هناك ما يشير إلى أن الاكتشاف سيأتي من كندا، ولقد كان من المدهش أيضا السرعة التي تم بها هذا الاكتشاف (تسعة أشهر) من قبل باحثين لم يكونوا أطباء أخصائيين في داء السكري. هذه القصة الرائعة هي قصة فريدريك بانتينج وتشارلز بست وجون ماكلاود وجيمس كوليب.

ولد فريدريك بانتينج في مزرعة على بعد 90 كيلومترا شمال غرب تورونتو. درس الطب في جامعة تورونتو، وتطوع خلال الحرب العالمية الأولى. وتم تعيينه عام 1918 في مستشفى خلف الخنادق في مدينة كومبريه (شمال فرنسا)، حيث مارس الجراحة الاستعجالية قبل أن يتعرض لإصابة في سبتمبر من العام نفسه. وبعد عودته إلى كندا، لم يتمكن من العثور على وظيفة في مستشفى مدينة تورونتو، فقرر الاستقرار في مدينة لندن الكندية حيث توجد جامعة ويسترن أونتاريو. لم يكن لديه عدد كافٍ من المرضى فشغل بالموازاة مع ذلك منصبا تدريسيا بدوام جزئي في مختبر فريدريك ميلر.

كان من المقرر أن يلقي بانتينج محاضرة في الثلاثين من شهر نوفمبر 1920 عن عملية أيض الكربوهيدرات (السكريات). فانغمس في قراءة مقالة كتبها الاختصاصي الأمريكي في علم الأمراض من جامعة مينيسوتا، موزيس بارون، حول العلاقة بين جزر لانغرهانس وداء السكري، والتي قدمت عرضا تذكيريا بالبيانات التي تم الحصول عليها عند الحيوانات، وعند البشر بخصوص ضبط نسبة السكر في الدم. وبعد إلقاء محاضرته، سأل بانتينج، الذي كان منبهرا بهذه المقالة، ميلر إن كان بإمكانه العمل على هذا الموضوع في مختبره. ونظرا لأن داء السكري لم يكن موضوع أبحاثه، فلقد اقترح عليه ميلر أن يتصل بأستاذ إسكتلندي وصل إلى جامعة تورونتو عام 1918، ويتعلق الأمر بجون ماكلاود، المتخصص في الكربوهيدرات.

استقبل هذا الأخير الجرّاح الشاب دون كثير من الحماس، لكنه وبسبب إلحاح بانتينج، قبِل في نهاية الأمر أن يأتي لإجراء تدريب داخلي في مختبره خلال صيف عام 1921. كما أتاح له إمكانية الحصول على المساعدة من طالب شاب هو تشالز بست، وقدّم لهما مساحة صغيرة للعمل واثني عشر كلبا بغرض إنجاز عمليات استئصال البنكرياس.

استئصال البنكرياس، وبعد؟

شرع بانتينج وبست في العمل معا في 17 مايو 1921، كان يجب عليهم أولا تنظيف المختبر الصغير المليء بالغبار، وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن في المدينة متجر حقيقي للحيوانات الأليفة يتمتع بظروف صحية جيدة للاعتناء بالكلاب؛ وفوق هذا، تعرضت تورونتو لموجة حرارة شديدة خلال صيف عام 1921. وفي ظل هذه الظروف، باءت التجارب الأولى بالفشل. أرسل الشابان عملهما إلى ماكلاود، الذي كان قد سافر إلى مسقط رأسه في إسكتلندا لقضاء الصيف. وعندما عاد في سبتمبر، دفعت بعض النتائج المشجعة بانتينج وبست إلى مواصلة عملهما. كان بانتينج مسؤولا عن الجراحة بينما تولّى بست مهمة تنقية مستخلصات البنكرياس.

وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر عام 1921، قرر الباحثان خلال اجتماع في المختبر أن يهتموا بمدة بقاء الحيوانات على قيد الحياة بعد استئصال البنكرياس بحسب المستخلصات البنكرياسية التي تُحقن بها لاحقا. طرأت على بال بانتينج فكرة استخدام البنكرياس المستأصل من أجنة العجول التي كان يتم الحصول عليها من المسلخ. في الواقع، وبالإضافة إلى «الإفراز الداخلي» لجزر لانغرهانس، ينتج البنكرياس «إفرازا خارجيا» يتمثل في عصارة البنكرياس التي تصل إلى الجهاز الهضمي على مستوى الاثنا عشر (duodenum) وتسهم في عملية هضم الطعام. إلا أن أنزيمات هذا الإفراز الخارجي، مثل التربسين (trypsine)، القادرة على تدمير الإفراز الداخلي لجزر لانغرهانس التي تنظم نسبة السكر في الدم، تكون نشيطة فقط بعد الولادة. لذلك تم افتراض أن استخدام بنكرياس الجنين سيمنع هذا التدمير المحتمل.

وباستخدام الكحول والحمض، تمكن بست وماكلاود من إدخال تحسينات على عملية تحضير المستخلصات الأكثر نشاطا، غير أنها لم تكن نقية بعدُ بشكل كافٍ. وعلى الرغم من ذلك، وحتى في ظل هذه الظروف، حصلوا على نتائج حاسمة في غضون شهر واحد، حيث أظهرت التجارب أن الكلب الذي يُصاب بداء السكري بعد استئصال البنكرياس يمكن أن يعيش لعدة أسابيع عندما يتم إعطاؤه مستخلصات بنكرياسية نقية مأخوذة من أجنة العجول. كما أنهم قد لاحظوا أن أنزيمات الإفراز الخارجي لا تمنع تأثيرات الأنسولين، وبالتالي يمكنهم العمل على بنكرياس الأبقار الذي يسهل الحصول عليه.

وأثناء هذه الفترة أيضا، وصل عالم الكيمياء الحيوية الشهير جيمس كوليب إلى المختبر لقضاء سنة كاملة على سبيل إجازة التفرغ العلمي. ولقد كان إسهامه في اكتشاف الأنسولين كبيرا. فقد أجرى اختبارات على الأرانب من أجل تقييم فعالية المستخلصات وتركيز الجليكوجين في الكبد واحتراق الكربوهيدرات، كما أنه طوّر طرائق جديدة لقياس الجلوكوز في الدم. وأدّت مهاراته في الكيمياء الحيوية إلى تحسن كبير في تنقية مستخلصات البنكرياس وفعاليتها.

عُقد مؤتمر الجمعية الأمريكية للفيزيولوجيا في الثلاثين من ديسمبر عام 1921 في جامعة ييل في نيوهيفن. وعرض خلاله بانتينج النتائج الأولى التي تم الحصول عليها عند الحيوانات على مستوى الإفراز الداخلي للبنكرياس. ولأنه ربما كان متخوفا ولم يكن متحدثا ممتازا، فهو لم يتمكن من الإجابة بوضوح على الأسئلة التي طرحها عليه أطباء السكري البارزون والذين كانوا موجودين في القاعة. فكّر ماكلاود، باعتباره مديرا للمختبر، في مساعدته من خلال التدخل لكنه أفرط في استعمال كلمة «نحن». لقد كانت هذه المحطة مهمة جدا، لأنه منذ ذلك الوقت، أصبحت العلاقات بين بانتينج وماكلاود مؤسفة، حيث ألقى بانتينج باللوم على ماكلاود لعدم الاعتراف بعمله وفقا لما ذكره كاتب سيرة بانتينج المؤرخ مايكل بليس (Michael Bliss).

