هبت ريح العصر فتساقطت أوراق بعض الأشجار كأنها تستعجل بواكير الخريف في حين مازال ربيع أربانا تشامبين يلقي بزمهريره العذب، هي مدينة وجامعة في آن واحد فمباني الجامعة مختلطة بالسكن والحياة بمساحة تصل إلى 25 كيلو مترا مربعا، أشق طريقي مفكرا كيف سيكون اجتماع اليوم في قسم الفيزياء مع البروفيسور وعالم الفيزياء الذرية وتقنية النانو منير نايفه والذي انتقل إلى هذه الجامعة منذ عام 1979م.
تأملت وأنا أمشي في جامعة إلينوي بعض السناجب التي تقفز بين أغصان الأشجار المطلة على جانبي الشارع ليقطعها صوت الحافلة المتجه الى قلب الميدان الرئيسي بالجامعة حيث تمثال Alama Matter المبني عام 1922 وهو يمثل شخصية أم ترتدي رداء أكاديميا وتحيط بها شخصيتان تمثلان شعار الجامعة العتيق «التعلم والعمل»
العمل الذي يحول المعرفة النظرية إلى تقنية أو تكنولوجيا كالتغير الذي حول فكرة آينشتاين العالم الألماني في بداية القرن العشرين إلى حقيقة في هيروشيما و التي تؤكد بطريقة رياضية أن الكتلة الصماء تحوي طاقة هائلة والعكس بالعكس وما علينا إلا معرفة كيف نحول المادة إلى طاقة؟ إذ حسب هذا القانون فإن التحكم في الذرة أو فلقها قد يؤدي إلى فك ارتباط مكوناتها ولا يتم ذلك إلا من خلال تقسيم أو شطر أهم جزء في الذرة ألا وهي النواة.
قبل أن تسترد عيناي هدوءها بعد اندهاشها من مستوى تنسيق الحركة داخل هذه المدينة الجامعة إذ بي أرى طلابا حالمين من شتى أصقاع الأرض يسعون بحثا عن العلم والمعرفة وهذا ذكرني بتلك الحالمة العالمة ماري كوري وزوجها بيتر فقبل حديث آينشتاين الذي ذكرناه بسبع سنوات أي عام 1898 اكتشفت عنصري الراديوم والبولونيوم المسمى على اسم بلدها بولندا الأصلي. ماري قامت بأبحاث حول الانحلال الإشعاعي أهلتها للفوز بجائزة نوبل عام 1911م. يجب هنا أن نوضح أن العناصر غير المستقرة هي تلك التي تكون أنويتها -جمع نواة- غير مستقرة واستقرارها يعود إلى تناسق عدد مكوناتها من البروتونات والنيوترونات والتي اكتشفها شادويك لاحقاً عام 1932م.
قوى مشعةهنا استوقفني إعلان على جدار الإعلانات يشجع الطلبة والباحثين للإفادة من توفر حواضن للابتكاراتهم والتي تتيح الانتقال من المعمل إلى العمل التجاري المصغر تحت دعم الجامعة، وهذا بالفعل يفسر شعار الجامعة المماثل لشعار عالم فذ ألا وهو رذرفورد الحائز على نوبل عام 1908 والذي أعلن في صيف 1903 جامعة ماكجيل في مونتريال مع زميلة سودي عن اكتشافه لعنصر الرادون وهو عنصر على شكل غاز مشع -أكثر عنصر طبيعي مشع توفرا- وهذا الاكتشاف جاء بعد سلسلة من التجارب حول عنصر الثوريوم المشع والذي يتغير إشعاعه بتغير حركة الهواء ليكتشف أن وضعه داخل الماء ينتج فقاعات غاز فقام بدراسات منفصلة للماء الملوث بهذا الغاز ليكتشف أن هناك سلسلة تفاعل أي أن العنصر المشع ينتج آخر وهذا العنصر الأخر أيضا مشع ويصاحب كل انحلال خروج طاقة ويمكن تلخيص ما يحدث أثناء التحلل الإشعاعي بأنه عادة ما تنبعث من النواة غير المستقرة جسيمات ألفا، والإلكترونات أو بيتا ، وأشعة جاما ففي الانشطار النووي تنقسم النواة غير المستقرة إلى شظايا ، والتي هي نفسها نوى مشعة، جنبًا إلى جنب مع جسيمات مثل النيوترونات والبروتونات. عادة ما تكون النوى غير المستقرة الناتجة أو الشظايا النووية في حالة شديدة الإثارة ثم تصل إلى حالتها الأرضية منخفضة الطاقة عن طريق إصدار واحد أو أكثر من أشعة جاما.
طاقة كامنة
هذا الحديث استرسل في الذهن وخصوصا عندما نعلم أن الولايات المتحدة حولت فكرة آينشتاين وتحليلات رذرفورد ونيلز بور و موسلي وغيرهم من العلماء إلى واقع من خلال القنبلتين النوويتين الأشهر في العالم والتي كانتا نتاجا لمشروع مانهاتن بقيادة العالم الأمريكي من أصل ألماني أوبنهايمر..
