عربي21:
2025-03-31@07:09:43 GMT

الأفغاني في سجل عُثماني

تاريخ النشر: 28th, February 2025 GMT

رغم ثِقَل وزن الأدلة التي تكشَّفت إبَّان نصف القرن الماضي، والتي تصبُّ في توكيد الأصل الإيراني للسيد جمال الدين "الأفغاني"، ورغم إمكانيَّة تأويل تعاطيه مع هذا الأصل، وتعاطي مُعاصريه؛ تأويلا يُفسر مسيرته، وينزع القداسة الساذجة التي تتدثَّر بها الرؤية التآمرية، فإن هذه الأدلَّة لم تنل بعد شيئا من الدرس بين الباحثين العرب، ودع عنك الاستيعاب والهضم والتأويل(1).



وربما كانت أهم المصادر في تتبُّع أصل السيد هي وثائق الأرشيفات العثمانيَّة، التي بدأ نشرها مؤخرا، ووفِّقنا إلى الحصول على كم كبير منها؛ سننشره تباعا في تنوير للنشر والإعلام. بيد أن ثمة مصادر أخرى أيسر تناولا، وأقرب إلى الباحث؛ وهي كُتب التراجم العثمانيَّة الصادرة في ذلك العصر، والتي لفت رودريك ديفدسون انتباهنا إلى أحدها(2)؛ فتتبَّعناه وحصلنا عليه، وترجمناه عن العثمانيَّة، ووقفنا على ترجمة حسنة لمؤلفه؛ لنتمكَّن من إدراك الخلفيَّة التي ظهرت فيها هذه الترجمة، والعناصر التي أسهمت في صياغتها.

والمقصود هاهُنا هي ترجمة السيد جمال الدين المختصرة، والتي وردت في كتاب التراجم: "تذكرة مشاهير العثمانيين" المعروف بـ"سجل عثماني"، لمؤلفه محمد ثُريا (1845-1909م). وهو مكون من أربعة مجلدات في ثلاثة آلاف صفحة باللغة التركيَّة العثمانيَّة، طُبعت أول ثلاثة مجلدات منه في إسطنبول بين عامي 1890-1893م، والرابع دون تاريخ، وإن كان الراجح طباعته في 1897م (عام وفاة السيد).

وبحسب عبد القادر أوزغان، الذي اعتمدنا على ترجمته لمحمد ثُريا وتفصيله لمحتويات كتابه(3)؛ فقد ولد ثُريا لأبٍ خدم البيروقراطية العثمانية في مواطن شتَّى، قبل أن يصير الابن نفسه من موظفي هذه البيروقراطيَّة. وذلك بعد دراسته العربية والفارسية والفرنسية، ثم التحاقه بالباب العالي مُترجما، وقد ظلَّ يترقَّى حتى وصل إلى الرتبة الثانية. ويُرجع المتخصصون بداية ظهور هذه التراجم إلى نشرها مُسلسلة في جريدة: "الحوادث"، وهي أول جريدة عثمانيَّة خاصَّة؛ وذلك حتى عيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني في مجلس المعارف تقديرا لعمله هذا. والمؤكد أن مصادر هذه التراجم قد تنوَّعت بين وثائق الأرشيفات والمخطوطات والكتب المطبوعة وشواهد القبور.

بدأ ثُريا تدوين كتابه بتراجم رجالات الأتراك، وبعض أعلام المسلمين وأعيانهم على مدى التاريخ الإسلامي، رغم أن موضوع الكتاب الأساس هو تراجم رجالات العهد العثماني. وعليه، حوى الكتاب تراجم أعلام العثمانيين منذ نشأة الدولة، وحتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبا؛ حتى صار من أهم المصادر في بابه باحتوائه على ما يقرُب من عشرين ألف ترجمة.

وقد حوى المجلد الأخير، وهو مصدر ترجمة السيد جمال الدين التي نتناولها؛ قوائم لخانات القرم، وولاة المجر ومصر، وشيوخ الطرق الصوفيَّة، وسردا موجزا -بحسب الترتيب الأبجدي- لأهم تفاصيل حيوات الأعلام الذين وافاهم الأجل أثناء طباعة الكتاب، بالإضافة إلى هؤلاء الذين اشتهروا بأسماء أو ألقاب معينة أكثر من أسمائهم الحقيقيَّة.