إنقاذ طفل واحد، ثم ستة

وفي يناير من عام 1922، أي بعد تسعة أشهر من الأبحاث الأولى لبانتينج وبست، تم استخدام مستخلصات البنكرياس المأخوذة من البقر عند البشر. وفي الحادي عشر من يناير، تلقى الطفل ليونارد طومسون البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما، الذي كان يعاني من النوع الأول من داء السكري في مرحلته النهائية، المستخلصات الأولى التي أعدّها بانتينج وبيست. وعلى الرغم من خفض معدل السكر في الدم بنسبة 25٪، فإن النتائج لم تكن مقنعة، خاصة وأن الحقن تحت الجلد قد تسبّب في إحداث التهابات صديدية. طلب ماكلاود من كوليب تحضير مستخلصات جديدة وفقا للتقنية التي طورها هذا الأخير بشكل مستقل عن بست من خلال تبخّر الكحول. وفي الثالث والعشرين من يناير، أُعطيت هذه المستخلصات للصبي الصغير فحصلت المفاجأة. انخفض السكر في الدم على نحو حاد وسريع، ووصل تركيزه إلى مستواه الطبيعي، فاستعاد الصبي نشاطه. وعلى وجه السرعة عولج ستة أطفال آخرين بالطريقة نفسها والنجاح ذاته. نقلت وسائل الإعلام الخبر، حتى أن بانتينج قد ظهر على غلاف مجلة تايم في أغسطس من عام 1923.

ومنذ أن شاع الخبر بدأت طلبات المستخلصات البنكرياسية تتقاطر على فريق تورونتو من جميع أنحاء العالم. ولذلك فقد كان لزاما التفكير بسرعة في تسويق وتوزيع الأنسولين. كُلّف مختبر كونوت (Connaught)، الملحق بجامعة تورونتو، بإنتاجه وتم إبرام اتفاقية مع شركة إلي ليلي (Eli Lilly and Company) لتطويره في الولايات المتحدة. تم الحصول على براءات الاختراع، لكن بانتينج وماكلاود قد رفضا الحصول على أي تعويض بالنظر إلى أنهما طبيبان ولأن هذا الاكتشاف يجب أن يكون لصالح البشرية؛ سُجلت براءة الاختراع في كندا باسم بست وكوليب، لكن اسم بانتينج سيُضاف إلى براءة الاختراع في الولايات المتحدة.

غير أن حدثا مؤسفا قد وقع في ربيع عام 1922 وأدى إلى إبطاء مسار فريق تورونتو. إذ في الوقت الذي أصبح فيه الطلب على الأنسولين ملحّا على نحو متزايد، لم يعد بإمكان كوليب إنتاج ما يكفي منه. لقد استغرق الأمر عدة أسابيع قبل أن يتزود مختبر كونوت وشركة إيلي ليلي بأجهزة تبخّر جديدة تسمح بإنتاج كميات أكبر من المستخلصات.

ومن جانب آخر، أقدم بانتينج الغاضب من عدم إشراكه بشكل مباشر كطبيب في التجارب السريرية التي أُجريت في مستشفى الأطفال في تورونتو، على إنشاء عيادته الخاصة المتخصصة في داء السكري بمعية صديق طفولته الطبيب جو غيلكريست (Joe Gilchrist)، وهو نفسه مريض بداء السكري. أخذ بست على عاتقه مسؤولية إنتاج الأنسولين في مختبر كونوت، في حين أن كوليب قد عاد إلى جامعة ألبرتا وظل بعيدا عن الأنسولين.

وفي خريف عام 1922، قامت شخصيات مهمة بزيارة ماكلاود. من بينها هنري ديل، مدير قسم الكيمياء الحيوية وعلم الصيدلة في المعهد البريطاني للأبحاث الطبية، (والذي سيحصل على جائزة نوبل لعام 1936 بفضل اكتشافه النقل الكيميائي للنبضات العصبية)؛ ومن هذه الشخصيات أيضا الدنماركي أوغست كروك، الحائز على جائزة نوبل لعام 1920 لاكتشافه آلية ضبط الشعيرات الدموية في العضلات، والذي تم تشخيص زوجته ومعاونته بداء السكري قُبيل زيارته. لم يدرك بانتينج ولا بست أهمية هذه الزيارات. كان ديل وكروك مفتونان بهذا الإنجاز الإكلينيكي الذي ينقذ حياة أطفال لولاه لحُكم عليهم بالموت.

