المثقف العربي.. التزام أم إبداع؟
تاريخ النشر: 23rd, August 2023 GMT
المثقف العربي.. التزام أم إبداع؟
هل يتعين على الكاتب أن يكون حاملاً لتطلعات وقضايا مجتمعه أم يكفيه تحقيق متطلبات الإبداع بغض النظر عن مضامين كتاباته؟
لم يعد لمفهوم الالتزام في الثقافة والأدب معنى، إذ من البديهي أن الكاتب يفكر دوماً في مجتمعه ويحمل هموم عصره، لكنه ليس داعيةً ولا محارباً.
الأدب أكثر قدرةً على الكشف عن الشخصية الحضارية للمجتمعات والأمم من الأعمال النظرية في كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية.
«المثقف العضوي» هو الناطق باسم مصالح وتطلعات طبقته الاجتماعية وحزبه السياسي بيد أن هذا النموذج من المثقفين انحسر في العقود الأخيرة.
ظهر نمط أطلق عليه ميشال فوكو تسميةَ «المثقف الخصوصي» الذي يؤرّخ للحاضر ويفكر في عصره بدون أوهام قراءة المستقبل والتغيير الاجتماعي الجذري.
شُغلت الساحة الثقافية العربية بسؤالين محوريين: "سؤال العالمية" المتعلق بشروط وصول الأدب العربي إلى دائرة المنافسة العليا في الثقافة الكونية، و"سؤال الالتزام".
* * *
في نهاية أغسطس 2006، أي قبل سبعة عشرة عاماً من الآن، رحل عن عالمنا الأديبُ الروائي الشهير نجيب محفوظ الذي كان وما يزال الأديب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل.
مَن منا لم يتعلَّم تاريخ مصر وعالمها الثقافي والاجتماعي من روايات نجيب محفوظ التي سلطت أضواء الشهرة على حارات وأحياء القاهرة القديمة، وجسدت بكل قوة الروحَ المصرية العريقة؟
ولا تختلف روايات الكاتب السوداني الراحل الطيب صالح عن هذا المنحى، فهو الذي كشف عن عالم القرية السودانية الساحر من خلال شخصيات مصطفى سعيد وود الريس والزين.. إلخ.
لا أحد يجهل شعر أبي القاسم الشابي الذي جسَّد الشخصية التونسية، وقد خلّدت كلماتُ إحدى قصائده الشهيرة في النشيد الوطني التونسي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة...فلا بد أن يستجيب القدر..
في جل بلداننا العربية لدينا مثل هذه الشخصيات الأدبية، مثل بدر شاكر السياب في العراق، ومحمود درويش في فلسطين، وإبراهيم الكوني في ليبيا، وأحمدو ولد عبد القادر في موريتانيا.. إلخ.
كل هذه الأمثلة تدل على أن الأدب أكثر قدرةً على الكشف عن الشخصية الحضارية للمجتمعات والأمم من الأعمال النظرية من كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية.
ذكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أنه عندما قرأ في شبابه رواية توفيق الحكيم «عودة الروح» أثّرت فيه بقوة، إلى حد أنه تقمص شخصية البطل الموعود الذي سيحرر البلاد وينصف الفقراء والمظلومين، وكان هذا من أسباب حركة 23 يوليو 1952.
ما تعلمناه من أدب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ عن المجتمع المصري وثقافته أكثر فاعلية وتأثيراً من كتابات المفكرين من أمثال عالم الجغرافيا والاجتماع جمال حمدان الذي كتب أربعة مجلدات رصينة وموسوعية عن شخصية مصر.
وحتى المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي اعتَبرَ أن كتبه العميقة في تاريخ المغرب والوطنية المغربية تحتاج إلى أن تنقل إلى عالم الإبداع والخيال الروائي، فكتب روايات «اليتيم» و«الغربة» و«غيلة».. إلخ، وسلك مسلكَه المؤرخ البارز أحمد التوفيق في رواياته التي تركزت حول الشخصيات الصوفية في المجتمع التقليدي المغربي.