ويرجح ديفدسون أن سبب عدم انتباه الدارسين إلى هذه الترجمة هو أن اسم جمال الدين الأفغاني لم يَرِد في موضعه من الترتيب الألفبائي للمجلَّدات الأربعة؛ إذ أن "سجل عثماني" لم يحو ترجمات لأي أحياء على الإطلاق. وإنما تظهر ترجمة السيد في ملحق المجلد الرابع، بين ثنايا: "الوفيات التي وقعت إبَّان إعداد الكتاب وطباعته"(4). وربما كان من المهم التذكرة بأنه رغم انتهاء طباعة الكتاب حوالي عام 1897م (الذي توفي فيه السيد)، فإن الكتاب لم يُتح آنذاك مباشرة؛ إذ أغلق السلطان المطبعة، وظلَّ الكتاب في مستودعاتها حتى خرج بعد خلع عبد الحميد (أي بعد 1909م). وعليه، ذاعت الترجمة التي نشرها جرجي زيدان في مجلة: "الهلال" -عام 1897م- ذيوعا أكبر، وذلك حتى أعاد نشرها دون تغيير تقريبا في كتابه المهم: "تراجم مشاهير الشرق".

وها هو نص ترجمة محمد ثُريا للسيد قدَّس الله روحه(5):

جمال الدين محمد أفندي. من أصل إيراني. كان من موظَّفي الحكومة الإيرانية، ثم انتقَلَ بعد ذلك إلى أفغانستان، ومنها إلى إسطنبول -عن طريق أوروبا- عام 1286 هـ ق [1869-1870م]. صار مُعلِّما في دار الفنون العثمانية، وأحد أعضاء مجلس المعارف العثماني. وانتقل بعد ذلك إلى أوروبا -مرَّة أخرى- وبعد ذلك استقرَّ في مصر لمدَّة طويلة. وقبل عدَّة سنوات، عاد إلى إسطنبول ثانية [حوالي 1892م]، وتوفي في الخامس من شوال عام 1314 هـ ق [9 آذار/ مارس 1897م] ودُفن في مقبرة الشيخ في نشانطاش [بحي بشكطاش]. كان يعرف اللغات الأجنبية، وله اطلاع واسع على العلوم الغربية. كان سياسيّا قحّا، واشتهر بلقب "الأفغاني"(6).

أصل الأفغاني وخلفيته ليست بسرٍّ مخز ولا هي بالمؤامرة الخبيثة التي يجب سبر أغوارها؛ فهو أمرٌ يُمكن حمله على وجوه كثيرة نحاول في كتاباتنا تبيُّن بعضها، بيد أن المهم هو أنه لن يُغيِّر شيئا عند المسلم الذي يعرف الرجال بالحق ولا يحاول تبيُّن الحق بالرجال
ورغم اقتضاب الترجمة، وعدم تناولها لأكثر تفاصيل حياة السيد؛ فإن أول ما يلفت الانتباه فيها أن الأصل الإيراني للسيد يُذكر بصورة عابرة، كأنه حقيقة بسيطة ثابتة لا تستحق التوقف ولا المناقشة. ويبدو أن هذا يعكس المتداول عنه في الأوساط العثمانيَّة الرسميَّة، التي كان محمد ثريا ينتمي إليها وإلى بيروقراطيتها. أما ثاني الأمور اللافتة؛ فهو أنه يُشير إلى اسم المقبرة التي دفن فيها السيد إشارة قاطعة تتجاوز التكهُّنات الكثيرة التي أحاطت بمدفنه. ويبدو لي تقرير ثُريا هذا أرجح من تخرُّصات غيره، بما أنه دوَّن كتابه في المدينة التي توفي فيها الأفغاني، ودبج الترجمة خلال عام وفاته أو العام التالي على أقصى تقدير، وأتاح له انتماؤه إلى البيروقراطيَّة معرفة مدفن السيد الذي حرص العثمانيون على تعميته. وكان ثالث ما لفت انتباهنا، والراجح أنه كذلك سبب من أسباب التعمية على هذه الترجمة القصيرة وعدم انتباه الباحثين لها؛ أن ثُريا يُضيف اسم "محمد"، رغم أنه ليس من الأسماء التي استعملها السيد، فيما يبدو أنها زلَّة من ثُريا أو خلطٌ غير مقصود.