في السادس والعشرين من شهر أكتوبر عام 1923، عاد بانتينج من مزرعة والديه في أليستون، حيث أمضى عطلة نهاية الأسبوع. علم في ذلك الصباح من خلال مكالمة هاتفية من صديق أن جائزة نوبل في علم الفيزيولوجيا أو الطب قد مُنحت له مناصفة مع ماكلاود لاكتشافهما الأنسولين. ثارت ثائرة بانتينج وأرسل برقية إلى بست، الذي كان يُلقي محاضرة أمام طلاب من جامعة هارفارد، ليخبره أنه سيتقاسم معه نصيبه من الجائزة. ومن جانبه، قام ماكلاود بفعل الشيء نفسه مع جيمس كوليب.

نزاعات حول الأولوية

لم ينتظر منافسو فريق تورونتو طويلا قبل أن يعبروا عن عدم رضاهم على اختيار الحائزين على الجائزة. وقد تعلق الأمر على وجه الخصوص بجورج تسولتسر ونيكولاس بوليسكو. صحيح أن لجنة نوبل كان من الممكن أن تمنح الجائزة لباحث ثالث، ولماذا لا يكون أوسكار مينكوفسكي الذي كان لا يزال على قيد الحياة آنذاك. كان يجب على اللجنة أن تقول: إن الجائزة قد مُنحت ليس فقط لاكتشاف الأنسولين، وإنما أيضا من أجل توظيفاته الإكلينيكية.

تركت هذه الأحداث بصماتها على فريق تورونتو نفسه. فقدَ بانتينج الاهتمام بالأنسولين وتحول إلى الأبحاث حول السرطان دون تحقيق أي نجاح في هذا المجال، قبل أن يُمنح، باعتباره بطلا كنديا، منصب مدير البحوث الطبية الحيوية داخل المجلس القومي للبحوث في كندا. ولقد قام في منصبه الجديد بلعب دور حاسم في وضع تقنيات جديدة، خاصة في مجال الطيران، ولكن أيضا في مجال الطب الحيوي في إطار الحرب البيولوجية التي كانت ألمانيا النازية تنوي خوضها إبّان الحرب العالمية الثانية. غير أنه وخلال زيارة كان من المقرر أن يقوم بها لهنري ديل وتشرشل، تحطمت الطائرة التي كان يسافر على متنها فوق جزيرة تيرنوف (Terre-Neuve) وذلك في الواحد والعشرين من فبراير عام 1941.

وإثر وفاة بانتينج، خلفه كوليب في منصبه. وسيلعب هذا الأخير دورا كبيرا في تطوير البحث في كندا من خلال إنشاء هياكل بحثية حقيقية. سيحظى كوليب أيضا بمسيرة علمية مرموقة لأننا ندين له بعزل هرمون الغدة الجار درقية، بالإضافة إلى الهرمون الموجّه لقشرة الكظر (ACTH) والهرمون المنبه للغدة الدرقية (TSH)، وهما هرمونان ينتجان في الغدة النخامية ويتدخلان من ناحية في الاستجابة للإجهاد، ومن ناحية أخرى في تنظيم عمل الغدة الدرقية. وندين له كذلك بعزل هرمون الأستروجين، والذي استُخدم طوال سنوات في العلاج البديل لانقطاع الطمث. وبعد أن شغل منصب رئيس جامعة ويسترن أونتاريو (Western Ontario)، سيتوفى كوليب عام 1965.