منذ ثمانينيات القرن الماضي شُغلت الساحة الثقافية العربية بسؤالين محوريين: سؤال العالمية المتعلق بشروط وصول الأدب العربي إلى دائرة المنافسة العليا في الحقل الثقافي الكوني، وسؤال الالتزام، أي هل يتعين على الكاتب أن يكون حاملاً لتطلعات وقضايا مجتمعه أم يكفيه تحقيق متطلبات الإبداع بغض النظر عن مضامين كتاباته؟
السؤال الأول حُسم عملياً، بعد أن ظهر أن الطريق إلى العالمية يمر بالمحلية، فالكاتب الناجح هو الذي يقدم أجواءَ مجتمعه الخاص إلى القارئ وفق شروط ومقتضيات الإبداع الرفيع، كما هو شأن أدب نجيب محفوظ في رواية الحارة والطيب صالح في أدب القرية وإبراهيم الكوني في رواية الصحراء.. وقد حصل مؤخراً الكاتب التانزاني من أصول عربية «عبد الرزاق قرنح» على جائزة نوبل عن رواياته الموغلة في المحلية حول مجتمع زنجبار التقليدي.
أما الإشكال الثاني فله خلفياته الأيديولوجية المعروفة التي برزت مع رواية التنوير في القرن الثامن عشر وأدب الواقعية الاشتراكية والوجودية السارترية في القرن العشرين. وفق هذا التصور، لا بد أن يكون الأدب في خدمة القضايا الإنسانية والاجتماعية العادلة، ولا بد للمثقف أن يكون «حارس المعبد» ودليل الوعي في النضالات اليومية التي يخوضها الجمهور.
لقد أطلق الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي على مثل هذا الصنف من المثقفين «المثقف العضوي»، وهو الناطق باسم مصالح وتطلعات طبقته الاجتماعية وحزبه السياسي. بيد أن هذا النموذج من المثقفين انحسر في العقود الأخيرة، وظهر نمط آخر أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو تسميةَ «المثقف الخصوصي» الذي يؤرّخ للحاضر ويفكر في عصره دون أن تكون له أوهام قراءة المستقبل والتغيير الاجتماعي الجذري.
عندما توفي في أغسطس 2008 الشاعر الفلسطيني محمود درويش، كتبتُ في تأبينه أنه لم يكن «شاعر القبيلة»، وقد كنتُ أعني أن الأبعاد الإنسانية والجمالية في شعره تخرجه من ضيق الأدب الدعائي والنضالي الذي لا يختلف في نهاية المطاف عن المنشورات التعبوية والخطب السياسية الممجوجة.
وحاصل الأمر أنه لم يعد لمفهوم الالتزام في الثقافة والأدب معنى، إذ من البديهي أن الكاتب يفكر دوماً في مجتمعه ويحمل هموم عصره، لكنه ليس داعيةً ولا محارباً.
*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني
المصدر | الاتحادالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الإبداع الالتزام الأدب سؤال العالمية سؤال الالتزام أن یکون
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. مطالبي جدّاً صغيرة
مطالبي جدّاً صغيرة
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ … 18 / 8 / 2018
لماذا لا تنقسم الكائنات مثلنا بين معارضة وموالاة؟.. لماذا لا تلبس العصافير الريش العسكري المموّج مدعية الوطنية؟.. لماذا لا تضع الأرانب صورة الزعيم في غرف نومها؟.. وكيف تتجرّأ الخراف أن تطأ الصفحة الأولى من جريدة يومية قذفتها الريح إلى السهول القاحلة؟.. باختصار لأنها لا تؤمن بدساتير التأليه كلها، ولا تصنع من “تجشؤ” الزعيم حكمة وحكاية وبعد نظر، وبالتالي هي لا ترتجي أن يوضع “الدولار” في قائمة طعامها اليومي، ولا تخاف أن يوضع “إصبع ديناميت” تحت مقعدها في طريق العودة.. لذا هي لا تؤمن بكلام الثرثرات وضجيج العبيد في قباء القصور، هي تنصت لشفتي الأرض والسماء كيف تنطقان التاريخ بشكل صحيح.