لعل الطبيعة الرائعة في سكينة الحدائق التي تلف المختبرات العلمية لا تشفع أمام عطش الإنسان المعرفي الذي قد يتحول إلى أداة قد تستخدم لضرر الإنسان وبيئته.. هذا الحس الصوري بين الحرب والسلام في عقل الإنسان ذكرني أن الطاقة الكامنة الوادعة داخل تلكم النواة الصغيرة على شكل مادة لاصقة -طاقة الربط النووي- بين مكونات النواة من الممكن أن تتحول إلى طاقة جبارة تهلك الحرث والنسل.
في هذه اللحظة أدركت أنني أدلف إلى الطابق الرابع في مبنى قسم الفيزياء الذي يسمى مختبر لومس Loomis Laboratory نسبة للعالم ويلر لومس الذي أنتخب لرئاسة الجمعية الفيزيائية الأمريكية وعضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم عام 1949 وقد أسهم كرئيس مشارك لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – من كبريات الجامعات الأمريكية- في مختبر الإشعاع خلال الحرب العالمية الثانية والذي اكتشف نظائر الكربون والأكسحين وغيرها وتعد معظم النظائر مستقرة، أما بعضها فيكون في حالة عدم استقرار كاليورانيوم والثوريوم وغيرها بحيث تتفكك نواتها أو تنحل كما ذكرنا، وبالتالي تطلق طاقة في شكل إشعاع تسمى هذه الظاهرة الفيزيائية النشاط الإشعاعي متسلسل.
وبشكل مجمل فمع الانشطار النووي كذلك هناك اندماج نووي كلاهما ينتجان طاقة هائلة ، تستخدم هاتان العمليتان النوويتان طاقة الربط النووية في نواة الذرات لإطلاق كمية هائلة من الطاقة.
الفرق الرئيسي هو أن الانشطار هو انقسام نواة ثقيلة وغير مستقرة إلى نواتين أصغر فمثلا يتم شطر اليورانيوم 235 كنواة مستهدفة من خلال تسريع النيوترون لتقسيم الذرة إلى نظيرين أصغر تسمى نواتج الانشطار بالإضافة إلى ثلاثة نيوترونات أخرى مما يطلق كمية كبيرة من الطاقة. تكون النيوترونات التي يتم إطلاقها مزيدا من التفاعلات الانشطارية التي تواصل العملية مع ذرات اليورانيوم 235 الأخرى وهذا المبدأ التي تقوم عليه المفاعلات النووية وكذلك فكرة القنبلة النووية الانشطارية مع وجود فروقات جوهرية.
بينما تتضمن تفاعلات الاندماج دمج نواتين خفيفتين معا أو اكثر. الاندماج النووي يحتاج لحرارة عالية جدا تقارب حرارة مركز النجوم لذلك تعد النجوم مثالا حيا لعمليات الإندماج النووي، عادة ما يعرض نظائر الهيدروجين الثنائي والثلاثي الخفيفة الذي يمكن استخراجه من مياه البحر و للحرارة العالية والضغط ، بحيث تُجبر الإلكترونات على الابتعاد عن ذرات الديوتيريوم لتكوين بلازما.
هذا البلازما عبارة عن غاز مؤين شديد التسخين يحتاج إلى احتوائه بواسطة حقول مغناطيسية قوية حيث يمكن أن تصل درجات حرارة تصل إلى مائة مليون درجة مئوية أو أكثر. درجات الحرارة هذه هي عشرة أضعاف تلك الموجودة في قلب الشمس ، ولكنها ضرورية للعملية. يحدث الاندماج عندما يتحد نظيران منخفضا الكتلة في ظل ظروف حرارة وضغط شديدين. يحدث هذا عادةً مع نظائر الهيدروجين التريتيوم (هيدروجين -3) والديوتيريوم (هيدروجين -2) ، والتي تتحد لتكوين نظير الهيليوم ونيوترون إضافي واحد. يطلق هذا الاندماج للنظائر عدة أضعاف الطاقة التي تطلقها عملية الانشطار ، دون إنتاج منتجات ثانوية مشعة على المدى الطويل. تتصادم جزيئات البلازما النشطة وتسخن لأن أنظمة التسخين الإضافية تزيد درجة الحرارة إلى المستويات المطلوبة للانصهار (150-300 مليون درجة مئوية). تسمح هذه الظروف للجسيمات عالية الطاقة بالتغلب على التنافر الكهرومغناطيسي الطبيعي أثناء تصادمها ودمجها معا لإطلاق كميات هائلة من الطاقة.
بدأت بالبحث عن مكتب البروفيسور نايفة وأنا أفكر جديا كيف بدا الدكتور الفلسطيني الأصل هذا التكوين العلمي العالمي المميز وتذكرت أني قرأت أنه بين عامي 1974 و1977 عمل كزميل ما بعد الدكتوراه وباحث في مختبر أوك ريدج الوطني بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة ستانفورد العريقة عام 1974.