وكما سبق منَّا القول، فإذا كان الاتفاق الضمني -بين أشباه الباحثين- على الحفاظ على مكانة محمد عبده في نسق الأفغاني مرجعه(7) خوفهم المَرَضي على مكانة السيد الفكريَّة والدعوية والحركية؛ أن ينالها كلامٌ عن جنسيته الأولى وأصل نشأته، أو خلفيَّته المذهبيَّة المبكرة، حتى إن كان الرجل قد تجاوَز هذه البدايات الضيقة حتما، كما يكشف نسقه الفكري-الحركي؛ فإن الدارِس المحقِّق(8) لا يستطيع أن ينفي الخلفيَّة الإماميَّة عن السيد كأنها تهمة، رغم أن اعتقاده -قدس الله روحه- الذي تجلَّى واضحا في فكره وحركته -طيلة حياته- قد تجاوز به المذاهب المشهورة تجاوزا لا ريب فيه، وهو نموذج يتكرَّر كثيرا في لحظات الإحياء المفصليَّة كافَّة، وتتجلَّى لنا أبرز أمثلته اليوم في مولانا الفيلسوف والعارِف بالله: سيد حسين نصر، متعه الله بالعافية.

إن أصل الأفغاني وخلفيته ليست بسرٍّ مخز ولا هي بالمؤامرة الخبيثة التي يجب سبر أغوارها؛ فهو أمرٌ يُمكن حمله على وجوه كثيرة نحاول في كتاباتنا تبيُّن بعضها، بيد أن المهم هو أنه لن يُغيِّر شيئا عند المسلم الذي يعرف الرجال بالحق ولا يحاول تبيُّن الحق بالرجال. ولن يحتاج هذا المسلم إلى تلمُّس سبعين عذرا ولا نصفهم ولا ربعهم للرجل، إن هو أحسن الفهم عنه وأدرك سمو نفسه وطبيعة رسالته، التي أفنى عمره المبارك فيها دون مكسب شخصي حقيقي. رحم الله السيد.
___________
(1) راجع مقالنا السابق على هذا الموقع: "جنسيَّة الأفغاني ومذهبه".
(2)Roderic H. Davidson (1988), Jamal al-Din Afghani; a note on his nationality and his burial, Middle Eastern Studies, 24:1, pp. 110-112.
(3)Abdülkadir Özcan, “MEHMED SÜREYY”, DİA, XXVIII, 527-529.
(4) كما عنون الملحق في المجلد الرابع، ص843وما بعدها من الأصل العثماني.
(5) محمد ثريا، سجل عثماني (إستانبول: مطبعة عامرة، 1316)، دردنجي جلد، ص850.
(6) كل الترجمات عن التركية الحديثة والعثمانيَّة إلى العربية، والتي استعنَّا بها في كتابة هذا المقال؛ هي من إنجاز الصديق الباحث والمترجم المُجِد كريم عبد المجيد فله الشكر على جهده. وكافَّة الإضافات التي بين معقوفين هكذا [...]؛ هي من عمل كاتب المقال زيادة في الإيضاح.
(7) راجع مقالنا على هذا الموقع: "الأفغاني مرة أخرى".
(8) راجع مقالنا على هذا الموقع: "ما قبل الأفغاني وما بعده".

x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأفغاني العثمانيين تاريخ جمال الدين الأفغاني كتب عثماني تاريخ جمال الدين الأفغاني الأفغاني مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جمال الدین محمد ث ة التی

إقرأ أيضاً:

كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟

عندما تقرِّر الأنظمة "الديمقراطية الحرّة" المكلّلة بالشعارات القيمية المجيدة أن تدعم سياسات جائرة أو وحشية تُمارَس بحقّ آخرين في مكان ما؛ فإنها تتخيّر تغليف مسلكها الشائن هذا قيميًا وأخلاقيًا إنْ عجزت عن توريته عن أنظار شعوبها والعالم.

هذا ما جرى على وجه التعيين مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أعلنت عواصم غربية مع بدء الحرب دعمها الاستباقي الصريح لحملة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ رغم نوايا قادة الاحتلال المعلنة لممارسة إبادة جماعية وتهجير قسري واقتراف جرائم حرب.

لم تتورّع بعض تلك العواصم عن تقديم إسناد سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي جادت به بسخاء على قيادة الاحتلال الفاشية في حربها تلك، المبثوثة مباشرة إلى العالم أجمع.

تبيّن في الشقّ الدعائي تحديدًا أنّ الخطابات الرسمية الغربية إيّاها اغترفت من مراوغات صريحة وإيحائية تصم الضحية الفلسطيني باللؤم وتحمله مسؤولية ما يُصبّ عليه من ألوان العذاب، وتصور المحتلّ المعتدي في رداء الحِملان وتستدر بكائية مديدة عليه تسوِّغ له ضمنًا الإتيان بموبقات العصر دون مساءلة أو تأنيب، وتوفير ذرائع نمطية لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن تراجعت وتيرة ذلك نسبيًا مع تدفقات الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروِّعة من الميدان الغزِّي.