أمضى ماكلاود، الذي كان يعاني من المرض، آخر عمره في إسكتلندا وتُوفي بها عام 1935. أما بست، الأصغر من بينهم جميعا، فسيكون له أيضا نشاط علمي مهم لأننا ندين له باكتشاف اثنين من النواقل العصبية (الجزيئات التي تضمن الاتصال بين الخلايا العصبية)، الكولين (choline) والهيستامين (histamine)، وكذلك الإنزيم الذي يحلل الهيستامين (histaminase) ومضاد التخثّر، الهيبارين (héparine). توفي بست عام 1978 بعد أن حاز عدة جوائز، لكن نوبل لم تكن من بينها على الرغم من أن اسمه كان في السباق.

أنسولين بشري مصنّع

يظل الأنسولين العلاج الدوائي الأساسي لداء السكري، وخاصة السكري من النوع الأول. وقد قاد علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية إلى العديد من الابتكارات القائمة على هذا الجزيء. يتعلق أولى هذه الابتكارات باستبدال الأنسولين من أصل حيواني بجزيء الأنسولين البشري «المؤتلف»، أي الأنسولين الذي تنتجه البكتيريا. في الواقع، لقد تحقق هذا الإنجاز العظيم عام 1979، إذ نجح آرثر ريجز (Arthur Riggs) وكيشي إيتاكورا (Keiichi Itakura)، من المركز الطبي الأمريكي بمدينة هوب الواقعة في ولاية كاليفورنيا، بالتعاون مع شركة التكنولوجيا الحيوية جينيتيك (Genentech) التي أسسها للتو عالم البيولوجيا الجزيئية هربرت بوير (Herbert Boyer)، في إدخال جين الأنسولين البشري في البكتيريا وجعل هذه الأخيرة تنتج بروتين الأنسولين. سيتم ترخيص التكنولوجيا لصالح شركة إلي ليلي، وسيتم طرح الأنسولين البشري «المؤتلف» الذي تم الحصول عليه باعتماد هذه الطريقة في الأسواق انطلاقا من عام 1982. وستؤدي جهود صناعة الأدوية (إلي ليلي، صانوفي، نوفو نورديسك) لاحقا إلى الحصول على نظائر الأنسولين ذات الخصائص الدوائية الديناميكية أو الحركية الدوائية المحسَّنة (مفعول أسرع أو ممتد).

لعب الأنسولين دورا كبيرا في الدفع بالبحث العلمي الأساسي. لقد كان هذا الجزيء أول بروتين تتم بلورته - في عام 1926 من طرف جون إبيل (John Abel)؛ وأول بروتين يُعرف تسلسله - في عام 1955 بفضل فريدريك سانجر (Frederick Sanger) (أحد الأشخاص القلائل الذين حصلوا على جائزة نوبل مرتين، واحدة في عام 1958 لعمله على بنية البروتينات، وخاصة على الأنسولين، والأخرى عام 1980 لإسهاماته في تحديد تسلسل الحمض النووي)؛ وأول بروتين يتم تصنيعه (في 1963-1965)؛ وأول بروتين يتم قياسه في الدم عن طريق المقايسة المناعية الراديوية، من طرف سولومون برسون (Solomon Berson) وروزالين يالو (Rosalyn Yalow)، الحائزة على جائزة نوبل عام 1977 لتطويرها تقنية القياس هذه) ؛ وأول بروتين يتم تصنيعه اعتمادا على الحمض النووي المؤتلف كما هو مذكور سابقا. وعلاوة على ذلك، تم توصيف مستقبلات الأنسولين ودراستها على نطاق واسع منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين.

لقد أسهم الأنسولين بالتالي بشكل كبير في تقدم علم الأحياء وتطور علم الغدد الصماء. ويبقى هو العلاج الذي لا غنى عنه في مواجهة تزايد عدد حالات الإصابة بداء السكري في العالم. تتعلق أحدث التحسينات التي حُققت في هذا المجال بشروط إعطاء هذا الهرمون للمريض من خلال استعمال المضخات، أو باستخدام أنظمة متصلة خلال السنوات الأخيرة. وبفضل هذه الأنظمة، ينظم الجلوكوز بنفسه إفراز الأنسولين بواسطة مضخة، ومن هنا جاءت تسميته بـ «البنكرياس الاصطناعي». وماتزال إلى اليوم فرق بحثية عديدة تجري أبحاثا سريرية حول زراعة جزر لانغرهانس واستخدام الخلايا الجذعية. لا ريب أن الأنسولين يستحق تماما الاحتفال بالذكرى المئوية لاكتشافه!

وليام روستن - أخصائي في الغدد الصماء العصبية ومدير أبحاث بالمعهد الوطني للصحة والأبحاث الطبية بالعاصمة الفرنسية باريس.

بيير دوميتس - طبيب أخصائي في الغدد الصماء والكيمياء الحيوية، وأستاذ زائر بمعهد دوف، بروكسل (بلجيكا).

عن مجلة من أجل العلم، عدد 525

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على جائزة نوبل السکر فی الدم هذا الاکتشاف بداء السکری داء السکری الحصول على فی مختبر الذی کان قبل أن ی لقد کان من خلال کان من غیر أن فی هذا فی عام الذی ی لم یکن لم تکن

إقرأ أيضاً:

غذاء شائع يزيد من خطر السكري

شملت الدراسة أكثر من 200 ألف شخص على مدار 36 عاما، وأظهرت النتائج أن الحديد الهيمي الموجود في اللحوم الحمراء، مثل لحم البقر والكبد والضأن (يمتصه الجسم بكفاءة أعلى من الحديد النباتي)، قد يكون العامل الرئيس وراء زيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع 2.

وأوضحت الدراسة أن الأفراد الذين استهلكوا أكبر كمية من الحديد الهيمي كانوا أكثر عرضة للإصابة بمرض السكري من النوع 2 بنسبة 26%، مقارنة بالأشخاص الذين تناولوا كميات أقل من هذا النوع من الحديد.

كما بيّنت الدراسة أن الحديد الهيمي كان مسؤولا عن أكثر من نصف خطر الإصابة بالسكري المرتبط بتناول اللحوم الحمراء غير المصنعة.

وقال الدكتور فرانك هو، أستاذ التغذية وعلم الأوبئة في جامعة هارفارد: "تؤكد هذه الدراسة على أهمية اتخاذ خيارات غذائية صحية للوقاية من الأمراض المزمنة. تقليل استهلاك الحديد الهيمي، خصوصا من اللحوم الحمراء، يمكن أن يكون من أكثر الاستراتيجيات فعالية في تقليل خطر الإصابة بالسكري".

 وفي ضوء هذه النتائج، يشير العلماء إلى أن تقليل استهلاك اللحوم الحمراء واستبدالها بمصادر غذائية نباتية قد يساعد في تقليل المخاطر المرتبطة بمرض السكري.

مقالات مشابهة

  • صاروخ روسي وراء تحطم الطائرة الأذربيجانية.. ما الذي حدث؟
  • غذاء شائع يزيد من خطر السكري
  • مركز أربيل يحتضن مهرجاناً لسبعة أيام احتفالاً بأعياد الميلاد (صور)
  • فستان لافت.. نانسي عجرم تتألق احتفالا بالكريسماس
  • بشرى للمواطنين.. انخفاض أسعار الأنسولين المستورد بنسبة تصل إلى 35%
  • تعرف على أفضل 5 خضروات مفيدة لمرضى السكري
  • 5 خضروات سحرية تنقذ مرضى السكري
  • ياسمين علي تنتهي من تصوير أغنيتين احتفالا بالكريسماس
  • طلاق بشار الأسد وهروب زوجته حديث العالم.. و"الكرملين" يكشف ما وراء الكواليس (القصة كاملة)
  • عمرهما 2600 عام: اكتشاف مزارين تاريخيين في معبد مدينة نمرود