في هذا المختبر كان استخدام التقنية النووية مهما في الأبحاث التي أجراها البروفيسور نايفة في دراسة طيف ذرة الهيدروجين وكلمة طيف تعني الأشعة التي تخرجها الذرة عند إثارتها حيث استطاع استخدام تقنية دقيقة سمحت برؤية تفاصيل ما يحدث لمستويات ذرة الهيدروجين عند اصطدامها بحزمتين متعاكستين من أشعة الليزر والتي تعد حديثه جدا في وقتها.
الوجه البريء
وهنا يتضح أن هناك جوانب سلمية متعددة للطاقة الذرية فالمفاعلات النووية التي تنتج الكهرباء بأنواعها تعد خيارا مهما لكثير من الدول فمثلاً فحسب إحصاءات الطاقة الرسمية من إدارة معلومات الطاقة بحكومة الولايات المتحدة فمتوسط اعتماد الدول النووية على الطاقة النووية لتوليد احتياجاتها من الكهرباء هو 14٪، في حين بلغت تلك النسبة 74% في فرنسا وحدها. وأصبحت الاستخدامات السلمية للطاقة النووية مميزة في جوانب حياتية مهمة كالطب والصحة العامة والزراعة والأمن الغذائي وإدارة موارد المياه والطاقة المستدامة والبيئة وغيرها.
وعند نهاية الممر وصلت لأستاذ الذرة و النانو تكنولوجي الذي وجدته شاب في العلم والاجتهاد والتركيز حتى وإن ألقى الزمن بعض تفاصيله على جسده، فقابلني بما يليق به ثم كان حديثا متفرعاً لعلي أتحدت معكم به في المقال القادم حول تقنية شهيرة أخرى ألا وهي تقنية النانو ومجالاتها المميزة.
د. ماجد بن سالم الرقيشي
أستاذ الفيزياء المساعد ورئيس شعبة الفيزياء بجامعة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
في ذكرى ميلادها.. قصة اغتيال عالمة الذرة المصرية سميرة موسى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
سميرة موسى عالمة مصرية ولدت في 3 مارس 1917 بمحافظة الغربية، لتصبح فيما بعد أول معيدة في كلية العلوم بجامعة القاهرة، وكان نبوغها استثنائيًا، فقد حصلت على الدكتوراه في الأشعة السينية وتأثيرها على المواد المختلفة من بريطانيا في زمن قياسي، حيث أنهت رسالتها خلال عامين فقط، بينما قضت عامها الثالث في أبحاث نووية متقدمة توصلت خلالها إلى معادلات علمية خطيرة كان من شأنها تغيير موازين القوى النووية عالميً.
وذاع صيتها بسرعة، وأصبح اسمها متداولًا في الأوساط العلمية، ما جعل الولايات المتحدة توجه لها دعوة رسمية لاستكمال أبحاثها هناك عام 1951، وسافرت بالفعل إلى أمريكا، حيث أجرت أبحاثًا في معامل جامعة سان لويس، وعرضت عليها الجنسية الأمريكية والإقامة الدائمة، لكنها رفضت بشدة، مؤكدة أن علمها يجب أن يخدم وطنها مصر والعالم العربي.
قبل أيام قليلة من موعد عودتها إلى مصر، استجابت لدعوة زيارة مفاعل نووي في ضواحي كاليفورنيا يوم 15 أغسطس 1952، لكن تلك الرحلة لم تكتمل، فالحادث الذي أودى بحياتها كان محاطًا بالغموض منذ اللحظة الأولى فلم يتم العثور على السائق المرافق لها، والذي تبين لاحقًا أنه كان يستخدم اسمًا مستعارًا، وإدارة المفاعل الذي كان من المفترض أن تزوره نفت تمامًا أنها أرسلت أحدًا لاصطحابها.
وأغلق تحقيقات الحادث بسرعة، وقيدت القضية ضد مجهول، دون الكشف عن أي تفاصيل إضافية، وفي ظل التوترات السياسية في ذلك الوقت، تردد أن الموساد الإسرائيلي يقف خلف اغتيال سميرة موسى، خوفًا من محاولتها نقل المعرفة النووية إلى مصر والعالم العربي، فقد كانت تؤمن بشدة بأن العلم لا يجب أن يكون حكرًا على قوى بعينها، وكان حلمها الأكبر هو تطوير مشروع نووي يخدم بلادها.
ورغم التقارير التي لمحت إلى تورط جهات استخباراتية، لم يتم إثبات أي شيء رسميًا حتى اليوم، وظلت القضية لغزًا بلا أدلة، وسجلت ضد مجهول، ليظل اغتيال سميرة موسى واحدًا من أكبر الألغاز العلمية والسياسية في القرن العشرين، وكان يمكن اعتبار ما حدث مجرد حادث سير مأساوي، لولا تفصيلة واحدة قلبت الأمور رأسًا على عقب فالسائق الذي كان برفقتها قفز من السيارة قبل الاصطدام بثواني واختفى للأبد.