إعلان

ليس خافيًا أنّ المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي تداولت مقولات نمطية محبوكة، موظّفة أساسًا لشرعنة الإبادة الجماعية ومن شأنها تسويغ كلّ الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها؛ قصفًا وقتلًا وتدميرًا وترويعًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا.

تبدو هذه المقولات، كما يتبيّن عند تمحيصها، مؤهّلة لتبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي مكان على ظهر الكوكب، لكنّ التقاليد الرسمية الغربية في هذا الشأن حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلّت تأتي بها لتغليف سياساتها ومواقفها الراعية للوحشية أو الداعمة لها.

من حِيَل التغليف الإنساني إظهار الانشغال المتواصل بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة مع الامتناع عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أيّ مسؤولية صريحة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتّبعها.

علاوة على إبداء حرص شكلي على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربّما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعدّ لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثل الحال التي ظهر فيها مسؤولون غربيون لدى إعلانهم في مارس/ آذار 2024 من قبرص عن مشروعهم الواعد المتمثِّل بالممرّ البحري إلى غزة، الذي تبيّن لاحقًا أنه كان فقاعة دعائية لا أكثر.

كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات تغليفًا مثاليًا لسياساتهم الداعمة في جوهرها لفظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد ابتغت من هذه الحيلة التنصّل من صورة الضلوع في جرائم حرب مشهودة، وإظهار رفعة أخلاقية مزيّفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ تلائم السردية القيمية التي تعتمدها أممهم بصفة مجرّدة عن الواقع أحيانًا.

إعلان

جرى ذلك خلال موسم الإبادة المديد في عواصم واقعة على جانبَي الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة. ثمّ خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بصفة "جو الإبادة" التي ظلّ في مقدِّمة رعاتها ولم يَقُم بكبْحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.

ثمّ برز دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.

تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يطيب له الحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.

قد لا يبدو لبعضهم أنّ ترامب يكترث بانتقاء مفرداته، رغم أنّه يحرص كلّ الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا لأجل ترهيب الأصدقاء قبل الأعداء وكي "يجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"!.

مع إدارة دونالد ترامب، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.

اختار ترامب خطاب القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء، ما عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدل التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب.

إعلان

إنّها قيادة جديدة للولايات المتحدة، قائدة القاطرة الغربية، تحرص كلّ الحرص على إظهار السطوة ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، مثلًا، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".

على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإنّ ترامب عَقَد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستجعل منه ريفيرا مجرّدة من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يقول!.

لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في فحواها المجرّد رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر أساسًا هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنّها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة.

ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي حرفيًا والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريباً مع الحلفاء المقرّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضمّ بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!

إعلان

أسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنّها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.

قد يكون العالم مدينًا لترامب بأنّه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية؛ يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.

أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين وأربكت خطاباتهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها.

يحاول عدد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، ما اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال في القتل الجماعي للمدنيين وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، واستهداف المخيمات في الضفة الغربية وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري؛ حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة داعمي الإبادة وتبريرها خلال عهد بايدن.

إعلان

لعلّ أحد الاختبارات التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن واشنطن، وهل يتعلّق الأمر بالحرص المعهود على التغليف الذي نزعه ترامب؛ أم أنّ ثمة فحوى جديدة حقًّا قابلة لأن تُحدث فارقًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟

من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية صارت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث مِن قبْل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • فاي هال.. ما قصة الأميركية التي أطلقت طالبان سراحها؟
  • تعرف على الدول التي تضم أكبر عدد من الأغنياء (إنفوغراف)
  • بعض الأسئلة التي تخص قادة الجيش
  • الدول العربية التي أعلنت غدًا الأحد أول أيام عيد الفطر 2025
  • الدول التي اعلنت غدا رمضان
  • تعرف على القنابل الخمسة التي تستخدمها إسرائيل في إبادة غزة
  • ليلة القدر التي ضاعت مني
  • ماذا قال ترامب عن المسيرات الإيرانية التي تستخدمها روسيا لضرب أوكرانيا؟
  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟
  • أنور براهم يعود بعد ثماني سنوات بألبوم "بعد السماء الأخيرة"