مقالات ذات صلة وفاة ثمانينية في البشير إثر حريق دار المسنين 2024/12/14أنظر أحياناً إلى نفسي الجوانية فأكتشف كم أنا مبتلى بإنسانيتي، ترى لم عليّ أن أحتمل كل هذا الوجع والاحتفاظ بألواح الأحلام المكسورة لأصنع منها طوّافة حياة، لم عليّ أن أعيد رفو مفهومي للوطن كالقميص الممزّق.. وأنا الحالم بأقل الممكن كأي كائن حي كُتب له أن يولد أو يفقس من بيض القهر على هذه الأرض.
أريد أن أرى وطني رقماً صعباً في طاولات الأمم، كرسيه محط أنظار، ورايته رسالة رعب، فقد مللنا العتبات ودور “بائع العلكة”.. أريد لوطني أن يمزّق كل الرسائل المشبوهة ويعيد كل المغلفات المذلّة والزكوات الدولية
بالمناسبة أنا مطالبي جدّاً صغيرة، أمنيتي أن أصبح كأي عصفور بلا ملفّ أمني، لا أحد يطلبني، ولا أحد يتبعني، ولا أحد يرصد كلامي أو توقيت منامي، الشمس وحدها من يحق لها أن ترشّ على وجهي رذاذ الضوء لتوقظني، فأزقزق ملء رئتي للحرية، الزقزقة هي نشيدي الوطني وهي تسابيحي الطوعية لسيد الكون.. أطلقها لا تملقاً ولا خوفاً ولا التزاماً في طابور العبودية الصباحي.. أزقزق لأني هبة الله للمكان وأمارس “عصفوريتي”!.
مطالبي جدّاً صغيرة.. أريد لهذا الوطن أن يصبح وطناً لا فندقاً للأغنياء، من يملك يعيش، ومن لا يملك عليه الإخلاء قبل الساعة الثانية عشرة، لا أريد فكرة “القرصان والسيد” في وطني.. لا أريد أن يبقى الطاهي المنسي في الطابق السفلي يحضّر طوال النهار وردة من شوكولاتة ليأكلها السيد في الطابق العلوي بدقيقة واحدة، أريده أن يتذوقها هو قبل غيره، أريده وطناً كبيراً ككل شيء.. لا أريد أن أرى الرصيف مزدحم بالجالسين، أريده أن يمتلأ بالمارين إلى أعمالهم أو إلى بيوتهم، أريد الأيادي تمتد لتعطي، لا تمتدّ لتتسوّل، أريد الشاحنات البطيئة تحمل بضائع المصانع في الصباح الباكر وتئن من ثقل الإنتاج، أريد الحقول أن تدخّن نتاجها من مداخن الجرّارات.
أريد وطناً يشبه تلك الأوطان التي أراها في “ناشيونال” جيوغرافيك، أوطان كبيرة وممتلئة وقوية، تغرق الأسواق إن هي صدّرت، وتربك الأسواق إن هي توقّفت.. أريد أن أرى المهندسين في وطني يشرحون لمذيع الناشيونال جيوغرافيك كيف استطاعوا بناء ناطحة سحاب في أسبوع وكيف تحمل الرافعات العملاقة جسوراً حديدة ثقيلة تكسر عين الشمس عندما تدور شمالاً وجنوباً.. أريد أن أرى وطني رقماً صعباً في طاولات الأمم، كرسيه محط أنظار، ورايته رسالة رعب، فقد مللنا العتبات ودور “بائع العلكة”.. أريد لوطني أن يمزّق كل الرسائل المشبوهة ويعيد كل المغلفات المذلّة والزكوات الدولية.. ويحمل فأسه إلى أرضه ويبدأ رحلة البحث عن الكرامة والحفر على الحياة.
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#166يوما
#الحرية_لاحمد_حسن_الزعبي
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي